الوطن بين الانتماء والواجب، د. صالح مبارك دعكيك
شادي باجبير
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة: الوطن بين الانتماء والواجب، د. صالح مبارك دعكيك، مسجد آل ياسر،9/8/2024م
*الحمد لله رب العالمين.
حب الأوطان من الإيمان، وهو أمر فطري يرتبط بالإنسان وموطنه، فإن الأوطان لها محبة وشغف وذكريات، فالأوطان جزء من كينونة الشخص، ونفسيتِه، وذكرياتِه، وتاريخه، وحنينه، حتى الأنبياء وهم صفوة الخلق كانوا على محبة حنينية لأوطانهم، التي هي مسقط رؤوسهم فيها.
ثبت في البخاري (3) أن خديجة رضي الله عنها حينما ذهبت بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ورقة ابن نوفل، بعد حادثة غار حراء، قال ورقة: (هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو مخرجيَّ هم»، قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي).
ففي مفارقة الأوطان مشقة شديدة على النفس، تكدر الخاطر، وتلقي بهمومها عليها.
وفي جامع الترمذي (3926) وصححه، من حديث عبد الله بن عدي - رضي الله عنه - قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفا على الحَزْوَرة – موضع سوق في مكة- فقال: « والله إنكِ لخيرُ أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلىَّ ، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت» وفي رواية: «ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك».
أنها محبة الأوطان التي تستجيش الخاطر، وتنطق بها اللسان.
وحينما هاجر نبينا عليه الصلاة والسلام إلى المدينة مع أصحابه واستوطنوها، كانت تتناوبهم فيها الأوبئة، وكان المهاجرون يصابون كثيرا بوبائها وحمتها، حتى مرض يوما بلال فقال: "اللهم العن شيبةَ بن ربيعة، وعتبةَ بن ربيعة، وأميةَ بن خلف، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء" فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا، وصححها لنا، وانقل حُمَّاها إلى الجحفة». رواه البخاري(1889) ومسلم (480). ودعَا عليه الصلاةُ والسلامُ بالبركةِ فيها وفي رِزقِهَا، كمَا دعَا إبراهيمُ عليه السلامُ لِمَكةَ.
ولِهذَا طَمأَنَ اللهُ تعالى نَبيَّهُ صلى اللهُ عليه وسلم وأنزلَ عليهِ قَولَهُ: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قالَ ابنُ عبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: أَيْ رَادُّكَ إلى مَكةَ. رواه البخاريُّ (4773).
وكذلكَ كان رَسول اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم إذَا خَرج من المدينة لغزوَة أَو نَحوها تَحَرَّكتْ نَفسه إليهَا؛ فعَن أَنسِ بنِ مَالكٍ رضي اللهُ عنه قالَ: «كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ المَدِينَةِ، أَوْضَعَ نَاقَتَهُ -أي أَسْرع بِهَا-، وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا».. رواهُ البُخاريُّ. قالَ ابنُ حَجرٍ في "الفَتحِ": "فيهِ دَلَالَةٌ علَى فَضلِ المدينة، وعلَى مَشروعيةِ حُبِّ الوَطَنِ والحَنينِ إليهِ".
أيها الأكارم:
لقد نظَّم الإسلام قضايا الأفراد والمجتمعات، وفصَّل ما يجب على الفرد والجماعة من حقوق وآداب، فالوطن ليست فقط أرضا وترابا وشجرا وحجرا، بل هو مع ذلك: قيم كريمة، ومبادئ ثابتة، وتقاليد حميدة.
الوطن تكافل اجتماعي، وتعاون أخوي، وروابط متينة، رعتها الملة السمحاء، وأكدتها الشريعة الغراء، وجذرها الأجداد والآباء، والجميع فيه نسيج اجتماعي واحد، لا يفصل بينها لون جسدي، ولا انتماء قبلي، ولا مستوى مالي، ولا رسم حكومي، ولا موقع اجتماعي، ولا انتساب عرقي، فالجميع متساوون في الحقوق والواجبات، والكل سواء في حكم الشريعة والقانون، وأي خلل يتطرق لهذه الثوابت يترتب عليه أثر سلبي، ويعود شَرْخا على النسيج الاجتماعي، وربما تتوالى تلك الشروخ لتنتج انقساما في الوطن الواحد، لا تلبث أن تضترم نارا يحترق بها الجميع.
الوطن والوطنية ليست انتسابا للفخر، بل هي مسئولية نحملها، وواجبات نؤديها، وحقوق ندافع عنها، ومقدرات نحافظ عليها، إنه تعاون وإخاء، وتراص للصفوف، واجتماع لكلمة، ومحاولة لتجاوز نقاط الخلاف للوصول إلى النفع العام للمجتمع، ودفع المضار والأخطار عنه.
أيها الإخوة الكرام:
إن واجبنا الأعظم الذي يقع على عواتقنا جميعا نحوَ وطنِنا هو إيجاد الوطن الآمن المستقر المستقل، وذلك لا يتحقق إلا بأمور يجب مراعاتها:
أولا: الوطن الآمن المستقر هو الوطن الذي يقوم على جمع الكلمة، وتأليفِ القلوب، وانتظامِ الناس تحت ولاية واحدة، وقد عُلِم بالضرورة من دين الإسلام أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة؛ ولا تقوم مصالح الدنيا والدين إلا على هذه اجتماع الكلمة، وتوحيد الصف، والسمع والطاعة لولي الأمر في المعروف؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾. النساء: (59).
ثانيا: إن الوطن الآمن المستقر هو الوطن الذي يعمل قادته وأهل المشورة والحل والعقد فيه على نبذ الخلاف، ومحاصرة مواطن النزاع، ودفع الشقاق، والعمل بتفاني لتجاوز كل ما من شأنه إيقاعُ الفرقة والتشرذم، ومشروعية كل تجمع بقدر دعوته لجمع الصف، ونبذ الافتراق، وإلا فلا مشروعية له، قال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) ﴾. آل عمران.
ليس هناك أسوأ على الأمة من أن تدب فيها الفرقة في الوطن الواحد، فتجعل المجتمع مشرذما منقسما، حينها يجد العدو الثغرات للوصول إلى تقسيم الوطن بل وارتهانه، والواقع خير شاهد.
ثالثا: إن الوطن الآمن المستقر هو الوطن الذي تجذرت فيه أخلاق الإسلام، ومنها: خُلُق التعاون، والأخوة الإيمانية، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾. المائدة (2)، وقال تعالى:﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾.الحجرات: (10).
رابعا: إن الوطن الآمن المستقر هو الوطن الذي سقف قانونه، ومرجعيتُه العليا هو الشريعة الإسلامية الغراء، تلك الشريعة التي أنزلها الله ربانية لا بشرية، لتكون حَكَما بين الناس، ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾. الجاثية (18). ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)﴾. المائدة. ومن اتخذ غير الشريعة حكما وقانونا وفصلا فقد حكم بحكم الجاهلية، فالحكم بغير الإسلام هو حكم الجاهلية.
خامسا: إن الوطن الآمن المستقر هو الوطن الذي يسعى كلُّ فرد فيه للحفاظ عليه، وتنميته، يظهر ذلك في احترام أنظمته وقوانينه، في إخلاص الموظف في مصنعه وإدارته ومدرسته، في المحافظة على منشآته ومنجزاته، في الاهتمام بنظافته وجماله، في حفاظ الجميع على أمنه واستقراره والدفاع عنه، وعدمِ السماح بالتدخل فيه وارتهانه.
أيها الإخوة: إن الواجب علينا جميعاً أن نتواصى بتقوى الله تعالى، وأن نتمسك بولائنا لأمتنا وأرضنا، وأن نبذل ما في وسعنا لحمايتها والحفاظ عليها، والتضحية من أجل أن تكون آمنة مستقرة، وأن نقف في وجه كل محاولةٍ للإخلال بأمنها، أو الإضرار بمكتسباتها، أو العبث بمنشآتها، أو تفريق صفها، أو الإضرار بوحدتها الوطنية.
أقول ما تسمعون .....
((الخطبة الثانية))
عانى وطننا كثيرا خلال الفترات الماضية، ولا نكاد ننتهي من معاناة وفتنة حتى تلحقَها أختُها عياذا بالله تعالى، وكل ذلك مرتبط بسنن الله تعالى الجارية في الكون، ومنها سنة "تغيير الحال بتغير ما بالأنفس"، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾. الرعد (12). ومعناه كما قال الإمام ابن عطية في تفسير(3/ 302) : (أنه لا يغير ما بقوم- بأن يعذبهم ويمتحنهم معاقبا- حتى يقع منهم تكسب للمعاصي وتغيير ما أمروا به من طاعة.). وتالله لو صلحت نفوسنا وأمالنا يصلح الله بلادنا وأحوالنا، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ويظهر في ساحتنا بين الحين والآخر من ينادي بالحقوق المشروعة، والعمل على رفع المعاناة، ويحشد لذلك، ثم لا يلبث أن ينتهي كلُّ شيء، ويختفي أهلها كأن لم يكن شيئا.
جميل أن نجد في ساحتنا من يتصدر للمطالبة بالحقوق المشروعة، ويرفع شعارات رفع المظالم الواقعة، ويجمع الناس لذلك، في ظل الظروف الحالية، وغياب السلطات وعجزها.
لكن يجب أن يتوفر في المتصدرين الآتي:
أولا: الثبات على المبدأ، وصدق المقام، وسلامة القصد، ولن تثق الجماهير به إلا إن كانت صفحته بيضاء، وتاريخه نظيفا، وسيرته حسنة، وسلوكه مستقيما، فلن يُصلح إلا الصالح.
ثانيا: أن يوافقه على مشروعه عددٌ من أهل العلم والصلاح والدعاة إلى الله تعالى، وتوفر ذلك ذلك يعد تزكية له، ولمشروعه الإصلاحي.
ثالثا: أن لا يترتب على تلك المطالب المشروعة فتن وصدامات مع السلطات أو مع غيرها، ولا يكون هناك رفع للسلاح أو تهديد به، ذلك أن رفع السلاح ضد الدولة مهما كان باعثه فمصيره إلى الاقتتال والاحتراب، وذلك أمر لا تقره الشريعة الإسلامية، ولا أدبيات الفقه الشرعي، لوخامة عواقبه على البلاد والعباد.
وإن كانت السلطات داعية إلى الحوار والوفاق فذلك أمر مبارك يحتاج إلى التآزر عليه.
وطننا مسئوليتنا جميعاً، حمايته حماية لنا، وعزه عز لنا، واستقراره استقرار لنا، ومصابه مصاب علينا، إنه الوعاء الذي يحتضننا، إن طاب طبنا، وإن نكد تنكدنا.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحفظنا وبلادنا من سوء، وأن يهيأ لنا من أمرنا رشدا.
اللهم إن بالبلاد والعباد من الضنك وضيق المعيشة والافتراق والبلاء ما لا يرفعه غيرك، فأنزل علينا رحمتك ولطفك، أصلج اللهم أمرنا ، واجمع شملنا، ووحد كلمتنا، وول علينا خيارنا واصرف عنا أشرارنا، واجعل ولايتك فيمن خاف واتقاك يا أرحم الراحمين.
والحمد لله رب العالمين.