اليقينُ رُوْحُ الإيمانِ

عبدالمحسن بن محمد العامر
1446/07/06 - 2025/01/06 22:28PM

الحمدُ للهِ؛ امتدحَ أهلَ اليقينِ، ووعدَهُم بالمنازلِ العليا معَ النبيينَ والمرسلينَ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له؛ إلهٌ تفرّدَ بالوحْدانيّةِ، والأُلوهيةِ، والصّفاتِ العلى، والأسماءُ الحسنى، وهو القويُّ المتينُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه إمامُ الموقنينَ، وأكملُ العابدِيْنَ؛ صلى اللهُ وسلّم عليه، وعلى ألِه وصحابَتِه والتابعينَ، وعلى مَنْ تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدّينِ.

أما بعدُ: فيا عبادِ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ تعالى، فبالتقوى تنشطُ الأرواحُ والأبدانُ، وتذهبُ الأتراحُ والأحزانُ، وتمتلئُ القلوبُ بالقينِ والإيمانِ: "يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ۙ فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"

معاشرَ المؤمنينَ: اليقينُ أرقى درجاتِ الإيمانِ، وأخصُّ صفاتِ أهلِ التّقوى والإحسانِ، قالَ تعالى "الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ*أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"

قالَ العلامةُ السعديُّ في تعريفِه: (هوَ الْعِلمُ التّامُ الذي ليسَ فيه أدنى شكٍّ؛ الموجبُ للعَمَلِ) وقالَ بعضُهم: (ظُهُورُ الشيءِ للقَلْبِ بِحِيثُ يَصيْرُ نِسْبَتُه إليهِ كَنِسْبَةِ المَرئِيِ إلى العينِ فلا يَبْقى مَعهُ شكٌّ ولا ريبٌ أصلاً؛ وهذا نهايةُ الإيمانِ، وهو مقامُ الإحسانِ)

عبادَ اللهِ: وللقينِ المقامُ الأعلى، والمكانَةُ الأسمى، والفضلُ الأزكى؛ قالَ ابن القيّمِ رحمه الله تعالى: (اليقينُ مِنَ الإيمانِ بمنزلةِ الرُّوحِ مِنَ الجَسدِ، وبهِ تَفَاضلَ العارفونَ، وفيهِ تنافسَ المتنافسونَ، وإليهِ شمَّرَ العاملونَ، وهوَ مَعَ المَحبَّةِ رُكْنَانِ للإيمانِ، وعليهما يَنْبنيْ، وبِهمَا قِوامُه، وَهُمَا يُمِدَّانِ سائرَ الأعمالِ القلِبيَّةِ والبَدَنيِّةِ، وعنْهُمَا تَصْدُرُ، وبِضعْفِهمَا يكونُ ضَعْفُ الأعْمَالِ، وبِقوَّتِهمَا تَقَوى الأعمالُ، وجَميعُ مَنازلِ السائرينَ إنَّما تُفْتَتَحُ بالمحبَّةِ والَيقيْنِ، وهما يُثْمِرَانِ كلَّ عَمَلٍ صَالِحٍ، وعلمٍ نافعٍ، وهدىً مستقيمٍ) انتهى كلامُه.

ومِنْ أعظمِ ثمراتِ اليقينِ، التي تقوى بقوّتِه، وتَضْعُفُ بضعْفِه، وتَنْعَدِمُ بِعَدَمِه؛ هَوَانُ مَصائبِ الدنيا على الموقنينَ، وتأملوا ـ رعاكمُ اللهُ ـ دقّةَ عبارَةِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ في دُعائهِ حينَ قالَ:  اللهمَّ اقسِمْ لنا مِنْ خَشيَتِكَ ما تحولُ بِهِ بينَنَا وبينَ معاصيكَ ، ومِنْ طاعَتِكَ ما تُبَلِّغُنَا بِهِ جنتَكَ ، ومِنَ اليقينِ ما تُهَوِّنُ بِهِ علَيْنَا مصائِبَ الدُّنيا" رواهُ الترمذيُّ وحسّنَه الألبانيُّ، تأملوا قولَه " ومِنَ القينِ ما تهوِّنُ به علينا مصائبَ الدّنيا" فهذا يَدُلُّ على أنَّ اليقينَ كلّما قويَ فإنّه يهوّنُ المصائبَ، وأنَّ العبدَ يسألُ اللهَ القَسْمَ الأكثرَ، والقدْرَ الأكبرَ مِنه، وكلَّمَا تَرقَّى العبدُ في مَراتِبِ اليَقينِ تَرقَّى في مَراتِبِ الصَّبرِ، كمَا قالَ تعالى "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ"

ومِنْ أعظمِ ثمراتِ اليقينِ، قوّةُ توكّلِ المتقينَ على اللهِ، واستشعارُ معيَّتِه لهم: قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لِصاحِبِه في الغَارِ؛ أبي بكرٍ الصّديقِ رضيَ اللهُ عنْه، وقدْ أَحْدَقَتْ بهمُ الأخْطَارُ "مَا ظنُّكَ باثنينِ اللهُ ثَالِثُهُما؛ لا تَحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنا"

وقال اللهُ عنْ موسى عليه السلامُ: "فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ"

ومِنْ أعظمِ ثمراتِ اليقينِ، أنّ الموقنينَ يُنْفِقُونَ ويُكثِرونَ، ولا يخشونَ فقراً ولا إقلالاً؛ لِيَقِيْنِهمُ التّامُّ بقولِه تعالى: "قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" فهمْ يوقنونَ  أنَّ الرّزقَ ليسَ بِيَدِ أحدٍ مِنَ الَبشرِ، وإنَّمَا هو بِيَدِ اللهِ تَعَالى وحدَهُ، قالَ سُبْحَانَه: "وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ"

ومِنْ أعظمِ ثمراتِ اليقينِ؛ أنَّ الموقنينَ لا يَزيْغُونَ عنِ الحقِّ ولا تَتَشابَهُ عليهمُ الأمورُ؛ قالَ اللهُ تعالى: "وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" فأهلُ اليقينِ؛ الحقُّ عندَهم واضحٌ وضوحَ الشَّمْسِ؛ قالَ السّعديُّ رحمَه اللهُ: (فكلُّ موقنٍ؛ فَقَدْ عَرَفَ مِنْ آياتِ اللهِ البَاهِرَةِ، وبَراهِينِه الظَّاهِرَةِ مَا حَصَلَ لَهُ بهِ اليَقيْنُ، وانْدَفَعَ عَنْهُ كُلَّ شكٍّ وَرَيْبٍ)

ومِنْ أعظمِ ثمراتِ اليقينِ؛ أنَّه يوصِلُ صاحِبَه إلى مرتبةِ الإمامَةِ في الدِّينِ؛ قالَ اللهُ تعالى: "وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ" قالَ البغويُّ رحمه اللهُ: (أي: وَصلوا في الإيمانِ بآياتِ اللّهِ، إلى درجةِ اليقينِ، وهوَ العلمُ التَّامُّ، الموجبُ للعملِ، وإنّمَا وَصلوا إلى درجةِ اليقينِ، لأنَّهم تعلموا تَعلماً صحيحاً، وأخذوا المَسائلَ عَنْ أدلتِها المُفِيْدَةِ لليقينِ،
فما زَالوا يتعلمونَ المَسائلَ، ويَستدلونَ عليْها بِكَثْرَةِ الدَّلائِلِ، حَتَّى وَصَلوا لِذاكَ، فبِالصَّبْرِ واليَقينِ، تُنَالُ الإمَامَةُ في الدِّيْنِ)

باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيمِ، وبسنَّةِ سيدِ المرسلينَ.

أقولُ قولي هذا واستغفر اللهَ لي ولكم من كلِّ الذنوبِ والخطايا إنّه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبةُ الثانيةُ:

الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانِه، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيماً لشأنِه، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه صلى الله وسلمَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وإخوانِه.

أما بعد فيا عباد الله اتقوا اللهَ: "تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ۖ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا ۖ فَاصْبِرْ ۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلُمتَّقِينَ"

معاشرَ المؤمنين: ومِنْ أعظمِ ثمراتِ اليقينِ؛ أنّهُ يفتحُ قلبَ صاحِبِه للتفكرِ في آياتِ اللهِ الكونيَّةِ، ومعجزاتِه في خلقِ السمواتِ والأرضِ وما فيهما مِنْ مخلوقاتِ وكائناتٍ؛ قالَ اللهُ تعالى: "إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ*وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ*وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ*تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ" وقالَ سُبْحَانَه عَنْ إبراهيمَ عليه السَّلامُ :"وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ"

ومِنْ أعظمِ ثمراتِ اليقينِ، أنّه يورثُ صاحِبَه استعدَادَاً للموتِ وللجزاءِ والحسابِ؛ قالَ تعالى: "طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ*هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ*الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ" رُويَ عن عليٍّ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ قالَ: (رأيتُ الجنَّةَ والنَّارَ حقيقةً، فلّمَا سُئِلَ عنْ ذلكَ قالَ: رَأيتُهمَا بعَيْنِي رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم؛ وهمَا أصدَقُ عنديْ مِنْ عَيْنِيَّ هاتينِ؛ لأنَّ عَينِيْ رسولِ اللهِ لا تَزُوْغَانِ) وقالَ أيضاً رضيَ اللهُ عنه: (لَوْ كُشِفَ لِيَ‏ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا) قالَ الحسنُ البَصريُّ رحمَهُ اللهُ : (مَا أَيْقَنَ عبدٌ بالجنَّةِ حقَّ يَقِينِها، إلاّ خَشَعَ وَوَجَلَ وذَلَّ وَاسْتَقَامَ واقْتَصَرَ حَتَّى يَأتِيَهُ المَوتُ) قالَ أبو بكرِ بنِ عَيَّاشٍ -رحمَهُ اللهُ-: (مَا سَبَقَهمْ أبو بكرٍ بكثرةِ صلاةٍ ولا صِيامٍ، ولكنْ بِشيءٍ وَقَرَ في قلبِه"؛ يعني: اليقين.

وقالَ بعضُ السّلفِ: (أدْرَكتُ أكثرَ مِنْ ثلاثينَ صَحابيّاً لو قيلَ لأحدِهمْ: إنَّ القيامةَ غدًا مَا وَجدَ مَا يَزيدُ؛ لِكونِهِ اسْتَفْرَغَ الوُسْعَ والجُهْدَ في التحصيلِ لِقوَّةِ اليَقينِ عندَهُمْ)

اللَّهمَّ إنا نسألك يقيناً صادقاً؛ يملأ قلوبنا إيماناً وتصديقاً، ورضاً وتسليماً، ومحبّةً وغنىً، وزهداً وقناعةً

هذا وصلوا وسلموا على رسول الله كما أمركم بذلك الله .....

 

 

 

المرفقات

1736269841_اليقين روح الإيمان.docx

1736269936_اليقين روح الإيمان.pdf

المشاهدات 171 | التعليقات 0