الوفاء

د. محمود بن أحمد الدوسري
1440/06/01 - 2019/02/06 14:16PM
الوفاء
د. محمود بن أحمد الدوسري
1/6/1440
      الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين, وبعد: الوفاء خُلُق حميد, تفاخَرَ به العرب قديماً, وأكَّده الإسلام أيما تأكيد, يقول الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]؛ ويقول سبحانه: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [الإسراء: 34]. 
     ومن وصايا النبي الكريمة التي تحضُّ على الوفاء, وتأمر به, وتعيب مَن اتَّصف بضده: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ, وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ, وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» رواه البخاري ومسلم.
      وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ» صحيح - رواه أحمد في "المسند"؛ ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم فيه بالمحل الأفضل, والمقام الأسمى, فوفاؤه, وصلته لأرحامه كانت مضرب المثل, وحُقَّ له ذلك وهو سيد الأوفياء.
    وقد امتدح الله تعالى بالوفاء عباده المؤمنين الذين صدقوا عهودهم مع الله تعالى, ومع الناس, ورعوا الأمانات المختلفة الدينية والدنيوية, وثبتوا على هذه الحال حتى لقوا ربهم, قال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 1-8]؛ وقال سبحانه: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].
     وجعل الإسلامُ نقيضَ هذه الصفة من صفات المنافقين؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ» رواه البخاري ومسلم. 
     وهناك نصوص شرعية كثيرة تأمر بالوفاء, قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [الإسراء: 34]؛ وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91]. وجاء الأمر بالوفاء في جميع الأمور: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]؛ وقال سبحانه: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام: 152].
    والقرآن الكريم يدعو الناس إلى الوفاء بالعهود والعقود حتى مع الأعداء, وحذَّرهم من التشبه باليهود الذين قالوا: لا حرج علينا في حبس أموال العرب فقد أحلَّها الله لنا؛ لأنهم ليسوا على ديننا, وكانوا يستحِلُّون ظلم مَنْ خالفهم في دينهم, والله تعالى أمر المؤمنين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].
      عباد الله .. إن الوفاء بالعهد صفةٌ لأولياء الله, قال سبحانه: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد: 19, 20].
والإسلام ينهى عن الخيانة, حتى مَنْ يُخشى خيانته من الأعداء, فلا ينبغي خيانتهم؛ لأن الخيانة خُلُقٌ ذميم, واللهُ تعالى لا يُحبُّ الخائنين, قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]؛ فإذا خاف النبي صلى الله عليه وسلم أو أتباعه - من قوم عاهدوهم - خيانةً بإمارة تلوح أو تُرشد إلى ذلك, فلا ينبغي للمسلم أن يخون بناءً على ما ظهر من إقدام العدو على الخيانة, ولكن عليه أنْ يُبيِّن لهم أنَّ العهد الذي بيننا وبينكم قد أُلغي.
       والوفاء بالعهد خُلُق نبوي كريم, جعله الله تعالى صفةً لأنبيائه, فقال الله تعالى في إبراهيم - عليه السلام: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [الأنفال: 58], وذلك حين ابتلاه ربُّه بكلمات وأوامِرَ ونواهٍ؛ فأتمَّهن, وقام بهنَّ, وحين قدَّم ولده إسماعيل قُرباناً تنفيذاً لأمر الله, وحين صبر على النار ابتغاء مرضاة الله.
      وقال الله تعالى - في إسماعيل - عليه السلام: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا} [مريم: 54]. تأمَّل كيف قدَّم صِدقَ الوعد على الرسالة والنبوة في مقام الثناء على إسماعيل - عليه السلام.
     عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: (سَأَلَنِي يَهُودِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ: أَيَّ الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قُلْتُ: لاَ أَدْرِي, حَتَّى أَقْدَمَ عَلَى حَبْرِ الْعَرَبِ فَأَسْأَلَهُ. فَقَدِمْتُ، فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقَالَ: قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَالَ فَعَلَ) رواه البخاري. لأنَّ والد الفتاتين خيَّره: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} فأجابه موسى: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 27, 28]. هكذا هي أخلاق الأنبياء.
      وأمَّا سيد الأوفياء محمد صلى الله عليه وسلم, فسيرته مليئة بذلك مع أصحابه وأعدائه, وأهله, وقِصَّةُ وفائه مع خديجة - رضي الله عنها - مشهورة, ومن أهم أسباب اقترانها بالنبي صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة - أمانتُه وصِدقُه ووفاؤه, وكان كثيرَ الثناء عليها بعد موتها, عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: (مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ، ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلاَّ خَدِيجَةُ). فَيَقُولُ: «إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ» رواه البخاري. وفي لفظٍ لمسلم: قال: «إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا».
        وذات يومٍ استأذنتْ هالةُ بنتُ خُويلدٍ أختُ خديجة - وكان صوتُها يُشبه صوتَ خديجة, واستئذانُها يُشبه استئذانَ خديجة, وذلك بعد موت خديجة بزمان, تقول عائشة - رضي الله عنها: (اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ فَارْتَاعَ لِذَلِكَ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَالَةَ». قَالَتْ: فَغِرْتُ, فَقُلْتُ: مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ، حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ، هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا) رواه البخاري ومسلم. وبوَّب البخاري - على مثل هذه الأحاديث - بقوله: باب: حُسْنُ الْعَهْدِ مِنَ الإِيمَانِ.
 
الخطبة الثانية
      الحمد لله ... أيها المسلمون .. ومن أنواع العهود التي بين العبد وربِّه تبارك وتعالى: الإيمانُ بالله - وهو أعظم العهود - قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172].
       والإحسانُ بالقول والفِعْل عهدٌ مع الله, وكذا إقامةُ الصلاة وإيتاءُ الزكاة, قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة: 83]. والمعرضون هم الذين نكثوا عهدهم مع الله تعالى, وارتكبوا الإساءة, وابتعدوا عن الإحسان, وتهاونوا بشرع الله؛ بل وتركوا الصلوات بعد أن أبرموا عهداً مع الشيطان.
       ونشرُ العلم وبيانُه عهدٌ مع الله, قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187].
     وبَيْعُ النفسِ والمالِ بالجنة عهدٌ مع الله, قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]. قال شِمْرُ بنُ عطيَّة: (ما من مسلم؛ إلاَّ وللهِ في عُنقه بَيعةٌ؛ وفَّى بها, أو مات عليها), ثم تلا هذه الآية.
      وأما العقودُ والعهودُ التي بين الناس بعضهم بعضاً, فكثيرة ومتنوعة, ومن أهمها: الوفاء بعقد الزوجية, فلهذا العقد حُرمته ومكانته, وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَحَقُّ مَا أَوْفَيْتُمْ مِنَ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ؛ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» رواه البخاري. فأيُّما رجلٍ تزوَّج امرأةً ليس في نفسه أن يؤدِّيها حقَّها؛ فقد خدعها, ووقع تحت طائلة العقاب.
       وتربيةُ الأولاد عهدٌ مع الله تعالى, قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً - يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ - إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» رواه مسلم. فمَنْ أهمَلَه لم يُوف بما عهد إليه.
    أيها الإخوة الكرام .. للوفاء بعهد الله تعالى فوائد عظيمة, وللوفاء أيضاً مع الأصدقاءِ والجيرانِ والخِلاَّنِ وعمومِ الناس فوائدُ كثيرةٌ ومتنوعة, ومن أهمها:
1- مَنْ أوفى بعهد الله؛ من توحيده وإخلاص العبادة له، أوفى اللهُ بعهده؛ من توفيقه إلى الطاعات, وأسباب العبادات.
2- الذين يُوفُون بعهد الله، هم أولو الألباب, وهم الذين باعوا أنفسَهم وأموالَهم لله, فوَعَدَهم أنَّ لهم الجنةَ, ومَنْ أوفى بعهده من الله؟
3- مَدَحَ اللهُ المُوفِين بعهودهم كثيراً في القرآن.
4- الوفاء صفةٌ أساسية في بُنية المجتمع الإسلامي، حيث تشمل سائر المعاملات، إذْ كلُّ المعاملات, والعلاقات الاجتماعية, والوعود والعهود تتوقَّف على الوفاء، فإذا انعدم الوفاء انعدمت الثقة، وساء التَّعامل, وساد التَّنافر.
5- من أهمِّ الوفاء: الوفاء بالعهود؛ من بَيْعة, وبَيْع, ودَين, ونَذْر, وشروطٍ تتعلَّق بالمعاملات المالية والاجتماعية.
6- المُسلم - المتمسِّك بالوفاء في كلِّ أحواله - يجد في نفسه سعادةً عظيمة, عندما يوفِّي حقوقَ الله تعالى كاملة, وحقوقَ إخوانه المسلمين. ولا ينسى حقَّ أهلِه, ونفسِه عليه, فيُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
المرفقات

328260

328260

المشاهدات 750 | التعليقات 0