الهجرة ... دروس وعبر

إبراهيم بن سلطان العريفان
1442/12/19 - 2021/07/29 21:08PM
إنَّ الحمد لله نحمده فاتقوا الله عباد الله؛ فإنَّ التقوى رأْسُ العمل الصالح، والمتجر الرابح، فتزوَّدوا بها ما استطعتُم، واستغفروا لذنوبكم ما أسررْتُم منها وما أعلنتم. إخوة الإيمان والعقيدة .. نقفُ وإيَّاكم اليوم مع حَدَثٍ مُهمٍّ، إنَّه حَدَثُ الهجرة؛ هجرة الرسول ﷺ من مكة إلى المدينة، تلك الهجرة التي خَلقتِ المسلمين خَلقًا جديدًا، فحوَّلتْ ضَعفَهم إلى قوَّة، وقِلَّتهم إلى كَثْرة، وذِلَّتهم إلى عِزَّة.  لقد عاشَ رسول الله  ﷺ في مكة ثلاثة عشر عامًا يدْعو قَوْمه إلى كلمة "لا إله إلا الله"، فما آمَنَ به إلا قليلٌ من الناس، ولكنَّهم قِلَّة صادقة خالَطَ الإيمان بشاشةَ قلوبهم، هذا الإيمان الذي دَفَع الصحابة إلى العبادة والرِّيادة، وجَعَلهم يجاهدون ويستشهدون، إلى أنْ دانتْ لهم الدنيا كلُّها، ذلك الإيمان الذي غَرَسه رسول الله ﷺ في قلوبهم، جعَلَ من عُبَّاد الأوثان عُبَّادًا للرحمن، وجَعَل من أهل الجاهليَّة قومًا يبيتون لربِّهم سُجَّدًا وقيامًا، وجَعَل منهم رجالاً سطَّروا أرْوَعَ صفحات التاريخ في كثيرٍ من الميادين. عباد الله ... إنَّ إيذاء المشركين لرسول الله ﷺ وأصحابه كان سببًا من أسباب هجرة النبي ﷺ من مكة إلى المدينة، ولقد أُوذِي النبي ﷺ كثيرًا، فصَبَر وصابَر، وظلَّ المشركون على عنادهم وكَيْدهم، فاجتمعوا في دار الندوة وعَقَدوا مؤتمر الدسيسة والغَدر، فمِن قائل بنَفْيه، ومن قائل بحَبْسه، إلى أن استقرَّ رأْيُهم على أن يختاروا من كلِّ قبيلة شابًّا جلدًا قويًّا، يُحيطون بداره ﷺ، وعندما يخرج عليهم يضربونه ضربة رجلٍ واحد، فيتفرَّق دَمُه في القبائل، ولكنْ فضَحَ الله سرَّهم، وخَيَّب أمرَهم، فقال مُخاطِبًا رسولَه ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ ثم ينزل جبريل عليه السلام على رسول الله ﷺ يُخْبره أنَّ الله قد أَذِن له بالهجرة من مكة إلى المدينة. عباد الله ... لقد كانتْ هجرة النبي ﷺ دَحْرًا للفساد في العقائد، والضلال في الأفكار، كما كانتْ فتحًا جديدًا في تاريخ الإنسانيَّة، ونصْرًا مُؤَزَّرًا. ولقد علَّمتْنا العِظَات والعِبَر أنَّ الحقَّ لا بدَّ له من وطنٍ ودارٍ وأنصارٍ، يَحتاج الحقُّ إلى أن يلجَأَ بدعوته إلى تُرْبة خِصْبة، ودار آمنة، وأنصارٍ مؤمنين. عباد الله ... نتعلَّم من الهجرة أنَّ الشباب إذا نشؤوا منذ الصغر على مواجهة الخطر، كانوا أجِلاَّء أقوياء، فهذا علي بن أبي طالب t ينشأ في مدرسة النبوة فتًى من فتيان الإسلام لا يخاف إلا الله، ولا يَهاب أحدًا سواه، يقول له النبي ﷺ ليلة الهجرة (نَمْ على فراشي؛ فإنه لنْ يخلصَ إليك شيءٌ تَكْرهه منهم) فقَبِل عليٌّ التضحية فداءً لرسول الله ﷺ بلا خوف ولا تَردُّد. عَلَّمتْنا الهجرة رعايةَ الله لعباده المخلصين؛ فهذا رسول الله ﷺ يختبِئ مع صاحبُه في الغار الليالي ذوات العدد، فلا تَحرسه أمام الغار إلا رعايةُ الله الذي ينصر عباده المخلصين ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾. علَّمتْنا الهجرة أنَّ المرأة المسلمة تستطيع أن تقومَ بواجبها في المناسبات الملائمة، والظروف الموائمة، لا كما يريدها أعداءُ الله اليوم سلعةً رائجةً، فهذه أسماء بنت الصدِّيق رضي الله عنها كانتْ تحمل الزادَ من مكةَ إلى الغار، غيرَ خائفة من العيون والأرصاد، وشَقَّتْ نطاقَها نصفين؛ ربطتْ بأحدهما الجراب، وبالنصف الآخر فم قِربة الماء؛ فسُمِّيَتْ: ذات النطاقين. عَلَّمتْنا الهجرة حبَّ الوطن، فها هو رسول الله ﷺ يخرج من مكة في سبيل الله متأثِّرًا لمفارقة وطنه، فيلتفتُ إليها ويُخاطبها خطابَ المحبِّ لها، ويقول (والله، إنَّك لأحبُّ أرض الله إليَّ، وإنَّك لأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أنَّ أهلَك أخرجوني منك ما خرجتُ). أسأل الله أن ينصرَ الإسلام، وأن يُعزَّ المسلمين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم  ولسائر المسلمين من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.   الحمد لله وحْدَه، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده، وعلى آله وصَحْبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدِّين، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحْدَه لا شريك له؛ الإله الحق المبين، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ إمام المتقين، وخاتم المرسلين.   معاشر المؤمنين ... أوصيكم ونفسي بتقوى الله U وطاعته، وأُحَذِّركم من معصيته ومخالفة أمره. من غار ثور كان المنطلَق السعيد لهذا الدِّين الجديد، وبعد سفرٍ مُضْنٍ وجُهْد شاقٍّ، وتَحمُّل قَيْظٍ لا يَرحم، تلوح للنبي ﷺ طَيبة المبارَكة، ويَستقبل أهلُها النبيَّ ﷺ استقبالاً عظيمًا ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾. وابتدأَ النبي ﷺ صفحة جديدة في نشْر الدعوة؛ طابعُها التشريع والتخطيط البديع، وأملُها أن يدفَعَ عنها كَيْد الكائدين وبَطْش الحاقدين، ومن هنا كانت الهجرة بداية للكفاح الشاق. والهجرة من مكة إلى المدينة، لَم تكنْ فرارًا؛ بل انتصارًا، حتى لا تتجمَّدَ مسيرةُ الحقِّ، ويَستشريَ طُغيان الباطل، ولقد ضَرَب لنا رسول الله ﷺ وأصحابه المثَلَ والأُسوة الْحَسَنة في التضحية بالنفس والنفيس من أجْل نُصْرة دين الله وإيصاله إلينا، ولتكون كلمة الله هي العُليا وكلمة الذين كفروا السُّفْلى. عباد الله ... إنَّ أسْمَى أنواع الهجرة هي الهجرة من الشرِّ إلى الخير، ومِن الرذيلة إلى الفضيلة، ومن الظلام إلى النور، فلنهاجِرْ إلى الله بقلوبنا؛ إلى الخير، والحبِّ، والنقاء (المهاجر: مَن هَجَر ما نَهَى الله عنه). ثم اعلموا أنَّ الله أمَرَكم بالصلاة والسلام على خاتم رُسله في أعظم كُتبه؛ فصلُّوا عليه.  
المرفقات

1627592920_الهجرة ... دروس وعبر.docx

1627592927_الهجرة ... دروس وعبر.pdf

المشاهدات 1235 | التعليقات 0