الهدي النبوي في شهر رمضان

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد إخوة الإيمان..

إن خير الهدي هدي النبي ﷺ، وأكمل العمل وأحسنه ما فعله ﷺ وصحبه الكرام، واليوم نقف مع قبسٍ من حال المصطفى ﷺ، وطرفٍ من آثاره، في شهر رمضان، كيف صامه وقامه؟ وكيف عاشه ساعاته وقضى أيامه؟ فمعرفة هديه واتباع طريقته أساس قبول كل عمل.

أيها المؤمنون.. كان ﷺ إذا حلّ شهر رمضان اشتد فرحه وازداد سروره، وأخذ يبشر أصحابه بقدومه؛ تشوقاً لبركاته ورحماته، وتعرضا لنفحاته، فكان يقول لأصحابه: "قد جاءكم رمضان، شهر مبارك، افترض عليكم صيامه، تُفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم وتُغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، مَن حُرِمَ خيرها فقد حرم" رواه النسائي وأحمد

وإذا أشرقت شمس أول يوم رمضان فلا تسأل عن حسن صيامه وقيامه، وجمال حاله ﷺ مع ربه ومناجاته له، ودعائه وافتقاره بين يديه.

وكان يقول لأصحابه يبيّن لهم أهمية إخلاص النية في الصوم، واحتساب الأجر من الله وطلب الثواب منه تعالى، "مَن صامَ رمضانَ، وقامَهُ إيمانًا واحتِسابًا؛ غُفِرَ له ما تقدَّمَ مِن ذَنبِهِ". رواه البخاري ومسلم

الاحتساب في الصيام أداؤه ابتغاء مغفرة الله تعالى ومرضاته، وطلبُ الثواب منه وحده، فالصائم يحتسب جوعه وظمأه وسهره وتعبه ونصبه في سبيل الله، وليس في قلبه حظ دنيوي، فلا يصوم لأن الناس صاموا فصام معهم، ولا بقصد إنزال وزنه وعلاج ألامه، وإنما يصوم إيمانا واحتسابا.

ومن هديه ﷺ أنه أمر الناس بأكلة السحر، وأخبر بأن في السحور بركة وعونا ونشاطا على العمل الصالح في نهار رمضان؛ من أداء الصلوات وقراءة القرآن وصلة الأرحام وغيرها من الطاعات، فكان يقول ﷺ:"تَسَحَّرُوا؛ فإنَّ في السَّحُورِ بَرَكَةً" رواه البخاري ومسلم، ويوصي بالسحور على التمر، فكان يقول: "نِعم سَحورُ المؤمنِ التَّمرُ". رواه أبو داود

وكان يُؤخِّر السُّحور، وكان بينَ سحوره ﷺ، وقيامه لصلاة الفَجْرِ قدْر قراءة خمسينَ آية. رواه البخاري

وكان ﷺ يعجل الفطر، ويوصي بذلك قائلا، "لا يَزالُ النّاسُ بخَيْرٍ ما عَجَّلُوا الفِطْرَ" رواه البخاري ومسلم، وكان ﷺ يُفطرُ على رطباتٍ قبل أن يصلي، فإن لم تكنْ رطباتٍ فتمراتٌ، فإن لم تكن تمراتٌ حسا حسواتٍ من ماءٍ. رواه أبو داود وأحمد

وكان يدعو عند فطره ويقول:" ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله". رواه أبو داود

وأخبر ﷺ أن للصائم دعوةً مستجابة. رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد

وأمر ﷺ بالعناية بالصوم وتنقيته مما يفسده، أو ينقص أجره، فكان يقول: " «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالْجَهْلَ، وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيس لله حَاجَةٌ فِي أَنْ ‌يَدَعَ ‌طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ".  رواه البخاري

وكان ﷺ يرشد أمته على ضبط النفس، والمحافظة على اللسان من بذاءة القول وفحشه، وعلى الجوارح من الاعتداء، حتى لا يقع بأمرٍ  يخلّ بصومه، حتى لو تعدى عليه أحدٌ بسبّ أ وبشتم أو اعتداء، فكان يقول: "إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا، فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ. فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: ‌إِنِّي ‌صَائِمٌ. ‌إني ‌صائم". رواه مسلم

أيها الصائمون.. وأمّا ليالي رمضان فكان ﷺ يجعلها محلاّ للعبادة والقرب من الله، فليالي رمضان خيرُ من نهاره، فكان ﷺ يحث أمته بالاشتغال في ليل رمضان بالصلاة والقيام بين يدي الله تعالى، وكان يقول: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". رواه البخاري ومسلم

وفي رمضان صَلَّى ﷺ فِي الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ. فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ. ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ. فَكَثُرَ النَّاسُ. ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ. فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ "قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ. فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّي ‌خَشِيتُ ‌أَنْ ‌تُفْرَضَ ‌عَلَيْكُمْ، رواه البخاري ومسلم، وهذا من رحمته ﷺ.

وكان يطيل القيام، يعيش مع القرآن، ويتدبر معانيه، يخشع ويبكي، لا تمر به آية رحمة إلا سأل، ولا آية عذاب إلا استعاذ.

وتصف عائشة رضي الله عنها قيام النبي ﷺ بقولها: "فَلَا تَسْأَلْ عَنْ ‌حُسْنِهِنَّ ‌وَطُولِهِنّ". رواه البخاري ومسلم

وصلاة القيام في رمضان الأفضل أن تؤدى جماعة، قال ﷺ مرغبا في ذلك، إنَّ الرَّجُلَ إذا صلَّى مع الإمامِ حتى ينصرفَ، حُسِبَ له قيامُ ليلةٍ. رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه

وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعادَ جمعَ الناس لقيام الليل، كما اجتمعوا في عهد النبي ﷺ فأمر أُبَيَّ بنَ كعبٍ، وتَمِيمًا الدّارِيَّ أن يَقُوما للناسِ في رمضانَ بإحْدى عَشْرَةَ ركعةً، فكان القارئُ يقرأُ بالمِئِينَ، حتى كانوا يعتمدون على العَصا من طولِ القيامِ، وما كانوا ينصرفون إلا في فُرُوعِ الفجرِ. رواه عبد الرزاق في مصنفه

يا أهل القرآن.. يقول الله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدي للناس وبينات من الهدى والفرقان)، القرآن في رمضان له شأن، ففيه ابتدأ النزول، وكان ﷺ يزيد اعتناؤه بالقرآن في شهر رمضان، فكان يُدارس مع جبريل -عليه السلام- القرآن، وَكَانَ جِبْرِيلُ عليه السلام ‌يَلْقَاهُ ‌كُلَّ ‌لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ، فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْقُرْآنَ. رواه البخاري ومسلم

وكان هديه ﷺ ‌إحياء ليالي رمضان بالصلاة والقرآن والعبادة، ففي الْعِشْرِينَ الأولى يَخْلِطُ الليل بِصَلَاةٍ وَنَوْمٍ، وفي الْعَشْر الآواخر يحيي الليل كله، ويشَمَّر وَيجد، ويشَدّ الْمِئْزَرَ. رواه البخاري

.وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ

ورسول الهدى ﷺ حريص على أمته جميعا، كما أخبر بذلك ربنا تعالى: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)، ولأهلِه مزيدُ حرص، فكان ﷺ يوقظ أهله، يأمرهم بالصلاة، ويذكرهم الآخرة، فكان يقول: من يُوقِظُ صواحبَ الحجراتِ – يريدُ أزواجَهُ – لكي يُصلِّينَ-، رُبَّ كاسيةٍ في الدنيا عاريةٍ في الآخرةِ. رواه البخاري

وكان يطرق الباب على فاطمة وعلي رضي الله عنهما قائلاً: (ألا تقومان فتصليان) يطرق الباب وهو يتلو: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ)،  وكان لا يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلى أقامه. 

عباد الله: الجود هو السخاء وسعة العطاء وكثرته، وكان ﷺ ‌أَجْوَدَ ‌النَّاسِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكان أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ، رواه البخاري ومسلم، وكان يعطي عطاءَ مَن لا يخشى الفقر، وكان يجود ﷺ بما لديه؛ بماله ووقته وعلمه، ومن أعظم جوده ﷺ بذل نفسه في سبيل الله، فقد كانت غزوة بدر الكبرى وفتح مكة في شهر رمضان، فهو شهر الجهاد، كما هو شهر الصيام والقيام والقرآن.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم)

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:

عباد الله.. الله تعالى قريب من عباده، رحيم بأوليائه، يسمع دعاءهم، ويجيب سؤالهم، وبين آيات الصيام في سورة البقرة، يقول الله تعالى: (وإذا سألك عبادي عن فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان)، ومع قرب الله تعالى قد فتحت أبواب الجنة، وغلّقت أَبْوَابُ النَّارِ، وَصفدت الشَّيَاطِينُ، ونادي المنادي: يَا ‌بَاغِيَ ‌الْخَيْرِ أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله في كل ليلة عتقاء من النار.

فالله جل وعلا قد هيأ أسباب القرب منه، وأكثر سبحانه من فتح أبواب الرجاء، ومن صرف منافذ البعد والشقاء، فأعظم الخسارة وأشد الحرمان من يدركه رمضان ولم يغفر له، ولم يعتق من النار.

فلنُحسن اغتنام ساعات الشهر، ولنكثر من العمل الصالح، ولنجد ولنجتهد، ولنصبر ولنصابر، فما هو إلا أياما معدودات.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يصوم ويقوم شهر رمضان إيماناً واحتسابا

وأن يجعلنا من عتقائه من النار

اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا

 

المشاهدات 331 | التعليقات 0