انحباس المطر
فهد عبدالله الصالح
إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليما كثيرًا... أما بعد:
عباد الله: الزموا تقوى الله عز وجل فهي وصيته إليكم قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102] ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].
أيها المؤمنون: إن ربكم كريم لا تحصى نعماؤه ولا تعد آلاؤه ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 18] وإن من أجلها وأجزلها وأعظمها نعمة الماء، ذلك الخلق العجيب ذو البناء الغريب، إذا هتنت به السماء ضحكت له الأرض، وهشت له الخلائق وتراكضت به الجداول وامتدت في جنباته الخمائل، وقذفت الأرض بخيراتها، فنعم الإنسان ورخصت الأسعار، وشبع الحيوان وغردت الطيور﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ﴾ [ق: 9 - 11] وفي آية أخرى ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ﴾ [الزمر: 21] فمع الماء تكون الخضرة والحياة ويكون الظل والنقاء، مع الماء تزدهر البساتين ويبرد النسيم ويعبق الشذى وتخضر الأوراق وتطيب الثمار وترتوي الأكباد، الماء إكسير الحياة وسر البناء ومادة الوجود، فما أعظم الله وما أجوده، ألم تروا أن الله عذب أقواما بحبسه عنهم! وإذا أمسكت الماء قطرها أجدبت الأرض وهلك نبتها، وخمدت أصوات الطيور والتهبت أكباد البهائم ظمأً، إذا توقفت الماء وهبت رياح القحط ذوت الأشجار وذابت الأكباد، وإذا توقف الماء بأمر ربه فغر الهلاك فاه وابتلع الأنفس والثمرات وعصف الدمار بالمحاصيل والفواكه ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ﴾ [الملك: 30] فحبسه من أعظم المصائب وطغيانه عقوبة واستئصال وإذا كان بقدر فهو الرحمة المنشودة ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [الشورى: 28] فإذا لفح الجدب قوما شعروا بمرارة الحرمان وعلم أهل البصائر فيهم أنهم إنما أتوا من أنفسهم وان أحاطت بهم خطاياهم ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].
أيها المسلمون: مضت سنة الله عز وجل أن يذيق عباده العصاة بعض بأسه لعلهم يرجعون ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 42، 43] فما وقعت مصيبة إلا بذنب ولا رفعت إلا بتوبة.
أيها المصلون: تفكروا ما بال سمائنا أمسكت قطرها؟ وما لأرضنا لا تخرج زرعها؟ لماذا يتصايح العالم اليوم من مشكلة المياه ولماذا تهب الدول لحماية مياهها كما تقوم بحماية حدودها؟ لماذا يهدر الجوع قارات بأكملها، ألا ترون أن السحب تتجمع في سمائنا فتشرئب إليها أعناق الخلائق، ثم تتفرق دون أن تنزل قطرة ماء، إنها الخطايا والذنوب، إنها الأنفس الآسنة والقلوب الميتة لا تتعظ ولا تتذكر ولا تشكر إذا غمرتها النعم، ولا تتذكر إذا تتابعت عليها المصائب والنغم، وقد تكون الأمة متلبسة ببعض المعاصي ولكن إذا مسهم القحط ولفحهم سموم الجدب تابوا ورجعوا وخافوا وأقلعوا فأولئك فيهم بقية خير ولكن الخوف كل الخوف لو غارت المياه وجفت الآبار واصفرت المواشي فلا يرجعون ولا يتذكرون ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 43] إن التوبة النصوحة والاستسقاء الحق هو نزوع القلب والجوارح عن المعاصي، والندم على ما سلف منها، إن طلب الغيث لا يأتي بالدعوات التي تخرج من قلوب عابثة لاهية، عن عمر بن عامر البجلي قال (أوحي الله إلى نبي من الأنبياء أن مر قومك لا يناجوني والآثام في أجفانهم ليلقوها ثم ليرفعوا إلي حاجاتهم)، ولقد عرف سلف هذه الأمة سر إنزال المطر وعلموا أن أبواب السماء لا تفتح إلا لدعوات الصالحين الصادقين ذوي القلوب الحية والأيدي الطاهرة فكانوا يقدمون أبرهم واتقاهم للاستسقاء، عن سليم بن عامر قال (خرج معاوية يستسقي فلما قعد على المنبر قال: أين يزيد بن الأسود؟ فناداه الناس، فأقبل يتخطاهم فأمره معاوية فصعد المنبر فقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا يزيد بن السود يا يزيد ارفع يديك إلى الله، فرفع يزيد يديه ورفع الناس فما كان بأوشك من أن تأتي سحابة كالترس وهبت ريح فسقينا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم).
نعم أيها المصلون إن طلب الغوث يتطلب مراجعة كاملة يقوم بها الفرد وتقوم بها الأمة إنه يتطلب إقراراً بالذنب وانكسار للجبار ورجوعاً للحق، إن القحط يكشف عن الأبصار غشاوتها وعن القلوب عمايتها عندئذ يشعر الخلق بالفقر للخالق ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15] إن الجدب قد يكون نعمة إذا ذكر بالله وذكر بالحاجة إليه ورجع الناس إلى خالقهم فالقحط درس بليغ وخير للناس أن يعوه...
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ♦♦♦ ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
وهو بلاء وكرب وموت بطيء إذا لم يسرع الناس إلى التوبة النصوح إذا لم يؤوبوا إلى خالقهم ﴿ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ﴾ [الملك: 21] وإن من العبث أن يوغل أهل القلوب المطموسة في غيهم بالبحث عن أسباب البلاء في الماديات وينسون الذي خلق هذه الماديات وأجرى فيها أحكامه، ويذوقون الكرب والشدة فيلتمسون كشفها عند غير الله والعياذ بالله ﴿ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 64].
وبعد أيها المسلمون: فمهما عظمت الذنوب فإن باب التوبة مفتوح ومهما كان الإسراف فإن القنوط من رحمة الله ممنوع ويبقى الرجوع إلى الله ودعاؤه بكشف الضر ورفع المعاناة ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60].
الخطبة الثانية
إنه في تطور العلم ووسائله، فما أوتي الناس منه إلا قليل، فلم يستطع البشر ولن يستطيعوا أن ينزلوا الغيث من السماء أو أن يسوقوه إلى مكان آخر، فكل ذلك بقدر الله وإرادته كما قال تعالى.
ومع كثرة وتنوع مصادر المياه سواء من جوف الأرض أو من يحمله البحر إلا أن مياه الأمطار هي الأساس للحياة فلا بديل عنها، كما أنه لا بديل عن وسائل إنزال المطر من السماء كما ذكر ذلك في كتاب الله من دعاء الله والإقبال عليه وكثرة الاستغفار وترك الذنوب والمنكرات.
إنه في تطور العلم ووسائله أيضاً - أيها المسلمون - فقد يستطيع أهل الاختصاص أن يرصدوا حركة الأمطار وتحرك الرياح وقوتها التي أمرها الله وعبر وسائل سخرها الله من أقمار صناعية ومقاييس للضغط وقوة الرياح ولذا نسمع ونقرا في النشرات الجوية وغيرها عن توقعات لحدوث أمطار أو تغيير في برودة الجو وحرارته، وهذا ليس من التنجيم أو الكذب وإنما هو اجتهاد وتوقع مبني على علم ودراسة ويبقى العلم عند الله تعالى الذي يحرك الرياح والأمطار متى شاء وكيف شاء، لكن احترام العلم والعلماء واجب شرعاً وعقلاً، وهكذا يقال في ولادة الهلال مع بداية الشهر أو معرفة كسوف الشمس أو خسوف القمر أو في اكتشاف مرض عند إنسان أو توقع تدهور صحته أو تحسن حاله.
فالعلم عند الله تعالى ولا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول أما غير الرسل من سائر البشر فهم يستخدمون ما آتاهم الله من علم ومعرفة للكشف عن الحقيقة وسر أطوار الحياة وفي الحديث (الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها).
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.