الورد اليومي من القرآن الكريم

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا)، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِه أجمعين.

أما بعد: فإن خيرَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ ﷺ  (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) 

عباد الله: الحياةُ في ظلال القرآن سعادة يعرِفُها من ذاقها، ونعمةٌ تُبارِكُ العُمر وتُزكِّيه، وتريح القلبَ وتهدِيه. وأيُّ نعمةٍ على هذا العبدِ الضعيفِ أعظمُ من أن يقرأ كلام الله تعالى ويتلوه (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). يجبُ أن تمتلِئَ النفوسُ فرحًا بهذا القرآن، ويفيضَ هذا الفرحُ والبُشرى على الحياة، وبهذه النعمة التي حمِدَ الله نفسَه عليها قبل أن يحمَده الحامِدون، فـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ)

 أيها الأحبة: أنزل الله كتابه وجعله نورا، والناس من غيره في ظلمات، وجعله تعالى روحا وحياة، وهداية وضياء. فسبحان من جعل كتابه أحسن الحديث، وأصدق الأقوال وأعلاها، قل صدق الله ومن أحسن من الله قيلا ومن أحسن من الله حديثا.

عباد الله: جعل الله تعالى تلاوة كتابه وترديد آياته وقراءة ألفاظه عبادة من العبادات، وعد أهلها بالفضل والجزاء، ورتب عليه سبحانه الأجور، يقول تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ - لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ). تأمل عبد الله كيف جعل الله تعالى تلاوة كلامه والمداومة عليها تجارة رابحة مع الله لا خسارة فيها، يصيب بها العبد الحظ الوافر من الخيرات والحسنات والبركات. وقال عليه الصلاة والسلام: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله بحسنة، والحسنة بعشر أمثالها" رواه الترمذي. فما أعظم فضل الله، وما أحسن كلامه، فكم سيجني المسلم من الأجور والحسنات. ولا يفطن المسلم لعظم الجزاء وجزيل الثواب إلا حين يجده يوم القيامة أمامه كالجبال. لم يرتبِ الله هذا الفضل العظيم على تلاوة كلامه إلا ترغيبا منه سبحانه لعباده ليقبلوا عليه، وينهلوا من بركاته. يقول عليه الصلاة والسلام "اقرأوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرأوا الزهراوين: البقرة، وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرأوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة " رواه مسلم.

أيها المؤمنون : لقد جعل الله تعالى لتالي كلامه بركاتٍ ومنحاً تصيبه، بركةُ في الوقت، وبركةُ في المال، وبركةُ في العلم، وبركة في العقل، وبركة على الأجساد، وبركة في البيوت؛ بل بركة في الحياة، يقول الله( كتاب أنزلناه إليك مبارك ).

وإن من الحرمان الانشغالُ عن كلام الله تعالى بكلام البشر، ومن عدم التوفيق هجر تلاوة القرآن، والاستغناء عن قراءته بالانكباب على الأجهزة والتحدث والتواصل والجوالات. وإن من الخذلان للعبد ألا يجد لكلام الله تعالى في يومه وقتا، ولا يكون للقرآن المجيد عنده مكانا، في مقابل الأوقات والساعات الطوال التي تقضى وتصرف في غير فائدة. مع أن المصاحف في البيوت والمساجد والمكاتب وفي كل مكان؛ بل جميعنا يحمل مصحفا الكترونيا في جيبه، يتنقل به لا يفارقه.

وإن من شر ما ابتلينا به عباد الله في أواخر السنين، أن تحولت أوقاتنا وهمومنا وحياتنا وتمحورت حول تلك الأجهزة والهواتف، فأكثرنا العكوف عليها في قيل وقال وكثرة للمشاهدات، ومتابعة ما يجري وما كان، فبذلت أعمارنا وأصبحت رهينة لها، وضيع الغالي من الوقت من أجلها، حتى ساعات الأسحار وأوقات الصلاة والأذكار، فأشغلت العباد حتى في المساجد، وبحضرة الوالدين عند برهما، وسرقت منا أوقات العمل والإنجاز. بل أنك تعجب ممن رحل إلى بيت الله الحرام وقصده فإذا بالأجهزة تسلب منه الإخلاص لله ولذة الدعاء، وحلاوة مناجاة الله والتعبد له سبحانه.

ولقد قال الله تعالى (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) وإن من أنواع هجر القرآن هجر تلاوته وقراءته، حتى أنه يكون في جهاز أحدنا نسخة من القرآن ولا يجد لها في يومه نصيبا، وتمر عليه الساعات والأيام ولا يقرأ من كتاب الله حرفا.

لم تُبقِ النسخ الالكترونية من المصاحف لنا أي عذر في المداومة على قراءة القرآن الكريم وتخصيص دقائق للتلاوة. تطبيقات رائعة متميزة، قريبة التناول، سهلة الاستخدام، تحمل الطبعة الراقية، والتلاوات الصوتية، والتفسيرات الميسرة والمتنوعة.

متع أخي عينيك بالنظر في كلام الله تعالى، وعطر فمك بتلاوة القرآن، يقول عثمان بن عفان رضي الله عنه. عثمان الذي عرف قدر كلام الله تعالى، وسمعه من النبي ﷺ، وأكب على تلاوته وأكثر من ختماته حتى جاء عنه أنه قرأ القرآن في ركعة واحدة، وقتل وهو يقرأ القرآن والمصحف بين يديه. قال رضي الله عنه: " لَوْ طَهُرَتْ قُلُوبُكُمْ مَا شَبِعَتْ مِنْ كَلامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "، وكان يقول رضي الله عنه: "مَا أُحِبُّ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيَّ يَوْمٌ وَلَا لَيْلَةٌ إِلَّا أَنْظُرُ فِي كَلَامِ اللَّهِ" يَعْنِي الْقِرَاءَةَ فِي الْمُصْحَفِ.

أيها المؤمنون.. كم من الوقت الذي تستغرقه قراءة وجها واحدا من كتاب الله، وكم المدة التي ننهي فيها جزءا واحد من القرآن، إنها لحظات قليلة وأوقات يسيرة. فنحن بحاجة لوقفة جادة مع أنفسنا، ومراجعة لحالنا مع كتاب ربنا.

فلو خصص الإنسان من يومه وقتا وإن كان يسيرا من أجل قراءة حزبه من القرآن الكريم وورده، وقتا لا يقبل المساومة فيه لحقق مراده، وأتم ورده اليومي الذي حدده لنفسه.

فدقيقتان من يومك تقرأ فيهما وجها من القرآن، وفي عشرين دقيقة يتم القارئ جزءا كاملا من القرآن الكريم، وبهذا يختم المسلم ختمة كاملة كل شهر.

في الصحيحين يقول رسول الله ﷺ يقول (أحب الاعمال الى الله أدومها وإن قل) فصفحات قليلة ومستمرة خير من أجزاء كثيرة منقطعة.

فلنكن من أهل القرآن الذين يعتنون به ويكثرون من تلاوته ويتفكرون في آياته وإن لم يحفظوه، أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.

 

الخطبة الثانية

أيها المؤمنون: لقد كان لرسول الله عليه الصلاة والسلام حزبه وورده اليومي من القرآن الكريم، لا يتركه ولا ينقصه، مهما حلت به الوفود، وطرأت عليه الشواغل. جاء عن أوس الثقفي وكان في وفد ثقيف الذين قدموا على رسول الله ﷺ، قال رضي الله عنه: فكان رسول الله يأتينا بعد العشاء، فيحثنا قائما، حتى ليراوح بين رجليه من طول القيام، فلما كانت ليلةٌ أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه فقلت يا رسول الله لقد أبطأت علينا الليلة قال إنه طرأ علي حزبي من القرآن فكرهت أن أخرج حتى أتمه. رواه أبو داود

تأمل عبد الله  : ما الأمر الذي أشغل رسول الله ﷺ وطرأ عليه؛ إنه تعليم المسلمين دينهم، ومع ذلك لم يؤجل ورده اليومي وحزبه. أما نحن فما هي شواغلنا التي تمنعنا من قراءة جزء يسير من كلام الله تعالى. والله المستعان.

عباد الله: وعلى نهج رسول الله ﷺ في الالتزام بالحزب من القرآن كل يوم سار صحابته رضي الله عنهم، فالتزموا وردا يوميا من القرآن الكريم، فكان منهم من يختم القرآن كل ثلاثة أيام، ومنهم من يختمه كل أسبوع، ومنهم من يختمه كل شهر، ومنهم من يختمه كل أربعين يوما.

لو عود المسلم نفسه وألزمها على ألا يمر عليه يوم إلا وقرأ شيئا من القرآن وإن كان يسيرا لاعتادت نفسه على ذلك وأصبح لها نهجا وسلوكا، وإن فاتك وردك وما ألزمه لنفسه قضاه في وقت آخر، يقول عليه الصلاة والسلام (من نام عن حزبه من الليل أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه بالليل) رواه مسلم

اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء .

الله اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك

اللهم وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار

المشاهدات 2720 | التعليقات 0