الهمة العالية في العلم والدعوة الي الله

محمد مرسى
1432/10/23 - 2011/09/21 08:08AM
خطبة الجمعة فضيلة الدكتور محمود عبد الرحمن
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واحد بلا ابتداء دائم بلا انتهاء لا يفنى ولا يبيد ولا يكون إلا ما يريد لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام ولا يشبه الأنام حي لا يموت قيوم لا ينام خالق بلا حاجة رازق بلا مؤنة مميت بلا مخافة باعث بلا مشقة ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق ولا بإحداث البرية إستفاد اسم الباري له معنى الربوبية ولا مربوب ومعنى الخالق ولا مخلوق وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا كذلك استحقا هذا الاسم قبل إحيائهم واستحق اسم الخالق قبل إنشائهم ذلك بأنه على كل شيء قدير وكل شيء عليه يسير وكل أمر إليه يصير ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وخاتم أنبيائه وصفيه من خلقه أرسله ربه رحمة للعالمين وهدايةً للناس أجمعين فعلم الله به من الجهالة ورفع الله به من الخمالة وكثر به من القلة وأغنى به من العيلة وبلغ رسالة ربه كما أمره ربه وقال هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين.
صلى اللهم وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
فيا أيها الأخوة الدعاة الكرام الأحباء ليس شيءُ أفضل من العلم ولا قول أحسن من الدعوة إلى الله ذلك أن العلماء هم خير البرية لأن الله سبحانه وتعالى قال " إن الذين امنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية " ثم قال في أخر السورة " ذلك لمن خشي ربه " وقال في آية فاطر " إنما يخشى الله من عباده العلماء " فالعلماء يخشون الله والذين يخشون الله هم خير البرية فالعلماء هم خير البرية.
وقد بلغ من شأن العلم أن العلماء قالوا إنه أفضل من إنزال الرسالة حيث قال الله سبحانه وتعالى لنبيه " وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما " وقالوا إن شأن العرب إذا تكلمت في مواطن المنن ذكرت الأدنى فالأعلى والآية تقول " وأنزل الله عليك الكتاب " وهو القرآن "والحكمة " هي السنة "وعلمك ما لم تكن تعلم " إذاً هناك علم أعُطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم غير الكتاب والحكمة ثم قال " وكان فضل الله عليك عظيما " وهذا فضل رابع أيضاً، العلماء هم ورثة الأنبياء.. ورثة الأنبياء.
وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر وهذه النعمة ينبغي ألا يأخذها إلا من يستحقها حتى قال العلماء ( إن تعليم العلم من يستعمله في غير حقه حرام، إن العلم كالسكين، إن العلم كالسيف إن أعطيته لمجاهد جاهد به في سبيل الله وإن أعطيته لقاطع طريق حارب به العباد ولذلك هو عزيز لا يستقر إلا في قلوب عالية ذات همة نافذة ماضية وإصرار على التلقي وإكثار من خشية الله سبحانه وتعالى حتى يتعلم الإنسان من ربه ما لم يكن يعلم ولذلك لا يتقنه ويقوم بحقه وصيانته إلا من أتاه الله رحمة في قلبه وهمة في بدنه وقد قدم الله الرحمة على العلم في شأن التعلم وفي بيان صفاته عز وجل فقال في شأن العبد الصالح " فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65)" ولذلك إذا لم يصادف العلم رحمة في القلب فإنه يكون وبالاً على العباد فيعانى الناس ممن يظهرون تعلم العلم يعانون منهم في تلقيهم وتسرعهم في قسوة قلوبهم على الخلق في تسرعهم في أحكامهم في إشهارهم قدسية النصوص في وجوه العامة دون رعاية لزمان القول ومقصد القول فيتعب الناس منهم تعباً شديداً والملائكة وهي تثني على الله سبحانه وتعالى وتقدم الثناء قبل الدعاء قالت" ربنا وسعت كل شيء رحمةً وعلما فاغفر الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) " إن الهمة العالية التي تتطلبها الدعوة ويتتطلبها تعلم العلم حيث قال العلماء " العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كُلك وأنت إذ تعطيه كُلك من إعطائه البعض" على غرار إن العلم ليس تقليب الصفحات وحضور المحاضرات إنما هو أمر يقذفه الله في قلب العبد إذا أخذ بمباديء أسبابه حتى يورثه علماً يحسم به كثيراً من الخلاف في كلمات معدودة وقد وصف العلماء فهم دقيق العيد عليه رحمة الله وهو الذي كان يقرأ كل يوم في كل ليلة مجلدين وصفه العلماء بقولهم " قوم إذا ظهر الخلاف وجدته حسم القضية في ثلاثة أحرف " فنحن نريد هذا وقد قالوا إن الإمام ابن حجر أراد أن يسافر إلى الشام ليتلقى الحديث من علماء الشام فسافر ثلاثة أشهر فكان يقرأ في الأوقات البينية فقرأ في ثلاثة أشهر ثلاث مائة مجلد " فإن الهمة العالية التى تقتضيها الدعوة الهمة التي توفر كثيراً من الجهود وتختصر كثيراً من الأوقات وتنشأ من الرجل العادي أعمال غير عادية الهمة التي تدعو صاحبها إلى مجانبة ما فضله القصور واقتضاه الضعف البشري هذه الهمة إن لم تقترن بعلم أوقعت الدعوة وأوقعت الناس في أخطاء كثيرة ذلك أن مقتضى الهمة العالية ترتيب الخيرات وهذا من أغمض أبواب العلم كما قال الإمام الغزالي " إن من أشد أبواب العلم غموضاً ما تعلق بالتكليف الإلهي" ذلك أن ترك ترتيب الخيرات من جملة الشرور فمن كان يعلم أن نفقة الوالدة مقدمة على نفقة الوالد وأن نفقاتهما معاً مقدمة على نفقة الحج وأن مجانبة الإذاء أولى من مجانبة النجاسة وأن الاشتغال بفروض الأعيان أولى من الاشتغال بفروض الكفايات ومن هنا تنحسم فوضى كبيرة وتشتيت للجهود وتتوفر الجهود فلا تتشتت في غير طائل وتعصم إمكانيات الأمة في غير ما هدف ولذلك قال الإمام المؤسس " لن نبذل في غير هدف لن نضحى بدون ربح لن نجرح بدون إصلاح " إنه يريد أن يحفظ جهود الأمة ولو لم يكن للهمة المتوثبة فقه وعلم ما أتى هذا.
الهمة إذا اقترنت بعمل وفرت الجهود كما قلت وأنشأت من الرجل العادي أعمال غير عادية حتى إنه ليستصغر الأهوال ويحتقر العظائم يستصغر العظائم فتكون صغيرة في عينه كما قال الشافعي
" أنا إن عشت لست أعدم قوتاًً... وإذا مت لست أعدم قبراً...
همتي همت الملوك ونفسي... نفس حر ترى المذلة كفرا ً...
وإذا ما قنعت بالدون عمري... فلماذا أخاف زيداً وعمروُ "
الهمة العالية إذا أقترنت بالصبر أنتجت الإصرار وعدم الخوف والمبادرة وألا يتسلل اليأس إلى نفوس الفصيل المنتخب المختار.
جاء الخباب بن الأرط إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل الكعبة وقد كوى سبع كيات في بطنه قد كوى بالنار سبع كيات في بطنه فقال يا رسول الله ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا فغضب النبي... لماذا غضب ؟ إنه يخاف أن يتسلل الضعف إلى هذا الفصيل الذي هو أمل الأمة إذا ما تسلل الضعف إلى الفصيل المنتخب المختار.. فماذا يرجى من بقية الناس ؟ غضب وقال إن من كان قبلكم كان يؤتى به فينشر بمنشار الحديد من مفرق رأسه إلى قدميه وتأملوا.. تأملوا هذا الفعل الشنيع لمن يتمسك بدينه أو يدعو إلى ربه ما يصرفه ذلك عن دينه شيئا والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون. ودارت الأيام.. ودارت الأيام وجاء بعض المعتقلين في السجن الحربي إلى الأستاذ/ سيد يقولون له " الا تدعوا الله لنا أن يصرف عنا أو يخفف هذا البلاء فلم يدعو كما لم يدعو رسول الله وقال إننى أعتقد أن الله يصنع من هذه المحنة.. أن العناية الإلهية ستصنع من هذه المحنة شيئاً رائعاً لهذا الدين ولكن الله يصنعه بطريقته الخاصة ثم قال " ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون " ولما دعي إلى تأليف قلوب تدعو إلى الله في 65 والتعديلات حاضرة والمرض موجود والعذر قائم لم يقعده هذا ولكنه لبى وقام داعياً إلى الله سبحانه وتعالى مبلغاً دين الله البلاغ المبين.
كذلك أيها الإخوة الهمة العالية إذا اقترنت بها المروئة أنتجت رجلاً بعيداً عن سفاسف الأمور محباً للغايات العالية الرفيعة.
الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل ربيعة بن كعب ويقول له اسألني.. اسألني فقال: اسألك مرافقتك في الجنة، إنه لم يكتفي بمجرد الزحزحة عن النار وهو الفوز العظيم فمن ذحذح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز" إنه لا يقف عند هذا الفوز وإنما يقول أسألك مرافقتك في الجنة، قال أو غير ذلك قال لا ولكن هو ذاك، قال فأعني على ذلك بكثرة السجود وقال لأبي هريرة ألا تسألني من هذه الغنائم كما يسأل كثير من الناس فقال: لا يا رسول الله ولكني أسألك أن تعلمني مما علمك الله فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع رداءً كان عليه وحدثه رسول الله ثم أمره أن يضمه إليه قال فما نسيت حرفاً بعد ذلك.
وكثير من الناس كانوا يسألون رسول الله ص شبع بطن أو كسوة من عري لكنه لم يسأل ذلك وهو الذي كان يغمى عليه من الجوع فيقع بين منبر رسول الله ص وغرفة عائشة حتى يجيء الجائي يضربه برجله أو يحركه برجله يظن أن ما به مس من الجن قال وما بي جنون ما بى إلا الجوع لكنه حينما طلب منه أن يسأل قال أسألك أن تعلمنى مما علمك الله وأعطاه رسول الله ص ما سأل وكان له ما سئل فكان راوية الإسلام ووعاء السنة.
نريد الهمة العالية المتوثبة التي لا تقف عند أداء الفرائض ولا حتى أداء النوافل بل تتعاداها إلى الخيرات الكثيرة الأخرى.
همةُ تتعلم من هدهد سليمان فيرتفع بها الإنسان من منزلته إلى منزلةٍ أخرى إن الهدهد لم يكن مطلوباً منه أن يستكشف مملكة بلقيس ولكنه رأى واجباً عليه أن يؤديه شيء رئاه فاستوقفه ورأى واجباً عليه فلم ينتظر أمراً ولا إذناً بل قام بواجبه "وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) " لكن العلم " أحطتُ بما لم تحط به " والهمة " وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله " جعلت الهدهد يمكث غير بعيد ( فمكث غير بعيد فقال أحط بما لم تحط به ) وانظروا أيها الإخوة إلى العلم النافع والهمة الماضية كيف تنقل الإنسان من مذنب ينتظر العقاب بل ينتظر الإعدام " لأُعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه " فيرقيه العلم وترقيه الدعوة وترقيه الهمة إلى أن يكون سفيراً لسليمان عند ملكة سبأ "اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم " فينقلب من مذنب ينتظر العقاب والإعدام إلى رسول من قبل سليمان الملك النبي إلى ملكة سبأ " بلقيس " " اذهب بكتابي هذا " ( فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)) وهي أمة غير أمة الهدهد فهذه امة بني آدم والهدهد وجماعته من أمة آخرى ومع ذلك قام برسالة معها فإذا كان الهدهد يقوم برسالة مع غير أمته مع غير بني جنسه أفلا نقوم بمهمتنا مع بني جنسنا وأقوامنا وإخواننا ومن يتكلمون بألسنتنا ويصلون معنا ويعاشروننا ونعاشرهم إذا كان هذا هدهد يقوم بمهمة في غير بني جنسه أفلا نقوم بمهمتنا في بني جنسنا وقام بمهمته ولم يأمر ولم يطلب منه ونحن قد أمرنا وطلب منا كل ذلك نقله هذا الأمر نقلةُ عجيبة إلى أن يكون سفيراً عند سليمان لكن الإنسان إذا نزلت به همته لكن العالِم إذا نزلت به همته فانظر كيف تذهب به كيف أنها ستذهب به إلى عالم آخر أيضاً إلى عالم غير عالمه إلى أمة غير أمته قال الله سبحانه وتعالى " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) ".
إنه نزول وهوى متتابع ليس هناك فصل ولا وقت ولا مهلة ولا تراخ "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلبِ إِنْ تَحْمِل عَلَيْهِ يَلهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلهَثْ " نقله لعالم آخر إلى أمة أخرى " فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث " أو تنقله إلى أمة أخرى من غير أمة الكلاب إلى أمة الحمير " مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " إنه انتقال من عالم إلى عالم ومن أمة إلى أمة ومن خلق إلى خلق ومن خُلق إلى خُلق لكنه إرتكاس ولكنه تدني فنريد همة كهمة الهدهد ببصيرة وعلم وأناة وحكمة ورحمة وترتيب للخيرات وفهم شامل كامل يتناول كل الشئون التي تناولها القرأن وتناولتها سنة الحبيب ص أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله وخاتم الإنبياء والمرسلين وصلى اللهم وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد.
يقول الحق سبحانه " وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)" وقد قلت إن الهمة العالية في الدعوة إلى الله إذا لم تحز منطقاً صائباً وفهماً عميقاً وترتيباً لما هو أولى تقديماً لما حقه التقديم وتأخيراً لما حقه التأخير انتجت تشويشاً فكرياً تضيع معه الجهود وتتبدد معه القوى ولا يجني من ورائه كبير فائدة بل إن الإمام الغزالي قال في شأن ترتيب الخيرات - وهذا من الغرور الغامض ترك ترتيب الخيرات من الغرور الغامض حتى تنقلب الطاعات إلى معاصي فإذا ما فعلت الطاعة المفضولة وأُخرت الطاعة الفاضلة كان التلبس بالطاعة المفضولة معصية من المعاصي هكذا في ربع المهلكات في إحياء علوم الدين في كتاب الغرور وتكلم عن غرور أصناف الخلق غرور العلماء غرور العُباد غرور التجار كل الطوائف كيف يأتيهم الغرور فجعل من غرور العلماء ومن غرور العُباد ترك ترتيب الخيرات " وهي كلها خيرات " ولكنه جعلها من جملة الشرور وأيضاً أيها الإخوة ضبط الفهم، الهمة العالية إذا لم تحز ضبط فهم انتجت واقعاً بئيساً وذنباً من الذنوب ويستغفر منه ولا أشرد بعيداً بل أتى بمثال قريب.
عمر بن الخطاب في صلح الحديببية وقد صدر منه ما صدر وكان يقول إن دم أحدهم دم كلب، وكان يميل السلاح إلى بعض المتهضين من المسلمين الذين أرجعهم الصلح وأرجعتهم المعاهدة ثم بعد ذلك قال " ما ذلت أصوم وأصلى وأعتق الرقاب مما صنعت يوم الحديبية.
من أين أتاه هذا أيها الإخوة ؟ إنه قيد المطلق أمر مطلق جاء في القرآن مطلق فقيده وهو استدل بالآية ألم يقل الله عز وجل "لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين " كيف نرجع ولما يقضى الله بيننا وبينهم فقال له أبو بكر أقال لك هذا العام فكأنه يقول له أنت تقيد المطلق وتقييد المطلق أيها الإخوة ذلك الدرس الأصولي الذي ربما يتناول تناولاً بارداً وتناولاً عابراً عدم وضع المطلق في إطلاقه وتقييده حيث لا مقيد ماذا فعل بعمر ؟ إنه فهم أننا سندخله هذا العام وهذا لم يذكر في الأية إنه قيد المطلق أما أبو بكر إنه حمل المطلق على إطلاقه وقال له أقال لك هذا العام إلزم غرس رسول الله ص والقرآن يعلمنا والقرآن ينبهنا والقرآن حينما يخاطب إنما يخاطب أمة عاقلة أمة ذكية أمة تعمل عقلها في ربع واحد من القرآن في سورة البقرة " وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)" فعمم ما حقه التخصيص " إنى جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي " فعمم ما حقه التخصيص فقال له الله "لا ينال عهدي الظالمين " ثم أستفاد من هذا الدرس فلما جاء يدعو ويبتهل إلى الله لهذه البلدة وهي مكة فقال " وارزق أهله من الثمرات من آمن " فخصص ما حقه التعميم لأن الله خلق المؤمن وغير المؤمن وهو الذي استدعاه إلى هذا الوجود فيرزق الجميع ثم يحاسب كلاً.
فقال " وارزق أهله من الثمرات من آمن بالله واليوم الآخر قال ومن كفر " لماذا تخصص ما حقه التعميم ؟ ثم جاء يدعو " رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (129)" فقدم ما حقه التأخير وأخر ما حقه التقديم فقال الله " كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (151) " تنبيهاً لنا وتعليماً لنا ألا نخصص ما حقه التعميم ولا نعمم ما حقه التخصيص ولا نقدم ما حقه التأخير، ولا نأخر ما حقه التقديم وأن نكون وقافين عند حدود الله سبحانه وتعالى، والدلالات لها معاييرها، ولها ضوابطها ولها قوانينها التي من خرج عنها خالفه الصواب ولم يحالفه نجاح، ولذلك يكون مثل هذا درساً لنا في تلقى القرآن في التلقي عن الله وتبليغ رسالات الله كما أمر الله سبحانه وتعالى، أن تكون عندنا دقة في القول فلا تعميم ولا استجاشة عواطف في غير موضعها ولا تقديم لما حقه التأخير ولا مخالفةً لترتيب الخيرات، بل كلٌ يسير وفق ضوابط صارمة، وفق ضوابط مقننة لا يتقدم عنها ولا يتأخر، ولذلك تأتي الهمة المستبصرة " قل إني على بينة من ربي " " قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) " حينئذٍ نكون قد تلقينا الأمانة كما نزلت وأديناها كما وجب الأداء وإلا كانت أعمالنا مشوشةً لا تستقيم على حال والجاهلية المنظمة لا يغلبها إلا إسلام منظم، والجاهلية التي تستخدم التقنيات العالية وتوظف العلم لجاهليتها كان أولى أن يوظف المؤمنون العلم ويوظفون نواميس الكون بمهامتهم وأداء رسالتهم، فيتعلمون من سنن الله المتلوة ويتعلمون أيضاً من سنن الله الكونية، يتعلمون درس التاريخ، ويتعلمون كما يتعلمون درس الفقه، ومن هنا تكون مسيرتهم على بصيرة وعلى بينة من الله سبحانه وتعالى فالهمة العالية تقترن بالعلم النافع تقترن بالعمل الصالح تقترن بالمروئة تقترن بالصبر الذي يحمل على تحمل المخاطر وتفضيل معالي الأمور والابتعاد عما فضله الضعف واقتداه القصور البشري، ذلك أيها الأخوة تلك كلمات يسيراتٌ في هذا المعنى البديع وهو علو الهمة في العلم والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعني وينفعكم بالعلم.
المشاهدات 3546 | التعليقات 1

1218229174.jpg