الهجرة وصناعة الأمل ..

عبدالله محمد الطوالة
1436/01/07 - 2014/10/31 05:17AM


الحمد لله الملك القدوس السلام، مجري الليالي والأيام، ومجدد الشهور والأعوام، أحمده تعالى وأشكره ...
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتمسكوا بدينكم، فهو عصمة أمركم، وتاج عزكم، وسر قوتكم، وسبب نصركم، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة.
عباد الله : مع إشراقة السنة الهجرية الجديدة، ندعوا الله جل وعلا ونسأله أن يجعله عام نصر وعزة للإسلام والمسلمين، وصلاحا لأحوالهم في كل مكان ..
نقف متذكرين هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم … ذكرى اعتبار واتعاظ لا ذكرى احتفال وابتداع .. وقفة نستقرئ فيها فصلاً من فصول الحياة ! خطه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام .. وحديث المناسبة ما سطّره تأريخنا الإسلامي المجيد من أحداث عظيمة، ووقائع جسيمة، كان لها مكانتها العلية ، وآثرها البليغ في عزِّ هذه الأمة وقوتها وصلاح أمرها .. نشير إليها إشارات عابرة ، علها تكون سببا في شحذ الهمم للعودة إلى الله ، وحاملة على الاتعاظ والاعتبار، ومن ثم التقييم والتقويم للمسيرة في كافة جوانبها .. ألا وإن من أعظم دروس الهجرة وأجل عبرها (الأمل في الله) نعم. فالهجرة تعلم المؤمنين الأمل .. الأمل في موعود الله .. الأمل في نصر الله .. الأمل في مستقبل مشرق للا إله إلا الله .. الأمل في أن الفرج بعد الشدة ، والعزة بعد الذلة ، والنصر بعد الهزيمة ..
من كان يظن أن تكون تلك الليلة من ليالي الموسم ورسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر يطوفان بمنى يخرجان من مخيم ليدخلا آخر .. وفي كل مرة يتلقيان رداً قاسياً غليظاً .. لكن ذلك لا يثنيه صلى الله عليه وسلم عن مواصلة البحث عن من يستجيب له .. حتى إذا نفدت الخيام وقفلا راجعين لمكة .. وقريباً من الجمرة الكبرى .. سمعا صوت رجال يتكلمون ، فاستوقفوهم فحدثهم واستمعوا ، وبين فأصغوا ، فانشرحت الصدور ، ولانت القلوب ، ونطقت الألسن بالشهادتين ، وإذا بأولئك النفر من شباب يثرب يشكلون البداية الجديدة لميلاد أمة الإسلام العظيمة .. فمن كان يظن أن تلك الليلة المباركة ستشهد كتابة السطور الأولى لملحمة المجد والعزة لخير أمة أخرجت للناس ؟
يا سبحان الله .. إن نصر الله يأتي للمؤمن من حيث لا يحتسب ، لقد طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجتمعات القبائل ، وقصد الرؤساء ، وتوجه بالدعوة إلى الوجهاء والكبراء ، وسار إلى الطائف ، فعل ذلك كله طوال عشر سنوات أو أكثر ، وهو يرجو أن يجد عند أصحاب الجاه والمنعة نُصرة وتأييداً ، وكان ينادي صلى الله عليه وسلم في كل موسم: ((من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي)) ، ومع كل هذا لم يجد من يؤويه ولا من ينصره .. لم تأت النصرة والحماية والتمكين من تلك القبائل العظيمة ذات المال والسلاح ، وإنما جاءت من ستة نفر جاؤوا على ضعف وقلة .. "إنها المقادير يوم يأذن الله بالفرج من عنده، ويأتي النصر من قلب المحنة ..
ستة نفر من أهل يثرب كلهم من الخزرج دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ولم يكن يتوقع منهم نصرة وإنما أراد دعوتهم فآمنوا وأسلموا .. ثم تتابعت الأحداث على نسق عجيب ، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه وكان أحد النفر الستة : حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه ، حتى لم تبق من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام ، ثم ائتمروا جميعاً فقلنا: حتى متى نترك رسول الله يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه الموسم ، فواعدناه العقبة فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: ((على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن تقولوا في الله لا تخافون لومة لائم ، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم وأزواجكم ، ولكم الجنة))، قال جابر: فقمنا إليه فبايعناه ..
أرأيتم .. يُعرض الكبراء والزعماء ، ويستكبر الملأ وتتآلب القبائل وتتآمر الوفود وتُسد الأبواب … ثم تكون بداية الخلاص بعد ذلك كله .. في ستة نفر عزل ... فهل يدرك هذا المتعلقون بأذيال المادية الصارخة والنافضون أيديهم من قدرة الله وعظمته ؟
وهل يدرك هذا الغارقون في تشاؤمهم ، اليائسون من فرج قريب لهذه الأمة المنكوبة والمغلوبة على أمرها؟
إن الله ليضع نصره حيث شاء ، وبيد من شاء , فعلينا أن نعمل وأن نحمل دعوتنا إلى العالمين ، وألا نحتقر أحداً ولا نستكثر على أحد ، وعلينا أن نواصل سيرنا مهما تكالبت الصعاب واشتدت الأحزان والمحن ، فمن يدري لعل الله يصنع لنا في حالك ليلنا الداجي خيوط فجر واعد؟ ومن يدري لعل آلامنا هذه بداية مخاض آمالنا من العزة والتمكين ؟
لقد رأيتم كيف صنع ستة نفر من يثرب أمل النصر والتمكين .. وهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع الأمل مرة أخرى حين عزمت قريش على قتله .. قال ابن إسحاق: فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى نام فيثبون عليه ..
وعلى أن كل حساب مادي يقطع بهلاك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كيف لا .. وهو وحيدٌ في الدار والقوم محيطون بها إحاطة السوار بالمعصم .. أكثر من خمسة وعشرين سيفاً مصلتاً مسموماً .. ومع ذلك صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمل ، وأوكل أمره إلى ربه وخرج يتلو قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَـٰهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} . خرج الأسير المحصور فرداً ، يذر التراب على تلك الرؤوس المستكبرة التي أرادت قتله! وكأن هذا التراب المذرور رمز الفشل والخيبة لكل المشركين اللذين يحاربون دين الله .. فانظر كيف انبلج فجر الأمل من قلب المحنة ..
ويمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه يحث الخطى حتى انتهى وصاحبه إلى جبل ثور ، وهو جبل عالٍ وعر الطريق صعب المرتقى ، فحفيت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يرتقيه فحمله أبو بكر وبلغ به غار ثور ومكثا هناك ثلاثة أيام ..
ومرة أخرى يُصنع الأمل في قلب المحنة ، وتتغشى القلوب سكينة من الله وهي في حمأة القلق والتوجس والخوف .. ويصل المطاردون إلى باب الغار ، ويسمع الرجلان وقع أقدامهم ، ويهمس أبو بكر: يا رسول الله لو أن بعضهم طأطأ بصره لرآنا! فيرد صلى الله عليه وسلم رد الواثق بربه: "يا أبا بكر .. ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ .. لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا .. وكان ما كان ، ورجع المشركون بعد أن لم يكن بينهم وبين مطلوبهم إلا خطوة ! فانظر مرة أخرى كيف تنقشع عتمة الليل عن صباح جميل .. وكيف تتغشى عناية الله ! عباده المؤمنين ((إِنَّ ٱللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ)) .. وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمانُ
ويسير الصاحبان في طريق طويل موحش غير مأهول بلا حراس ، ولا سلاح : ويلحق بهما سراقة بن مالك ، طامعاً في جائزة قريش ، مؤملاً أن ينال منهما ما عجزت عنه قريش كلها ، فطفق يشتد حتى دنا منهما , وحتى سمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومرة ثالثة ، وحين أوشك هذا الفارس المدجج بالسلاح أن ينال منهما ، مرة ثالثة ينبثق الأمل من قلب المحنة ، ولا يلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سراقة ولا يبالي به فيقول له أبو بكر: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا ، فيقول له مقالته الأولى: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا} ..
لقد اصطنع صلى الله عليه وسلم الأمل في الله ونصره ، فنصره الله وساخت قدما فرس سراقة ، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء كالدخان ، فأدرك سراقة أنهم ممنوعون منه .. ومرة رابعة جاء النصر للرسول صلى الله عليه وسلم من حيث لا يحتسب .. وعاد سراقة يقول لكل من قابله في طريقه ذاك: ارجع فقد كفيتكم ماههنا ، فكان أول النهار جاهداً عليهما وفي آخره حارساً لهما ! ولا عجب في أمر الله ..
وهكذا أيها الإخوة الكرام تُعلمنا الهجرة المباركة في كل فصل من فصولها .. كيف نصنع الأمل ونستشرفه ، ونترقب ولادة النور من رحم الظلمة ، وخروج الخير من قلب الشر ، وانبثاق الفرج من كبد الأزمات .. وما أحوجنا ونحن في هذه الظروف العصيبة ، والأزمات المتتابعة إلى تعلم فن صناعة الأمل .. فمن يدري؟ ربما كانت هذه المصائب باباً إلى خير مجهول ، ورب محنة في طيها منحة ، ورب ألمٍ جر أملاً .. ورب بليةٍ تحمل معها عطية .. أوليس قد قال الله: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} ..
لقد ضاقت مكة برسول الله ومكرت به فجُعل نصره وتمكينه في المدينة .. وأوجفت قبائل العرب على أبي بكر مرتدة ، وظن الظانون أن الإسلام سيقتلع من جذوره ، فإذا به يمتد من بعد ليعم أرجاء الأرض كلها ..
ثم هاجت الفتن في الأمة بعد عثمان حتى قيل لا قرار لها .. ثم عادت المياه إلى مجراها .. ثم أطبق التتار على أمّة الإسلام حتى أبادوا حاضرتها .. وقتلوا في بغداد وحدها مليوني مسلم .. وحتى قيل: لا قيام للإسلام بعدها .. فكسر الله أعداءه في عين جالوت وعاد للأمة مجدها ..
ثم تمالأ الصليبيون وجيشوا جيوشهم وخاضت خيولهم في دماء المسلمين إلى ركبها حتى إذا استيأس ضعيف الإيمان .. نهض صلاح الدين نهضته المباركة ، فرجحت الكفة الطائشة وطاشت الكفة الراجحة ، وابتسم بيت المقدس من جديد .. ثم قويت شوكة الرافضة حتى سيطر البويهيون على بغداد والفاطميون على مصر وكُتبت مسبة الصحابة على المحاريب ثم انقشعت الغمة واستطلق وجه السنة ضاحكاً ..
وهكذا في كل مرةٍ يعقب الفرج الشدة ، ويتبع الهزيمة النصر ، ويؤذن الفجر على أذيال ليل مهزوم … فلا يأس ولا قنوط ..
اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج
وأحسن من هذا قول الباري جل علا .. {وَلاَ تَايْـئَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْـئَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ} ..
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (أكبر الكبائر الإشراك بالله ، والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله) ..
فيا أيها الغيورون على أمة الإسلام .. إن الذي أهلك فرعون وعاداً وثمود وأصحاب الأيكة ، وإن الذي رد المشركين والتتار ودحر الصليبين والروس .. قادر على أن يمزق شمل الغرب والأمريكان ويبدد غطرسة اليهود الصهاينة ويقهر النصيرية والرافضة المجوس ، ويحطم أصنام الوثنية المعاصرة ..
عباد الله : إن في هذا الحدث العظيم من الآيات البينات والآثار النيرات والدروس والعبر البالغات ، ما لو استلهمته أجيال الأمة اليوم ، وعملت مخلصة على ضوئه لتحقق لها ما تصبو إليه من عز وقوة وتمكين ، فالقوة لله جميعا ، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين يقيناً ، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ..
بارك الله ...



منقول بتصرف ..

المشاهدات 2722 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا