اليوم المشهود
إبراهيم بن صالح العجلان
1440/12/07 - 2019/08/08 21:20PM
اليوم المشهود 8/12/1440 هـ
إخوة الإيمان:
ها هو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وٌاقف وسطَ جُموعِ الحجيجِ في عَرَفة، قد اطمأنَّت نفسُه على هذا النُّسك العظيم، وقرَّتْ عينُه وهو يَرى الأمَّةَ تشهَدُ له في ذلك الموقفِ بأنَّه قد بلَّغ رسالةَ ربِّه، وأدَّى الأمانةَ، ونَصَحَ الأمَّة.
وها هي عُيُون الآلافِ المؤلَّفةِ تَرمُق رسولَ الله rلتأتَمَّ به، بعد أنْ قضَوْا معه في صَعِيد عرفة يومًا لا يُنسَى أبدًا.
فما راعَ تلك الجموعَ إلاَّ ناقةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قد تَسَمَّرتْ في مكانها، وانخَفَض رأسُها حتى كاد عنقها يندقُّ في الأرض، ثم برَكتْ بعد ذلك، ونزَل منها رسولُ البشَر صلى الله عليه وسلم، فتأتي أسماء بنت عُمَيس، وتضَع فوق رأسِه صلى الله عليه وسلم رداءً، فعرف الناس أنَّ الوحيَ قد نزَل من السماء، وأنَّ هناك رسالةً سماويَّة لأهل الأرض، فاشرأبَّت الأعناقُ، واحدقَت الأبصار، وتلهَّفت القلوب، شوقًا لخبر السماء.
ثم سُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعَلامات الاستِبشار قد علَتْ مُحيَّاه.فدوَّى صلى الله عليه وسلم لتلك الجموع آية عظيمة، استَبشرَتْ بها وفودُ الحجيج أيَّما بشارة.أنزَلَ الله - عزَّ وجلَّ - في هذا المكان وتلك اللحظة قولَه - تعالى -: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).
حتى إذا آذَنت الشمس بغروبها قال المصطفىصلى الله عليه وسلم لبلال: استَنصِت الناس، فأَنصَتتْ تلك الجموعُ المؤمنة لرسولهم؛ ليفيض على قلوبهم بِشارةً من أمين السَّماء، قال:( يا أيها الناس، أتاني جبريل آنِفًا فأقرأني السلام من ربِّي وقال: بشِّر أهلَ الموقف والمشعر أنَّ الله قد غفَر لهم، وتحمَّل عنهم التَّبِعات)، فقال عمر: يا رسول الله، هذه لنا خاصَّة؟ فقال: ((بل لكم ولِمَن بعدَكم إلى يوم القيامة)، فقال الفاروق: كثُر خيرُ الله.
فما أعظم هذا اليوم وما أكثره خيره وبركاته، يوم مشهود وعظيم عند أهل الأرض والسماء، هو يوم عيد أقسم الله به، فيه كمل الدين وتمت النعمة.
هو يوم العتق من النار، والمباهاة من الملك الجبار، فيه يصغر شأن الشيطان، ويفيض عطاء الرحمن.
الدعاء فيه مفضَّل ومستجاب، والذكر معه مندوب ومستطاب.مشهد عرفات منظرٌ لم ترَ أهيب منه العيونُ، وموطنٌ لم تَخشَع في مثله القلوبُ، فسبحان مَن علَّق الأرواح بتلك الديار الجدباء، حيث لا ظِلَّ فيها ولا نظارة ولا ماء، وإنما تحمل في محيطِها الشعور والمشاعر التي لا يُنسِيها الزمان، ولا تمحُوها الأيَّام.
قد جعَل الله - سبحانه - في هذا المنسك من العِبَر والعَبَرات، والذِّكرى والعظات ما يزيد الإيمان، ويغرس التقوى .
من تلك العِبَر: مشهد الوفود في عرفات، يرى المسلم بعينِه ألوانَ الناس من كلِّ الأجناس، يجتَمِعون في صعيدٍ واحد، وزيٍّ واحد، وهتاف واحد، يدعون ربًّا واحدًا، يجأرون إليه بقلوبٍ أحرَقَها الشوقُ، وألهبَها الحنينُ، فلا تسمع بين تلك الجموع إلاَّ تأوُّهاتِ التائبين، وأنينَ الخاشِعين، وضَراعةَ المفتقرين.
هَذِي ضُيُوفُكَ يَا إِلَهِي تَبْتَغِي *** عَفْوًا وَتَرْجُو سَابِغَ البَرَكَاتِ
وَفَدُوا إِلَى أَبْوَابِ جُودِكَ خُشَّعًا *** وَتَزَاحَمُوا فِي مَهْبِطِ الرَّحَمَاتِ
فَاقْبَلْ إِلَهَ العَرْشِ كُلَّ ضَرَاعَةٍ *** وَامْحُ الذُّنُوبَ وَكَفِّرِ الزَّلاَّتِ.
في عرفات تتجلَّى للمسلم حقيقةُ الدنيا؛ فلا يرى أحدًا يَبنِي فيها دُورًا، ولا يشيد قُصورًا؛ لأنَّها ساعاتٌ قلائل، ثم يَأتِي الرَّحِيل، ويستعدُّ العبد لما بعد ذلك اليوم، ثم بعد ذلك الرحيل إلى دياره الأولى، ومَعاقِله الأصيلة.فيغرس العبد في قلبه مع هذه المعاني شجرةَ الزهد، فيَعلَم أنَّه في هذه الدنيا كأنَّه غريبٌ أو عابرُ سبيل.
أُؤَمِّلُ أَنْ أَحْيَا وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ *** تَمُرُّ بِيَ الْمَوْتَى تُهَزُّ نُعُوشُهَا
وَهَلْ أَنَا إِلاَّ مِثْلُهُمْ غَيْرَ أَنَّ لِي *** بَقَايَا لَيَالٍ فِي الزَّمَانِ أَعِيشُهَا.
في عرفات يتجرَّد الجميع من مخيطِهم، ويُضَحُّون لربِّهم، مُستَجِيبين لندائه، في بقعةٍ محدودة قد ضاقَتْ بها الخلائق، الكلُّ مشغولٌ بحالِه، راجيًا من ربِّه نوالَه، فيستَشعِر العبد مع تلك المناظرِ المشهدَ العظيم، والحشرَ المهول في عرَصَات القيامة؛ (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) .إنَّه بحقٍّ منظرٌ يُوقِظ العقول اللاهية، ويُحيِي القلوب الغافلة.
أَمَا وَاللهِ لَوْ عَلِمَ الأَنَامُ *** لِمَا خُلِقُوا لَمَا هَجَعُوا وَنَامُوا
لَقَدْ خُلِقُوا لِأَمْرٍ لَوْ رَأَتْهُ *** عُيُونُ قُلُوبِهِمْ تَاهُوا وَهَامُوا
مَمَاتٌ ثُمَّ قَبْرٌ ثُمَّ حَشْرٌ *** وَتَوْبِيخٌ وَأَهْوَالٌ عِظَامُ
لِيَوْمِ الحَشْرِ قَدْ عَمِلَتْ رِجَالٌ *** فَصَلَّوْا مِنْ مَخَافَتِهِ وَصَامُوا.
هناك في عرفات تَزُول الطبقيَّة، وتَتهاوَى المُفاخَرة؛ فلا عظيم هناك ولا حقير، ولا مأمور ولا أمير، ولا غني ولا فقير، الناسُ في موطن عرفات سواسيةٌ كأسنان المشط، لا فضلَ للونٍ على لون، ولا تميُّز لجنسٍ على جنس، وهذه هي شريعةُ السماء، قد شهدت عرفات أنَّ خير البشر صلى الله عليه وسلم قد دوَّى صوتُه بين جنباتها بقوله: (كلُّكم بنو آدم، وآدمُ من تراب، ليس لعربيٍّ على أعجميٍّ فضلٌ، ولا لأعجميٍّ على عربيٍّ فضلٌ، ولا لأسود على أحمر فضل، ولا لأحمر على أسود فضل إلاَّ بالتقوى، إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم .....
الخطبة الثانية:
أمَّا بعدُ: فيا عباد الله أيُّها المؤمنون: دعاء العبد لربِّه وافتِقارُه إليه، هو لُبُّ العبوديَّة وأساسُها، والدُّعاء في هذا اليوم بخاصَّة له عند الرحمن شأنٌ ومكان؛ يقول صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ الدُّعاءِ دعاءُ يوم عرفة، وخيرُ ما قلتُ أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلاَّ الله وحدَه لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ)؛ رواه الترمذي وغيرُه، وهو حديثٌ حسن.
ولئنْ حازَ الحاجُّ أجرَ المغفرة والرحمة والمباهاة، فإنَّ فضْل الكريم المنان على عباده الصائمين الذين لم يحجُّوا قد جمل وحان بإجابة دُعائِهم وتَكفِير سيِّئاتهم، وستْر عيوبهم.
يُسأَل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة،فيقول:(يُكفِّر السنة الماضية والباقية) رواه مسلمٌ.
وبعد أيها الكرام، فأيام عشركم الفاضلة قد تصرمت وهي قصيرة ماضية، فأخلصوا واصبروا وصابروا ليكون الجزاء: كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية.
أحسنوا في ما بقي فيها واستثمروا يوم عرفة المشهود، وتفرغوا من كل الشواغل فيه، فما هو إلاَّ ساعات معدودة، ولحظات محدودة، اغتَنِموها بالتوبة والاستغفار، والذِّكر والقرآن، والتضرُّع والدعاء.
حَقِّقوا رَجاءَكم بربِّكم بحسن الظنِّ به، تجرَّدوا إلى ربِّكم بنُفُوسٍ زكيَّة، وقلوبٍ مُخبِتة، ودعاء صادق خالص.
استَغفِروا الرحمن، في يوم الرحمة على ما مضى وكان، فإنَّ ربَّكم غفورٌ رحيم، يحبُّ ندَم التائبين، وتوبة النادِمين، يعفو عن الزلاَّت، ويَغفِر السيِّئات حتى ولو كانت تلك الخطيئات مثلَ زبَدِ البحر أو مثل رمل عالج أو كعدد أيَّام الدنيا، وفي الحديث(يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني لغفرت لك ولا أبالي).
اللهم يا ياذا الجلال والإكرام عاملنا بلطفك وإحسانك، واجعلنا من أهل رحمتك ورضوانك، واجعل مآلنا ومستقرنا بحبوحة جنانك.
المرفقات
المشهود-عرفة
المشهود-عرفة