الوقف أفضل من الوصية

سليمان بن خالد الحربي
1444/03/09 - 2022/10/05 13:52PM

 

الخطبة الأولى:

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ؛ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ وَاقْتَفَىٰ أَثَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الـمُسْلِمُونَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ:

مَعْشَرَ الإِخْوَةِ: مِنَ الأَخْطَاءِ الـمُنْتَشِرَةِ وَالـمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ كَوْنُ الـمَرْءِ يُوصِي مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَتْرُكْ وَرَثَتَهُ أَغْنِياءَ، وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا كَثِيرًا، وَالـمُفَارَقَةُ العَجِيبَةُ فِي هَذَا الـمَوْضُوعِ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ قَدْ تَرَكُوا شَيْئًا مَشْرُوعًا فَعَلَهُ الرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفَعَلَهُ أَصْحَابُهُ، أَلَا وَهُوَ الوَقْفُ.

فَحِينَ يَنْقِلُ العُلَمَاءُ أَنَّ أَكْثَرَ صَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يُوصُوا، بَيْنَمَا يَنْقُلُونَ أَنَّ أَكْثَرَ صَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ وَقَفَ، قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذُو مَقْدِرَةٍ إِلَّا وَقَفَ»([1]).

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: (وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الَّذِي قَدَرَ مِنْهُمْ عَلَى الوَقْفِ وَقَفَ، وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا)([2]).

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: (بَلَغَنِي أَنَّ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْأَنْصَارِ تَصَدَّقُوا صَدَقَاتٍ مُحَرَّمَاتٍ مَوْقُوفَاتٍ)([3]). وَقَالَ أَيْضًا: (أَكْثَرُ دُورِ مَكَّةَ وَقْفٌ)([4]). بَلْ قَدْ فَسَّرَ العُلَمَاءُ الصَّدَقَةَ الجَارِيَةَ فِي الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»([5]). قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: (والصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ هِيَ الْوَقْف)([6]).

وَالشَّيْءُ الـمَوْقُوفُ هُوَ مَا حُبِسَ أَصْلُهُ وَسُبِّلَتْ مَنْفَعَتُهُ، فَيُحْفَظُ أَصْلُهُ عَنِ البَيْعِ وَالهِبَةِ، وَعَوَائِدُهُ وَمَنَافِعُهُ تَكُونُ لِـمَنْ حَدَّدَهُ الوَاقِفُ، وَهَذَا سَبَبُ كَوْنِهَا صَدَقَةً جَارِيَةً.

وَمَنْ تَأَمَّلَ القُرْآنَ وَالسُّنَّةَ وَجَدَ أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يَمْتَدِحُ الَّذِينَ يُقَدِّمُونَ عَطَاءَهُمْ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ وَلَيْسَ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ، تَأَمَّلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 110]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20]. وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12].

فَتَأَمَّلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا تُقَدِّمُوا}، أَيْ: أَنَّ أَعْمَالَكَ تَتَقَدَّمُكَ فِي حَالِ حَيَاتِكَ، وَهَذَا دَلِيلُ الإِيمَانِ وَدَلِيلُ السَّلَامَةِ مِنَ الشُّحِّ وَالبُخْلِ.

وَتَأَمَّلَ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المنافقون: 10].

وَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ؟ فَقَالَ: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى وَلَا تُمْهِلْ»([7]). فَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الشُّحَّ غَالِبٌ فِي حَالِ الصِّحَّةِ، فَإِذَا شَحَّ فِيهَا وَتَصَدَّقَ كَانَ أَصْدَقَ فِي نِيَّتِهِ وَأَعْظَمَ لِأَجْرِهِ، بِخِلَافِ مَنْ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْت، وَآيَسَ مِنَ الْحَيَاةِ، وَرَأَى مَصِيرَ الـمَالِ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّ صَدَقَتَهُ حِينَئِذٍ نَاقِصَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالَةِ الصِّحَّةِ وَالشُّحِّ؛ رَجَاءَ الْبَقَاءِ وَخَوْفَ الْفَقْرِ.

قَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: (اعْلَمْ أَنَّ الـمُتَصَدِّقَ مُخْرِجٌ لِـمَحْبُوبِهِ عَنْ يَدِهِ، وَهَذَا الـمَحْبُوبُ مُعَدٌّ لِلإِنْفَاقِ فِي الْأَغْرَاضِ، وَمُعْظَمُ الْأَغْرَاضِ تَكُونُ فِي الصِّحَّةِ، فَإِذَا كَانَ أَخْرَجَهُ فِي الْمَرَضِ فَقَدْ بَدَتْ أَمَارَاتُ الاسْتِغْنَاءِ عَنِ الـمَالِ، فَلَا يَلْحَقُ بِدَرَجَةِ الـمُعْطِي فِي الصِّحَّةِ)([8]).

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَثَلُ الَّذِي يَعْتِقُ عِنْدَ الْمَوْتِ، كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي إِذَا شَبِعَ»([9]).

وَالوَقْفُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّدَقَاتِ الـمَنْدُوبَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَفْضَلُهَا وَأَدْوَمُهَا وَأَتْقَنُهَا وَأَعَمُّهَا، فَالوَقْفُ -عِبَادَ اللهِ- عُلُوٌّ لِلْوَاقِفِ، وَعِزِيمَةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِلْقَضِاءِ عَلَى الجَشَعِ وَالشُّحِّ وَحُبِّ الذَّاتِ، الوّقْفُ رَحْمَةٌ وَإِحْسَاسٌ نَبِيلٌ، وَدَعْمٌ بَالِغٌ لاقْتِصَادِ الـمُجْتَمَعِ الـمُسْلِمِ؛ لأَنَّ الأَوْقَافَ الخَيْرِيَّةَ تُعَدُّ مِنْ أَهَمِّ مُقَوِّمَاتِ الـمُجْتَمَعَاتِ النَّاجِحَةِ اقْتِصَادِيًّا؛ إِذْ يُمَثِّلُ أَحَدَ مِحْوَرِيِ الاقْتِصَادِ، وَهُوَ الـمِحُوَرُ الأَهْلِيُّ الـمُؤَسَّسِيُّ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُشَجِّعُ الصَّحَابَةَ عَلَى الوَقْفِ وَيَمْتَدِحُهُمْ عَلَيْهِ؛ حَتَّى قَالَ لِأَبِي طَلْحَةَ لَـمَّا تَصَدَّقَ بَبُسْتَانِهِ، قَالَ لَهُ: «بَخٍ بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ»([10]).

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]. بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الـمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.


الخطبة الثانية:

الحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلهَ إِلَّا اللهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلى جَنَّتِهِ وَرِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ. أَمَّا بَعْدُ:

مَعْشَرَ الإِخْوَةِ: لَوْ لَمْ يَأْتِ مِنَ الوَقْفِ حَالَ الحَيَاةِ إِلَّا أَنَّ الـمَرْءَ يَحُوطُ صَدَقَتَهُ بِنَفْسِهِ وَلَا يُقْلِقُ وَرَثَتَهُ فِي اسْتِخْرَاجِ حَقّهِ مِنْ تَرِكَتِهِ، كَمْ مِنَ الوَصَايَا لَهَا سِنِينَ عَدَدًا وَإِلَى الآنَ مَا اسْتَفَادَ الـمَيِّتُ مِنْهَا شَيْئًا؟! وَهِيَ تَبْلُغُ الأَمْوَالَ الطَّائِلَةَ، وَالـمَيِّتُ يَنْتَظِرُهَا، وَالوَرَثَةُ يَنْتَظِرُونَ غَلَاءَ أَسْعَارِهَا السِّنِينَ الطَّوِيلَةَ!

لَوْ كَانَ لِلأَمْوَاتِ رِكْزٌ وَصَوْتٌ لَسَمِعْنَا أَنِينَهُمْ مِنْ مَنْعِهِمْ لِحُقُوقِهمْ مِنْ قِبَلِ الوَرَثَةِ؛ أَرَاضٍ وَعِمَارَاتُ وَأَمْوَالٌ طَائِلَةٌ قَدْ بَقِيَتْ، إِمَّا بِسَبَبِ خِلَافِ الوَرَثَةِ، أَوْ بِسَبَبِ قِلَّةِ وَعْيِهِمْ، أَوِ اسْتِهْتَارِهِمْ، بَلْ أَحْيَانًا كَانَتْ سَبَبًا لِخُصُومَاتِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ. تَذَكَّرَ كَلَامَ نَبِيِّكَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ».

وَقَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: وَمَا الَّذِي أُوقِفُهُ؟ وَالجَوَابُ: أَنَّ الـمَرْءَ يُوقِفُ مَا يَسْتَطِيعُ دُونَ الإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، فَالغَنِيُّ يُوقِفُ إِمَّا عِمَارَةً أَوْ مَحَلًّا تِجَارِيًّا أَوْ نُقُودًا لِلْقَرْضِ -فِي أَصَحِّ قَوْلَي أَهْلِ العِلْمِ- لِلْفُقَرَاءِ وَالـمَسَاكِينِ وَالأَيْتَامِ، أَوْ فِي أَجْهِزَةٍ يَحْتَاجُهَا الـمَرْضَى وَالـمُسْتَشْفَيَاتُ، أَوْ فِي الـمَسَاجِينِ، وَتَحْفِيظِ القُرْآنِ الكَرِيمِ وَتَعْلِيمِهِ، وَتَعْلِيمِ العِلْمِ، وَفِي الإِعْلَامِ الـمُحَافِظِ الَّذِي يَدْعُو إِلَى الإِسْلَامِ وَتَبْلِيغِ شَرِيعَةِ اللهِ تَعَالَى، أَوْ فِي إِصْلَاحِ طُرُقِ الـمُسْلِمِينَ، أَوْ حَفْرِ آبَارِهِمْ وَإِعَادَةِ إِعْمَارِهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَمَنْ حَالُهُ دُونَ ذَلِكَ فَلْيُوقِفُ سَيَّارَةً يَسْتَفِيدُ مِنْهَا الـمُحْتَاجُونَ أَوِ الـمُعَلِّمُونَ، أَوْ يُوقِفُ بَرَّادَةً أَوْ مَكْتَبَةً لِلْبَحْثِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَمَنْ كَانَتْ حَالُهُ دُونَ ذَلِكَ فَلْيُوقِفُ مُصْحَفًا أَوْ كِتَابًا أَوْ جِهَازًا يَحْتَاجُهُ الفَقِيرُ وَالـمِسْكِينُ، أَوْ يُشَارِكُ فِي مَشْرُوعٍ مِنْ مَشاَريِع ِالوَقْفِ الَّتِي فِي كُلِّ يَوْمٍ تَعْلِنُ الجِهَاتُ الرَّسْمِيَّةُ وَالـمَوْثُوقَةُ عَنْهَا، وَيَكُونُ مُشَارِكًا فِي الوَقْفِ.

إِنَّ فِكْرَةَ الوَصِيَّةِ الـمَالِيَّةِ قَدْ حَجَبَتْ عَنِ الكَثِيرِ مِنَّا التَّفْكِيرَ بِالوَقْفِ حَالَ الحَيَاةِ وَالـمُشَارَكَةَ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِكَ فِي وَقْفِكَ الَّذِي تَدَّخِرُهُ، وَلَوِ اجْتَهَدْتَ فِي هَذَا الأَمْرِ لَوَجَدْتَ أَنَّكَ فِي كُلِّ شَهْرٍ تُشَارِكُ فِي وَقْفٍ مِنَ الأَوْقَافِ؛ حَتَّى تَبْلُغُ عِنْدَ اللهِ مَبْلَغًا عَظِيمًا، وَتَتَقَدَّمُ عَلَيْكَ قَبْلَ أَنْ تَتَقَدَّمُهَا.

وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاودَ وابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا: «لِأَنْ يَتَصَدَّقَ الْمَرْءُ فِي حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ بِدِرْهَمٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عِنْدَ مَوْتِهِ»([11]). وَاللهُ يَقُولُ: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران: 133، 134].

أَنْفِقُوا فِي سَرَّائِكُمْ وَضَرَّائِكُمْ قَدْرَ اسْتِطَاعَتِكُمْ؛ لِتَجِدُوهَا أَمَامَكُمْ، فَالرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ»([12]).

فَدَعْوَةٌ إِلَى أَنْ يَبْدَأُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا بِمَشْرُوعِهِ الوَقْفِيِّ عَلَى حَسَبِ قُدْرَتِكَ، دُونَ أَنْ تَضُرَّ نَفْسَكَ وَتَضُرَّ أَهْلَكَ، وَإِنَّمَا أَوَّلُ السَّيْلِ قَطْرَةٌ، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].

ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى رَسُولِ الهُدَى وَإِمَامِ الوَرَى، فَقَدْ أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].



([1]) أخرجه أبو بكر الخصاف في أحكام الأوقاف (ص6) عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: (لـمَّا كتب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- صدقته فى خلافته دعا نفرًا من المهاجرين والأنصار، فأحضرهم ذلك، وأشهدهم عليه، فانتشر خبرها، فلم أعلم أحدًا كان له مال من المهاجرين والأنصار إلا حبس مالًا من ماله صدقة مؤبدة لا تُشترى ولا تُوهب ولا تُورث). وفي رواية: (لم أعلم أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أهل بدر من المهاجرين والأنصار إلا وقد وقف من ماله حبسًا لا يُشترى ولا يُورث ولا يُوهب؛ حتى يرث الله الأرض ومن عليها). وأورده الألباني في إرواء الغليل (1582) (6/29)، وأغفله من التخريج.
([2]) المغني لابن قدامة (6/4).
([3]) أخرجه البيهقي في معرفة السنن والآثار (9/41) (12286).
([4]) ذكره أبو البقاء الدميري في النجم الوهاج في شرح المنهاج (5/454).
([5]) أخرجه مسلم (1631).
([6]) شرح النووي على مسلم (11/85).
([7]) أخرجه البخاري (1419)، ومسلم (1032).
([8]) كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/475).
([9]) أخرجه أحمد (36/51)، وأبو داود (3968)، والترمذي (2123).
([10]) أخرجه البخاري (1461)، ومسلم (998) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
([11]) أخرجه أبو داود (2866)، وابن حبان (8/125).
([12]) أخرجه البخاري (6514)، مسلم (2960) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

المرفقات

1664967152_الوقف أفضل من الوصية.doc

المشاهدات 443 | التعليقات 0