اليوم الآخر.

عاصم بن محمد الغامدي
1437/11/09 - 2016/08/12 05:43AM
[align=justify]اليوم الآخر.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض بالحقِّ، ولِتُجْزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلَق الثَّقَليْن الجنَّ والإنسَ لِغايتين، غايةٍ تُراد منهم، وهي أن يعرفوه ويعبدوه وحده: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، وغاية تراد بهم، وهي الجزاء بالعدل والفضل {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}.
وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله وخليله، لا خير إلا دلَّ الأمةَ عليه، ولا شَرَّ إلا حذَّرَها منه. فَصَلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، إلى يوم الدين، أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس-ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله رحمكم الله، فالتقوى حياةٌ في القلب، ويقينٌ بالغيب، وحالةٌ في النفس، تتبينُ منها اتجاهات الأعمال، وتتوجه بها المشاعر الباطنية والتصرفات الظاهرية، ويتّصِل بها العبد بربه سراً وجهراً. من تأمّل خطوب الأيام استغنى عن خطب الأنام، ومن سلك مسالك الاعتبار أضاءت له مصابيح الاستبصار –فتأملوا-رحمني الله وإياكم ـ في دروب المسير، وتذكَّروا أين المصير، وبادروا قبل هجوم الفاقرة، وشمّروا لعمل الآخرة.
واستعدوا رحمكم الله ليوم الحساب، فذلك يوم ما أطوله، وحسابٌ ما أثقله، وحاكم ما أعدله، {يومئذ يصدر الناس أشتاتًا ليروا أعمالهم* فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره* ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره}.
عباد الله:
في آخر الزمان، يأمر الله تعالى إسرافيل عليه السلام، فينفخ في الصور نفخة، فصعق من في السماوات والأرض إلا من شاء الله، وتبقى الأرض بعد ذلك لا حياة فيها أربعين عامًا، ثم يحيي الله تعالى إسرافيل مرة أخرى، ويأمره بالنفخة الثانية، فإذا هم قيام ينظرون.
الأرض غير الأرض، مدت وتزلزلت واضطربت، {يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبًا مهيلاً}، والسماء غير السماء، انشقت وفرجت وكشطت، {فكيف تتقون إن كفرتم يومًا يجعل الولدان شيبًا* السماء منفطر به كان وعده مفعولاً}، الشمس كورت وأظلمت، والنجوم طُمِسَت وتَفَرَّقَتْ، والجبال نُسِفت ودُكَّت وسُيِّرَت، وأصبحت كثبانًا مهيلة، كأنها الصوف المنفوش في خفته، والبحار سجرت وتفجرت، والكواكب انتثرت، والقبور خربت وبعثرت، والصدور حصلت، والوحوش حشرت، والخلق مجتمعون، لا تخفى منهم خافية، الأولون والآخرون، والمسلمون والكافرون، الإنس والجن والدواب، كلهم في صعيد واحد،{يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابًا}.
منظر مهيب، مليء بالأعاجيب، يوم مقداره خمسون ألف سنة، الشمس فيه من الرؤوس دانية، والمرء يتذكر أعماله كلها، وهو يفر من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تؤويه، يبحث عن أحد ينجيه، أو صاحب يفديه، يتلفت حوله، فيرى الولدان شابت رؤوسهم، والحوامل وضعن ما في بطونهن، والمرضعات ذهلن عن أطفالهن، والمجرمين مقرنين في الأصفاد، والخلق عراة حفاة غرلاً، كل واحد منهم مشغول بنفسه، كأنهم سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد.
{ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفًا* فيجعلها قاعًا صفصفا* لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا* يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسًا}، وعرضوا على ربك صفًا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة فرادى، وأُنزِلَ عرشُ الرحمنِ جل جلاله، وتشققت السماء بالغمام، ونُزِّل الملائكة من السماوات السبع تنزيلا، وجيء بجهنم فنصبت عن يسار العرش، تكاد تميز من الغيظ، لها زفير وشهيق، ويخطمها سبعون ألف زمام، عند كل زمام سبعون ألف ملك، وعنَت الوجوه للحي القيوم، وقد خاب من حمل ظلمًا، ويبدأ الله الحساب، وهو أسرع الحاسبين.
فيا طوبى لمن أوتي كتابه بيمينه، فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا، وينقلب إلى أهله مسرورًا، وبعدًا لمن لويت شماله وراء ظهره، وأعطي كتابه فيها، فسوف يدعو ثبورًا، ويصلى سعيرًا، مع أنه كان في الدنيا بين أهله مسرورًا.
عباد الله:
المؤمن يؤمن بالغيب، والكافر منكر به، فهنيئاً للمؤمنين الذين يؤمنون فيستعدون، ومن صفاتهم أنهم بالآخرة موقنون، أما الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله وَلِقَاء الآخِرَةِ، فقد تعرضوا لعقاب الله وعذابه، وعندما يفاجئون بالبعث يقولون: يَا حَسْرَتَنَا على ما فرطنا، وتكون إفاقتهم شنيعة، بقدر صدمتهم، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}، {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} فردت عليهم الملائكة: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}، ولذلك فمن آمن بتحقق موعود الله تعالى أمِن، ومن أنكر كفر، وألقي والعياذ بالله في سقر، {كل نفس بما كسبت رهينة* إلا أصحاب اليمين* في جناتٍ يتساءلون* عن المجرمين* ما سلككم في سقر* قالوا لم نك من المصلين* ولم نك نطعم المسكين* وكنا نخوض مع الخائضين* وكنا نكذب بيوم الدين* حتى أتانا اليقين}.
أيها المسلمون:
من أراد النجاة في ذلك اليوم، فليخلص لله التوحيد، وليبتعد عن الشرك والبدع، فقد قال الله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، و{من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزعٍ يومَئذٍ آمنون}، ولا إله إلا الله أحسن الحسنات كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، [رواه ابن أبي شيبة، وحسنه ابن حجر في الأمالي المطلقة]، وعباد الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، هم الذين آمنوا بآياته وكانوا مسلمين.
عباد الله:
الإيمان باليوم الآخر له ثمرات في الدنيا والآخرة، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فهو مداوم على صلاته، محافظ على إقامتها كما طلبت منه، مؤدٍ لزكاة ماله في وقتها، مشفق من عذاب ربه، حافظ للسانه وفرجه، قائم بشهادته، مراع لعهده وأمانته.
ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، التزم الصمت إلا عند قول الخير، وأكرم ضيفه، وأحسن إلى جاره.
ومن سبل النجاة ذلك اليوم صحبة الصالحين، فـ{الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين}، يقول لهم الله تعالى: {يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون}.
ومن أوفى بنذره، وخاف من يوم القيامة، وأطعم الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا، رغبة فيما عند الله تعالى، وقاه الله شر ذلك اليوم ولقاه نضرة وسرورًا.
ومن سلم قلبه من الآفات والأدواء، نجاه الله تعالى في ذلك اليوم العصيب، فسلامة القلب سلامة للجسد، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، ألا وهي القلب، والله تعالى يقول: {يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم}.
{ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب* ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيق وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فمن اتقى الله جعل له نورًا وعلمًا وفرقانًا، وملأ قلبه ثقة وطمأنينة وإيمانًا، {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم}.
قفوا عند حدود الله، والتزموا بأوامر الله، فإن لكم من الله طالبًا، وعليكم منه مراقبًا ومحاسبًا، واعتبروا قبل أن تكونوا عبرًا، وقدموا لأنفسكم من الخير، تجدوه عند ربكم مدخرًا، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورًا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم}.
عباد الله:
تلك الأهوال العظيمة تمهيد لحسابٍ لا تخفى فيه خافية، شأنه عظيم، وخطبه جليل: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره* ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره}، {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئًا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين}.
والحساب إما أن يكون يسيرا: وذلك بأن يعرض الرب سبحانه على العبد عمله، لا يطلع عليه أحد سواه، ثم يعفو عنه ويأمر به إلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: "يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه –أي: يستره ولا يفضحه-فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول: أعملت كذا وكذا فيقول: نعم، فيقرره ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم، ثم يعطى صحيفة حسناته" [متفق عليه].

وإما أن يكون الحساب عسيرا فذلك الذي يناقش الحساب، ويسأل عن كل صغيرة وكبيرة قال صلى الله عليه وسلم: "ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله أليس قد قال الله: فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا؟ فقال رسول الله: إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب"، والمراد بالمناقشة الاستقصاء في المحاسبة، والمطالبةُ بالجليل والحقير، وتركُ المسامحة.
فاحمدوا الله تعالى أن جعل ملكه في ذلك اليوم مقرونًا برحمته، فقال عز وجل: {الحمد لله رب العالمين* الرحمن الرحيم* مالك يوم الدين}، جعلنا الله ممن رحمهم، فيسر عليهم حسابهم، وآتاهم بيمينهم كتابهم، ووقانا شر ذلك اليوم، ولقانا نضرة وسرورًا.
ثم اعلموا أن ثمرة الاستماع الاتباع، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وراقبوا السميع البصير، الذي يرى ما تفعله الجوارح ولو دق، ويسمع ما تتكلم به الشفاه ولو خفت، وصلوا وسلموا على خير الورى طرًا، فمن صلى عليه صلاة صلى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
[/align]
المشاهدات 986 | التعليقات 0