الوفاء

صالح العويد
1438/05/20 - 2017/02/17 07:20AM

أما بعد فأوصيكم ونفسي بتقوى الله والوفاء بعهد الله بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران: 76]
أدب ربَّاني كبير، وخلق نبوي حميد وسلوك إسلامي نبيل، يجمُلُ بكل أحدٍ أن يتحلَّى به إنه الوفاء ، فهو الإخلاصُ الذي لا غدرَ فيه ولا خِيانَة، وهو البذلُ والعطاءُ بلا حُدود. الوفاءُ ديانةٌ ومروءة، وهو من شِيَم الكرام، ومجمَعُ الأخلاق الفاضِلة،
الوفاءُ صفةٌ من صفاتِ الله تعالى، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة: 111].
والوفاءُ من صفةِ الأنبياء، وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: 37]، وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم: 54].ونبينا صلى الله عليه وسلم خُلُقُه الوفاء، الوفاءُ لربه، وقد كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أعبَدَ الناس، وفَّى لربِّه أعلى مقامات العبودية، كان - صلى الله عليه وسلم - يقول: «واللهِ إني لأتقاكُم لله وأخشاكُم له».الوفاءُ من سِمات الإيمان، قال الله - عز وجل -: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا [البقرة: 177]والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ، وهو من صفات المُتقين، ومن أعظم أسباب تحصيل التقوَى، قال - سبحانه -: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران: 76]، وسبيلٌ إلى أعلى الدرجات، وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 10].وفي مدحِ المُؤمنين: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ [الرعد: 20]. وكفى بالوفاء فضلاً وشرفاً أن الله عز وجل قد أمر به في محكم التنزيل بلجعل الله العبد مسؤلا عنه يوم القيامة فقال تعالى: ( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً )؛ وقال تعالى مادحاً أهله: (الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق)؛ والآياتُ التي تتحدَّثُ عن الوفاءِ تربُو على عشرين آية، وجميعُ الآيات التي وردَ فيها لفظُ (العهد) و(الميثاق) تدلُّ على ذلك فأي عظمة لهذا الخلق العظيم . والوفاءُ بمعناه الواسِع: القيامُ بالحقوق، وجزاءُ الإحسان، ورعايةُ الوُد، وحِفظُ العهد.
وأعظمُ الوفاء: هو الوفاءُ بحقِّ الله تعالى، وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة: 40]، وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا [الأنعام: 152].قال ابن جريرٍ - رحمه الله -: "وعهدُه إياهم أنهم إذا فعلُوا ذلك أدخلَهم الجنة". اهـ. فالتزامك بدين الله.. وإتباعك لشرع الله ومنهج رسوله صلى الله عليه وسلم ..هذا عهد..قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كل ما أحل الله وما حرم.. وما فرض في القرآن فهو عهد".. فمن تهاون ياعباد الله وقصرفي شيء من ذلك فقد نكث عهده مع الله. فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيما
والوالِدان أحقُّ الناس بالوفاء، خاصَّةً مع الحاجة وكِبَر السنِّ، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 23، 24].وفي التعامُل مع الخلق: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1].وفي الحياة الأُسريَّة يجبُ أن يكون الوفاءُ حاضرًا في كل الأحوال، فأكبرُ عهدٍ بين إنسانَين هو ميثاقُ الزواج، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أحقُّ ما أوفيتُم من الشروط: أن تُوفُوا به: ما استحللتُم به الفُروج»؛ رواه البخاري.والله تعالى يقول: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء: 21ومن الوفاء الوفاء للأبناء وتربيتهم التربية الصالحة فالأب راع ومسؤول عن رعيته ومن الوفاء وهو مما قل في زمننا هذا والله المستعان الوفاء للأصحاب والأصدقاء
قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: كنتُ جالِسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبلَ أبو بكرٍ آخِذًا بطرف ثوبِه حتى أبدَى عن رُكبتِه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أما صاحبُكم فقد غامَرَ»، فسلَّم وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطَّاب شيءٌ فأسرعتُ إليه، ثم ندِمتُ، فسألتُه أن يغفِرَ لي فأبَى عليَّ، فأقبلتُ إليك. فقال: «يغفِرُ الله لك يا أبا بكر، يغفِرُ الله لك يا أبا بكر، يغفِرُ الله لك يا أبا بكر (ثلاثًا)».ثم إن عُمر ندِمَ فأتى منزل أبي بكرٍ، فقال: أثَمَّ أبو بكر؟! فقالوا: لا، فأتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فسلَّم، فجعلَ وجهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمعَّر، حتى أشفقَ أبو بكرٍ فجثَا على رُكبتَيه، فقال: يا رسولَ الله! واللهِ أنا كنتُ أظلَم، واللهِ أنا كنتُ أظلَم (مرتين).فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله بعثَني إليكم، فقلتُم: كذبتَ، وقال أبو بكرٍ: صدقَ، وواساني بنفسِه ومالِه، فهل أنتُم تارِكوا لي صاحبي؟! فهل أنتُم تارِكوا لي صاحبي؟! (مرتين)». قال أبو الدرداء: فما أُوذِيَ أبو بكرٍ بعدها.
عباد الله:
الوفاء كلمة صغيرة جدا ولكنها تحمل من المعاني الكثير فكونوا أوفياء لربكم أوفياء لدينكم أوفياء لنبيكم عليه الصلاة والسلام أوفياء لكتاب ربكم في كل جوانب دنياكم وأخراكم وحذار حذارمن الغَدروالخيانةَ فإنها بئست البطانة ومن خِصال النفاق والفُجور؛ عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أربعٌ من كُنَّ فيه كان مُنافقًا خالِصًا: من إذا حدَّث كذَب، وإذا وعَدَ أخلَف، وإذا عاهَدَ غدَر، وإذا خاصَمَ فجَر، ومن كانت فيه خصلةٌ منهن كانت فيه خَصلةٌ من النفاق حتى يدَعَها»؛ رواه البخاري ومسلم. وفي سنن أبي داود (عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ: « إِنَّ الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ ».. ووصف الله الذين ينقضون الميثاق أنهم أصحاب اللعنة وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ نعوذُ بالله من الخذلان، ومن مسالِك الشيطان. ومن نقض العهود والوعود بارَك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفَعَنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله تعالى لي ولكم.

الحمد لله العظيم، وصلواتُ الله وسلامُه على نبيِّه الكريم، وأشهَدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهَدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.
وبعدُ، أيها المُؤمنون: إن هذه الأمة التي ننتسب لها هي أمة الوفاء رجالا ونساءَ صغارا وكبارا قادة وجندا حكاما ومحكومين في الحرب والسلم وفي الشدة والرخاء روى مسلم في صحيحه " أن حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ قَالَ مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلاَّ أَنِّى خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِى - حُسَيْلٌ - قَالَ فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا فَقُلْنَا مَا نُرِيدُهُ مَا نُرِيدُ إِلاَّ الْمَدِينَةَ. فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلاَ نُقَاتِلُ مَعَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ  فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ فَقَالَ :« انْصَرِفَا نَفِى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ ». ومن هنا جاءت العهود والمواثيق بين دولتنا الحبيبة المملكة العربية السعودية وبين الدول الأخرى التي ترتبط معها بمصالح سياسية أو اقتصادية أو عسكرية. فكانت رائدة في الوفاء به وحسن أدائه، لا يُعرف عنها الغدر ولا الخيانة، حتى في أحلك الظروف وأقساها، بل إنها تنصف من نفسها قبل أن تطلب الإنصاف من غيرها.وشر الدواب أولئك الذين يعاهدوننا ثم ينقضون عهودهم، خسة وخيانة، وجزاؤهم شديد وعقابهم أليم يوم القيامة ، ليكونوا عبرة لغيرهم ونكالا للآخرين: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } [الأنفال: 55 - 57].وأقرب مثال على ما ذكر، انتهاك المليشيات الحوثية في اليمن ومن معهم من قوات الاتفاقيات والمعاهدات ونقضهم للهدنة، فلم يعد للعهود مكانًا، ولا للمواثيق احترامًا، إلا ما ندر ممن يؤمن بالله واتخذ القرآن له دستورًا وأمانًا، ألا فاتقوا الله - عباد الله -، ووطِّنُوا أنفسَكم على ما أمرَ به دينُكم من الحالِ الجَميل، والخُلُق النبيل.
وإن من الوفاءِ لمن أخرجَنا الله به من الظُّلُمات إلى النور، وهدانا به وأرشدَنا: كثرةُ الصلاة والسلام عليه
المشاهدات 1204 | التعليقات 0