امتحان الدنيا وامتحان الآخرة وعشر ذي الحجة 24-11-1443
عوض آل دبيس
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين
أما بعد: فيَا عِبَادَ اللهِ: شَاءَ العَبدُ أم أَبَى سَيَخرُجُ من الدُّنيَا, طَالَ عُمُرُهُ أم قَصُرَ, أَطَاعَ اللهَ -تعالى- أم عَصَى, حَكَمَ أم حُكِمَ, ظَلَمَ أم ظُلِمَ, تَقَلَّبَ في نِعَمٍ أم في نِقَمٍ, سَيَخرُجُ من الدُّنيَا لا محالة, يَعِيشُ سَنَوَاتٍ مُقَدَّرَةً بِتَقدِيرِ العَزِيزِ العَلِيمِ, ثمَّ يُقْبَرُ, ثمَّ يُنْشَرُ, ثمَّ يُحْشَرُ, ثمَّ يَقِفُ بَينَ يَدَيِ خَالِقِهِ الذي قَالَ: (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى)
يَا عِبَادَ اللهِ: العَاقِلُ هوَ من استَعَدَّ لِلِقَاءِ اللهِ -تعالى-, وذلكَ بالمُبَادَرَةِ إلى الأَعمَالِ الصَّالِحَاتِ, العَاقِلُ من استَعَدَّ للحِسَابِ وللامتِحَانِ يَومَ القِيَامَةِ, العَاقِلُ من بَحَثَ عن صَدِيقٍ مُجِدٍّ ومُجتَهِدٍ في حَيَاتِهِ الدُّنيَا من أَجلِ الامتِحَانِ يَومَ القِيَامَةِ.
يَا عِبَادَ اللهِ: نَحنُ نَرَى العُقَلاءَ في الحَيَاةِ الدُّنيَا الذينَ يُرِيدُونَ مُستَقْبَلاً زَاهِرَاً في حَيَاتِهِمُ الدُّنيَا يَجِدُّونَ ويَجتَهِدُونَ في تَحقِيقِ الأَسبَابِ التي تُوصِلُهُم إلى هَدَفِهِم, فلا يَلهَونَ إذا لَهَى غَيرُهُم, ولا يَسهَونَ إذا سَهَى غَيرُهُم, ولا يُضَيِّعُونَ أَوقَاتَهُم إذا ضَيَّعَهَا غَيرُهُم, تَرَاهُم في جِدٍّ واجتِهَادٍ طَمَعَاً بِمَنزِلَةٍ دُنيَوِيَّةٍ, تَرَاهُم في جِدٍّ واجتِهَادٍ استِعدَادَاً للامتِحَانِ.
يَا عِبَادَ اللهِ: الفَارِقُ كَبِيرٌ بَينَ امتِحَانِ الدُّنيَا وامتِحَانِ الآخِرَةِ, اِمتِحَانُ الدُّنيَا لو قُورِنَ بامتِحَانِ الآخِرَةِ لما كَانَ يُسَاوِي شَيئَاً. يَا عِبَادَ اللهِ: أَسئِلَةُ الامتِحَانِ في الحَيَاةِ الدُّنيَا مَحدُودَةٌ ومَقصُورَةٌ على بَعضِ الكَلِمَاتِ والجُمَلِ والمَوضُوعَاتِ؛ أمَّا أَسئِلَةُ الامتِحَانِ في الآخِرَةِ فَهِيَ شَامِلَةٌ لأَنفَاسِ العُمُرِ, شَامِلَةٌ لِكُلِّ صَغِيرَةٍ وكَبِيرَةٍ, لِكُلِّ قَولٍ وفِعلٍ, لِكُلِّ نِيَّةٍ وخَاطِرٍ, قال تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وقال تعالى: (وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ)
يَا عِبَادَ اللهِ: رَقِيبُ الامتِحَانِ في الدُّنيَا بَشَرٌ, قُدْرَتُهُ مَحْدُودَةٌ, أمَّا الرَّقِيبُ في امتِحَانِ الآخِرَةِ فهوَ اللهُ -عزَّ وجلَّ-, الذي أَحَاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلمَاً, يَعلَمُ خَائِنَةَ الأَعيُنِ ومَا تُخفِي الصُّدُورُ, القَائِلُ: (إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
يَا عِبَادَ اللهِ: مُدَّةُ الامتِحَانِ في الدُّنيَا سَاعَةٌ أو سَاعَتَانِ أو ثَلاثَةٌ مَعَ رَاحَةِ الجَسَدِ, ويَنتَهِي كُلُّ شَيءٍ. أمَّا مُدَّةُ الامتِحَانِ في الآخِرَةِ فَخَمسُونَ أَلفَ سَنَةٍ, فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وأَنتَ وَاقِفٌ على قَدَمَيكَ أَمَامَ رَبِّ البَشَرِ, تُعرَضُ على رَبِّكَ لا تَخفَى مِنكَ خَافِيَةٌ, قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) يَا عِبَادَ اللهِ: اِمتِحَانُ الدُّنيَا مُهَيَّأٌ وَلَهُ جَوٌّ مُرِيحٌ هَادِئٌ, المَقَاعِدُ مُرِيحَةٌ, الأَنوَارُ سَاطِعَةٌ, المَاءُ مَوجُودٌ, الأَمنُ والأَمَانُ والهُدُوءُ كُلُّهُ مَوجُودٌ. أَمَّا امتِحَانُ الآخِرَةِ فَفِي جَوٍّ رَهِيبٍ, ومَوقفٍ عَصِيبٍ, ومَكَانٍ عَجِيبٍ, (يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)
يَا عِبَادَ اللهِ: إذا أَخفَقَ العَبدُ في امتِحَانِ الدُّنيَا فَإِنَّهُ يُعِيدُهُ مَرَّةً أو مَرَّتَينِ أو أَكثَرَ, وإذا لم يُفْلِحْ تَحَوَّلَ إلى مَيدَانٍ آخَرَ لِتَأمِينِ أَسبَابِ سَعَادَتِهِ في الحَيَاةِ الدُّنيَا. أمَّا امتِحَانُ الآخِرَةِ فلا إِعَادَةَ لَهُ إذا أَخفَقَ العَبدُ فِيهِ وخَسِرَ؛ فإذا صَدَرَتِ النَّتِيجَةُ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.
يا عِبَادَ اللهِ: نَتَائِجُ الامتِحَانِ في الحَيَاةِ الدُّنيَا نِسبَتُهَا عَالِيَةٌ جِدَّاً في الغَالِبِ الأَعَمِّ، أمَّا نِسْبَةُ نَتَائِجِ الامتِحَانِ في الآخِرَةِ فَشَيءٌ مُذْهِلٌ ومُرْعِبٌ ومُخِيفٌ, وَاحِدَ في الأَلفِ، روى الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -: "يَقُولُ اللهُ -عزَّ وجلَّ-: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ, وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ. يَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَذَاكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ: (وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)
اللهم هون علينا الحساب وتولنا بلطفك يا رب الأرباب
بارك الله لي ولكم
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلهِ
عِبادَ اللهِ: إننا مقبلون بعد بضعة أيام على عشر ذي الحجة فلا تُضِيعُوا خَيْرًا مِنَ اللهِ أَتَاكُمْ، حُرِمَ مِنْهُ غَيْرُكُمْ، وَأَنْتُمْ بَلَا مَشَقَّةٍ جاءَكُمْ، وَلَاتَسَأَلُوا عَمَّا تَعْمَلُون فِيهَا، فَكُلُّ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي هذه العشر أَجْرُها عَظِيمٌ، صَلَاةٌ وَصِيَامٌ وَصَدَقَةٌ وَقِرَاءَةُ قُرْآنٍ وَتَكْبِيرٌ وَتَهْلِيلٌ وَتَسْبِيحٌ وَاسْتِغْفَارٌ وَصِلَةُ رَحِمٍ وَإِصْلَاحٌ وَمَعْرُوفٌ وَكَفُّ أَذىً وَامْتِنَاعٌ عَنْ حَرامٍ وَحَفْظٌ لِلِّسَانِ، وَكُلُّ مَا يُمْكِنُكَ أَنْ تُثْقِلَ بِهِ مَوَازِينَكَ عِنْدَ رَبِّكَ فافعل فَلِهَذِهِ الْأَيَّامِ تَفْضِيلٌ عَلَى غَيْرِهَا وَمَزِيَّةٌ، وَكَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ لِلصَّلَاحِ والتَّوْبَةِ قَبْلَ الْمَنِيَّةِ، يَارِبِّ بَلِّغْنا وَأَعِنَّا وَأَخْلِصِ النِّيَّةَ.
صلوا وسلموا