انتظار الفرج
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ الوليِّ الحميدِ، ذي العَرشِ المجيدِ، المبدئِ المعيدِ، الفعَّالِ لما يُريدُ، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ)، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَه لا شَريكَ له شَهادةَ إخلاصٍ وتَوحيدٍ، ألا إنَّ ربي قَويٌ مَجيـدٌ، لَطيفٌ جَليلٌ غَنـيٌّ حَميدٌ، وكُلُّ الخَلقِ له عَبيـدٌ، (اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، ومُصطفاهُ وخَليلُه، صلى اللهُ وسَلمَ وبَاركَ عَليهِ وعلى آلِه وصَحبِه والتَّابعينَ، ومن تَبعَهم بإحسانٍ إلى يَومِ الدينِ، وسَلمَ تَسليمًا كَثيرًا، أَما بَعدُ:
ذكرَ ابنُ القيِّمِ رحمَه اللهُ في زادِ المعادِ، أنَّه عندما ماتَ أبو طالبٍ اشتدَّ البلاءُ على رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ من قَومِه، وتَجرؤوا عَليهِ وَكاشفوهُ بالأذى، فخرجَ عَليهِ الصَّلاةُ والسلامُ إلى الطَّائفِ رَجاءَ أَن يَؤوهُ وينصروهُ ويمنعوهُ، فلم يَرَ من يُؤوي، ولم يَرَ نَاصراً، وآذوهُ أَشدَّ الأَذى، ونَالوا مِنهُ ما لم يَنلْهُ قَومُه، وكَانَ مَعهُ مَولاهُ زَيدُ بنُ حَارثةَ، وأخرَجوهُ من بِلادِهم، وأَغروا به سُفهاءَهم، فوقَفوا له صفَّينِ يَرمونَهُ بالحِجارةِ حَتى دَميتْ قَدماهُ، وزَيدُ يَقيهِ بنفسِه حتى شُجَّ رَأسُهُ، فوصلَ إلى وادي نخلةَ، وأَقامَ بهِ أَياماً، فقَالَ له زَيدُ بنُ حَارثةَ: كَيفَ تَدخلُ عَلى قُريشٍ وقد أَخرجوكَ؟، فقالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (يَا زَيْدُ إنَّ اللّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرْجًا وَمَخْرَجًا، وَإِنّ اللّهَ نَاصِرٌ دِينَهُ، وَمُظْهِرٌ نَبِيَّهُ).
هَلْ تَعلمونَ أيُّها الأحبَّةُ أنَّ هُناكَ عِبادةً عَظيمةً تُسمَّى: انتظارُ الفَرَجِ، وتَأمَلوها في ثَنايا: (إنَّ اللّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرْجًا وَمَخْرَجًا)، هِيَ عِبادةُ الأنبياءِ، وهِيَ زَادُ الأولياءِ، وهِيَ سَلوةُ الأتقياءِ، لأنَّهم أشَدُّ النَّاسِ في البَلاءِ، أنيسُهم هو الإيمانُ الرَّاسخُ بوَعدِ: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً)، ويَنتَظِرونَ وَعدَ: (وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)، ولِسانُ حَالِ قُلوبِهم: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَاّ الضَّالُّونَ).
هِيَ الْأَيَّامُ وَالْغِيَرُ *** وَأَمْرُ اللَّهِ يُنْتَظَرُ *** أَتَيْأَسُ أَنْ تَرَى فَرَجًا *** فَأَيْنَ اللَّهُ وَالْقَدَرُ
نَنتَظرُ الفَرجَ: لأنَّنا نَعلمُ أنَّ لنا رَبَّاً عَليماً حَكيماً، سَميعاً كَريماً، بَصيراً رَحيماً، ابتلانا ليَستخرجَ مِنَّا أصنافَ العِباداتِ، وأنواعَ الطَّاعاتِ، وخَالِصَ الدَّعواتِ، فَفي البَلايا، تَتَجدَّدُ النَّواياَ، وتُغفرُ الخَطايا، وتَعظُمُ العَطايا، وفي الفِتَنِ والكُروبِ، يُعرفُ الصَّادقُ مِن الكَذوبِ، (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ)، وكُلَما اشتَّدَّ الكَربُ أَيقَنَ أهلُ الإيمانِ، أنَّ الفَرَجَ مِن اللهِ تَعالى قَد حَانَ، قِيلَ لعُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَامَ الرَّمادةِ: اشتدَّ القَحْطُ، وقَنطَ النَّاسُ، فَقَالَ: الآنَ يُمْطرونَ، وقَرأَ: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ).
إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْيَأْسِ الْقُلُوبُ *** وَضَاقَ لِمَا بِهِ الصَّدْرُ الرَّحِيبُ
وَلَمْ تَرَ لِانْكِشَافِ الضُّرِّ وَجْهًا *** وَلَا أَغْنَى بِحِيلَتِهِ الْأَرِيبُ
أَتَاكَ عَلَى قُنُوطٍ مِنْك غَوْثٌ *** يَمُنُّ بِهِ اللَّطِيفُ الْمُسْتَجِيبُ
نَنتظرُ الفَرجَ: بِحُسنِ ظَنٍّ باللهِ الذي لا يَنقَطِعُ بِهِ الرَّجاءُ، فَمهمَا اشتَدَّ الظَّلامُ فلا بُدَّ أن يَعقِبَهُ ضِياءٌ، فَمُعاناةُ الألمِ لا بُدَّ لَهَا مِن ِشِفاءٍ، وسَطوةُ الفَقرِ لا بُدَّ لَها مِن جَلاءٍ، وشِدَّةُ الضِّيقِ عَاقِبَتُها إلى سِعةٍ ورَخاءٍ، هَكَذا عَلَّمنا القُرآنُ، فَمَن الذي حَملَ نُوحاً في الفُلكِ؟، ومَن الذي نَجَّى إبراهيمَ من النارِ؟، ومَن الذي رَدَّ يُوسفَ لِيَعقوبَ؟، ومَن الذي فَلقَ لِموسى البَحرَ؟، ومَن الذي شَفى أيوبَ مِن الضُّرِ؟، ومَن الذي حَفظَ يُونسَ في بَطنِ الحوتِ؟، ومَن الذي رَفعَ عِيسى إلى السَّماءِ؟، ومَن الذي أنزلَ السَّكينةَ في الغارِ؟، فَإذا عَلِمنا أنَّهُ ليسَ لَها مِن دُونِ اللهِ كاشفةٌ، فأينَ نَذهبُ؟، وبِمن نَستغيثُ؟، وإلى مَن نَلجأُ؟، (إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ).
وَإِنِّي لَأَرْجُو اللَّهَ حَتَّى كَأَنَّنِي *** أَرَى بِجَمِيلِ الظَّنِّ مَا اللَّهُ صَانِعُ
نَفعني اللهُ وإياكم بهدي كِتابِه، وبِسنةِ نَبيِّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلمَ، أَقولُ قَولي هَذا، وأَستغفرُ اللهَ العَظيمَ الجَليلَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ من كُلِّ ذَنبٍ، إنَّهُ هو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي خَلقَ فَسوَّى، والذي قدَّر فَهدى، خَلقَ الأرضَ والسَّماواتِ العُلَى، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَه لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ سيدَنا ونَبيَّنا مُحمدًا عَبدُ اللهِ ورَسولُه المُصطَفى وحبيبُه المُجتبى، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عَبدِكَ ورَسولِكَ مُحمدٍ وعَلى آلِه وصَحبِهِ ومن بسُنَّتِهِ اهتدَى، أَمَّا بَعدُ:
نَنتظرُ الفَرَجَ: بِصبرٍ جَميلٍ، على أقدارِ العزيزِ الجليلِ، دُونَ شَكوى أو سَخَطٍ، ودُونَ شَكٍّ أو قَنَطٍ، فَقُلوبُنا تَرى الفَرجَ وكأنَّه قَد وَقعَ على المَهمومِ، فَنَسيَ ما كَانَ يُعانيهِ مِن ألمٍ وَغُمومٍ، وَعداً مِن اللهِ حقَّاً، وقَولاً مِن الرَّحمنِ صِدقاً، كَانَ ابْنُ شُبْرمَةَ إِذا نَزلتْ بِهِ شِدَّةٌ، يَقُولُ: سَحَابَةٌ ثمَّ تَنقشعُ، فالخيرُ كُلُّ الخيرِ في الصَّبرِ في الضَّراءِ، والشُّكرُ في السَّراءِ، قَالَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، وَإِنَّ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ).
فَكُلُّ ضِيْقٍ سَيَأتِي بَعْدَهُ سِعَةٌ … وَكُلُّ صَبْرٍ وَشِيكٌ بَعْدَهُ ظَفَرُ
نَنتظرُ الفَرَجَ بِدُعاءٍ صَادقٍ مِن أعماقِ القُلوبِ، فإنَّه نِعمَ الصَّاحبُ في أيامِ الأزَماتِ والكُروبِ، فَقد أَمرَنا اللهُ تَعالى بالدُّعاءِ ووَعدَ بالإجابةِ، ولَكن أينَ دُعاءُ أهلِ الاضطرارِ والإنابةِ؟، قَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: أُدخلتُ السجْنَ، فأُنزلتُ على أنَاسٍ فِي قَيدٍ وَاحِدٍ، وَمَكَانٍ ضَيقٍ، لَا يَجدُ الرَّجلُ إِلَّا مَوضِعَ مَجْلِسِه، وَفِيه يَأْكُلُونَ وَيَتَغَوَّطُونَ، وَفِيه يُصلُّونَ، قَالَ: فَجيءَ بِرَجُلٍ من أَهلِ الْبَحْرينِ، فَلم نَجدْ لَهُ مَكَاناً، فَجَعلُوا يَتبرمونَ بِهِ، فَقَالَ: اصْبِرُوا، فَإِنَّمَا هِيَ اللَّيْلَةُ، فَلَمَّا دَخلَ اللَّيْلُ، قَامَ يُصَلِّي، فَقَالَ: يَا ربِّ، مَننتَ عَليَّ بِدينِكَ، وعَلمتَني كِتابَكَ، ثمَّ سَلَّطَتَ عَليَّ شَرَّ خَلقِكَ، يَا رَبِّ، اللَّيْلَةَ، اللَّيْلَةَ، لَا أُصبحُ فِيهِ، فَمَا أَصَبحَا حَتَّى ضُربتْ أَبْوَابُ السجْنِ: فَأُخِذَ الرَّجلُ؟، فَقُلنا: مَا دُعِي السَّاعَةَ، إِلَّا لِيقْتلَ، فَخُلَّيَ سَبيلُهُ، فَقَامَ عَلى بَابِ السجْنِ، فَسَلَّمَ عَلينا، وَقَالَ: أَطِيعُوا الله لَا يُضَيِّعكُم.
عَسَى فَرَجٌ يَأْتِي بِهِ اللَّهُ إِنَّهُ … لَهُ كُلَّ يَوْمٍ فِي خَلِيقَتِهِ أَمْرُ
وهَكَذا يُنتَظَرُ الفَرَجُ بُحُسنِ ظَنٍّ وصَبرٍ ودُعاءٍ، وحِينَها قَدْ لا تُبالي مَتى يَنكَشِفُ الكَربُ والبلاءُ.
اللهمَّ فرِّجْ هَمَّ المَهمومينَ مِنَ المسلمينَ، ونفِّسْ كَربَ المَكروبينَ، واقضِ الدَّينَ عن المَدينينَ، واشفِ مَرضانا ومَرضى المسلمينَ، برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ، اللهمَّ كُنْ لإخوانِنا المَنكوبينَ في كُلِّ مَكانٍ، اللهمَّ استر عَوْراتِهم، وآمن رَوْعاتِهم، وعجِّلْ لهم بالفَرجِ، اللهمَّ آتِ نفوسَنا تَقواها، وزكِّها أَنتَ خَيرُ من زكَّاها، أَنتَ وليُّها ومَولاها يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، وأَصلحْ أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، واجعل ولايتَنا فيمن خَافَكَ واتَّقاكَ، واتبعَ رِضاكَ يا ربَّ العَالمينَ.
المرفقات
1661914393_انتظار الفرج.docx
1661914410_انتظار الفرج.pdf