اليســـــــــــــــــوع والفــــــــــــــــــــــارقليط .. الجمعة 1442/5/3هـ

يوسف العوض
1442/04/30 - 2020/12/15 08:45AM

 

الخطبة الأولى :
 
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : كَثُرَت البِشاراتُ بِقُدُومِ النَّبِيِّ الْخَاتَمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِنْجِيلِ ، تَارَةً بِوَصْفِه أُسْتَاذ الْعَالمِ ، وَأُخْرَى بِتَسْمِيَتِه الفارقليط ، بَلْ كَانَ ثَمَّةَ جُزْءٍ كَبِيرٍ مِنْ رِسَالَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى قَوْمِهِ قَائِمًا عَلَى التّبْشِير بِمَجِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَكِنَّ الْيَهُودَ خَاصَّتَهُم وَعَامَّتَهُم وَرُهْبَانَهُم وأحبارَهُم قَد اِنْسَاقُوا خَلْف الشَّهَوَاتِ ، وَحَادُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، بَل وَوَقَفُوا ضِدَّ رِسَالَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَقَامُوا بِقَتْل يَحْيَى وزكريا عليهما السَّلَام وَغَيْرِهِما مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ الَّذِينَ جَاءُوا لهدايتِهم ، وَرُغم ذَلِكَ فَإِنَّ الْإِنْجِيلَ لَا يَزَالُ يَشْهَدُ فِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ بِالْحَقِّ الَّذِي يَأْتِي مِنْ بَعْدِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ والمُتمثلِ فِي مُحَمَّدٍ -صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ورسالتِه الْخَاتِمَة الْخَالِدَةِ قَالَ تَعالى : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ).
 
وَرُغم أَنَّ الْفَارِقَ الزَّمَنِي بَيْنَ النَّبِيِّين الْكَرِيمَيْن عِيسَى ومُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَبِيرٌ وهو كما رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ : صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :(فَتْرَةُ بَيْن عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سِتُّمِائَة سُنَّةً ) إلَّا أَنَّ الْوُدَّ وَالْمَعْرُوفَ بَيْنَهُمَا لَا يَنْقَطِعُ لِأَنَّهُمَا عَلَى مَنْهَجٍ وَاحِد ولِذَلكَ جَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ متطلَّباتِ دُخُولِ الْجَنَّةِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (من شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ محمداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ ، وَالنَّارُ حَقٌّ ؛ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ العمل) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ، فمَنْ نَطَقَ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيد وَعَرَف مَعْنَاهَا وَعَمِل بِمُقْتَضَاهَا ، وَشَهِد بِعُبُودِيَّةِ مُحَمَّدٍ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَرِسَالَتِه ، وَاعْتَرَف بِعُبُودِيَّةِ عِيسَى وَرِسَالَتِه ، وَأَنَّهُ خُلِقَ بِكَلِمَةِ كُنْ فَيَكُون ، وَبَرَأ أُمَّه مَرْيَمَ مِمَّا نَسَبَهُ إلَيْهَا الْيَهُودُ الْأَعْدَاءُ ، وَاعْتَقَدَ بِثُبُوتِ الْجَنَّةِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَثُبُوتِ النَّارِ لِلْكَافِرِين ، وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْعَمَلِ .
 
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : والْمُتَأَمِّلُ في حَيَاةِ عِيسَى ابنِ مريمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَرى أنَّها مَرَّت بِأَرْبَعِ مَرَاحِلَ :
 
الْمَرْحَلَةُ الأولَى : الْوِلَادَةُ ، حَيْث وُلِدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَيْتِ لَحْمٍ فِي أَرْضِ فِلَسْطِينَ مِنْ أُمٍّ بِلَا أَبٍ ، لحكمةٍ عَظِيمَةٍ  وَهِي : بَيَانُ كَمَالِ قَدَّرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَه وَأَنَّهَا قُدرَةٌ مُطْلَقَةٌ ، لَا تحدُها نَوَامِيسُ الْحَيَاةِ الَّتِي خَلَقَهَا سُبْحَانَه فَخَلَق آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكرٍ وَلَا أُنْثَى ، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ذَكرٍ بِلَا أُنْثَى ، وَخَلَقَ عِيسَى مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكرٍ وَخَلَقَ بَقِيَّةِ خَلقِهِ مِنْ ذَكرٍ وَأُنْثَى ، فاكتملت الْقِسْمَةُ ، وَعِنْد وِلَادَتِه أَكْرَمَ اللَّهُ أُمَّهُ بكَرامتِينِ تثبيتاً لَهَا الْأُولَى : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَجْرَى جَدولاً مِنْ الْمَاءِ تَحْتَ قَدَمَيْهَا ، الثَّانِيَةُ : مَنَّ عَلَيْهَا بِفَاكِهَةِ الرُّطَب ، ثُمَّ بَعْدَ وِلَادَتِهِ اتهمَها قَوْمُهَا بِالزِّنَا ، رُغمَ مُعْجِزَةِ تَكَلَّمِ عِيسَى ، وَهِي مُعْجِزَةٌ تَسْتَوْجَبُ الْإِذْعَانَ وَالْقَبُولَ ، مَعَ مَا عُرِفَْت بِه مَرْيَمُ وَبَيْتُ آلِ عِمْرَانَ مِنْ الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ ، وَالْبُعْدِ عَنْ مَوَاطِنِ الشُّبُهَات ، لَكِنَّ الْيَهُودَ عَلَيْهِم لعائنُ اللَّه لَم يَسْتَجِيبُوا ، بَل بَالَغُوا فِي الشَنَاعةِ عَلَى مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ .
الْمَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ : مَبْعَثُه رَسُولاً ، وَقَدْ آتَى اللَّهُ عِيسَى مُعْجِزَاتٍ مِنْهَا : إحْيَاءُ الْمَوْتَى ، وَإِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ بِإِذْنِ اللَّهِ ، فَحَسَدَه الْيَهُودُ عَلَيْهِم لعائنُ اللَّه وحاكوا ضِدِّه المكائدَ ، فَعَاش عَلَيْهِ السَّلَامُ داعياً إلَى اللَّهِ ، صابراً محتسباً وَآمَنَ بِهِ الْحَوَارِيُّون .
الْمَرْحَلَةُ الثَّالِثَةُ : رَفْعُهُ إلَى السَّمَاءِ ، ذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ اشْتَدَّ كَيْدُهُم لَه ، وَهَمُّوا بِصَلْبِه وَقَتلِه ، فَنَجَّاهُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَأَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى أَحَدِ النَّاسِ ، وَرَفَع نَبِيِّه إلَيْه كَمَا قَالَ تَعَالَى : (يا عِيسَى إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إليَّ) والتَوفِي هُنَا هُوَ النَّوْمُ ، فَأَخَذْت عِيسَى سِنَةٌ مِنْ النَّوْمِ ، فَرَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ ، وَنَجَّاه مِنْ كَيْدِ الْيَهُودِ الْمُعْتَدِين .
الْمَرْحَلَةُ الرَّابِعَةُ : مَرْحَلَةُ نُزُولِهِ إلَى الْأَرْضِ ولَم تَتحَققْ حتَّى الآنَ ، حَيْثُ أنَّ عِيسَى لَم يَتَوفْه اللَّهُ بِمَعْنَى الْمَوْتِ ، فَإِنَّهُ يَنْزِلُ عِنْدَ قُرْبِ السَّاعَةِ ، وَهُوَ عَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَماً عَدلاً مُقْسِطًا ، فَيَقْتَلُ الْخِنْزِيرَ ، وَيَكْسِر الصَّلِيبَ وَيَقْتَلُ الدَّجَّالَ ، وَيُؤْمِنُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُنَاسٌ .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ :  رَوى الإِمامُ البُخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ) فَيُقَدِّر اللَّهُ رُؤْيَا مُحَمَّدٍ لِعِيسَى عليْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنَامًا ، وَقَدْ وَصَفَ لَنَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَ عِيسَى ابنِ مريمَ عِنْدَ نُزُولِهِ فَقَال:( ليس بَيْنِي وَبَيْنَ عِيسَى نَبِيُّ وَأَنَّه نَازِلٌ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوه رَجُلٌ مَرْبُوعٌ عَلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ يَنْزِلُ بَيْنَ مُمَصَّرَتَيْن كَانَ رَأْسُهُ يَقْطُرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ ) صَحَّحه الأَلبَانِي ، وَيَكُون نُزُولُهُ فِي وَقْتٍ اِصْطَفَّ فِيه الْمُقَاتِلُون الْمُسْلِمُون لِصَلَاةِ الْفَجْرِ ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْداللَّه قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَال فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ : تَعَالَ صَلِّ لَنَا فَيَقُول : لَا  إنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ  تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الأمَّةَ ) رَواه مُسلمٌ .
وَهَكَذَا يَتَّضِحُ لِكُلِّ ذِي عَقْلٍ مَدَى التَّوَافُقِ والتَشَابِهِ الدَّعَوي والعَقَدِي بَيْن نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عِيسَى بْنِ مَرِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جاءَ في حَديثٍ صَحِيحٍ رَواه أبوهريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّه قال: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (الأنبياءُ إخوَةٌ لعَلَّاتٍ: دِينُهم واحِدٌ، وأُمَّهاتُهم شَتَّى، وأنَا أوْلى النَّاسِ بعيسى ابنِ مَريمَ...) .
الخطبة الثانية
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : لَمْ تَنْتَهِ قِصَّةُ عِيسَى بَعْد فسيقف عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أمَامَ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَيَسْأَلُه عَلَى رُؤُوسِ الْإِشْهَاد مَاذَا قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) ، ويَقولُ اللهُ تَعالى : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا ) .
 
ويُخبرُ أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال : ( والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بي أحَدٌ مِن هذِه الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، ولا نَصْرانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ ولَمْ يُؤْمِنْ بالَّذِي أُرْسِلْتُ به، إلَّا كانَ مِن أصْحابِ النَّارِ ) فمَن عَلِم بمَجيءِ رسولِ اللَّهِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يُؤمِنْ به ولا بالذي أُرْسِلَ به، ليس بمُؤمِنٍ وهو مِن أهلِ النَّارِ حتَّى لو ادَّعى أنَّه يُؤمِن باللهِ وببعضِ الرُّسُل .
المشاهدات 792 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا