الهجرة النبوية ميلاد أمة وبناء دولة .. الشيخ السيد طه

Sheikh Sayed2019
1446/01/01 - 2024/07/07 15:14PM

الحمد لله رب العالمين .. فضل الهجرة ورفع درجة المهاجرين فقال تعالي: } ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ أَعۡظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَآئِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمۡ رَبُّهُم بِرَحۡمَةٖ مِّنۡهُ وَرِضۡوَٰنٖ وَجَنَّٰتٖ لَّهُمۡ فِيهَا نَعِيمٞ مُّقِيمٌ (21) خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥٓ أَجۡرٌ عَظِيمٞ (22){[التوبة].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... يؤيد أوليائه ويدافع عنهم فقال تعالي}إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ(38){ ]الحج[ .

وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) علمنا الأخذ بالأسباب معتمدين على رب الأسباب سبحانه وتعالى فقال لصاحبة في الغار }يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن إن الله معنا {

فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين ..

أما بعد : فيا أيها المؤمنون

تعيش الأمة الإسلامية في هذه الأيام ذكرى الهجرة النبوية المباركة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ، والهجرة ليست حدثاً عادياً كأي حدث، لأن الهجرة موسم عظيمٌ من مواسم التحولات الإيمانية والتربوية والحضارية، موسمٌ يتجدَّد ولا يتوقَّف أبدَ الدهر، فلا زمن يَحُدُّه، ولا مكان يُحيطه، بل إن الهجرة تَنبِض في قلوبنا وتَدفعنا للتغيير والإصلاح الذي نَنشُده.

إن حدث الهجرة المباركة غيَّر مسيرة التاريخ، وتجلت فيه قوة العزيمة، وكمال الشجاعة، وصدق الإيمان، ونهاية التضحية، وحب الإيثار، لقد كانت الهجرة مؤشراً لانطلاق الدعوة، التي ظلت حبيسة في أرض حسب أهلها أن انتهاك الحرمات إقدام، والنيل من المستضعفين جرأة و شجاعة.

لقد كانت الهجرة ميلاد لأمة الإسلام وبعث حضاري جديد للأمة ، لذلك كان حديثنا

}الهجرة ميلاد أمـة وبناء دولة{ وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..

1ـ الهجرة من المعالم البارزة للأمة .

2ـ الهجرة وخوارق العادات .

3ـ الهجرة ميلاد أمـة وبناء دولة.

4ـ التخطيط البشري للهجرة المباركة.

5ـ التأييد الرباني في الهجرة .

6ـ معالم الدولة الفاضلة في المدينة المنورة .

7ـ الخاتمة .

العنصر الأول : الهجرة من المعالم البارزة للأمة :

الهجرة من المعالم البارزة للأمة وذلك لمكانتها بين الأحداث التاريخية ، ولما للهجرة

من آثار على انتصار الدعوة  وظهورها ولأنه بالهجرة ولدت دولة الإسلام.

لذلك أرخ المسلمون لهم بالهجرة كمعلمٍ بارز في تاريخ الدعوة ؛ وذكروا في سبب عمل سيدنا عمر رضي الله عنه التأريخ بالهجرة " أن أبا موسى كتب إلى عمر: "أنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم : أرخ بالمبعث،

وبعضهم قال :أرخ بالهجرة، فقال عمر : الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها، و ذلك سنة سبع عشرة، فلما اتفقوا، قال بعضهم : ابدؤوا برمضان فقال عمر: بل بالمحرم فإنه منصرف الناس من حجهم، فاتفقوا عليه ".

لقد كان عمر رضي الله عنه و من معه يحرصون كل الحرص على ألا تذوب شخصية هذه الأمة في شخصية غيرها من الأمم، إذا لم يرضوا أن يكونوا في تاريخهم تبعاً لأمة من الأمم، بل كانوا مبدعين في كل شيء، ليسوا إمعات ولا ببغاوات، يستوردون فكرهم و ثقافتهم و تاريخهم من غيرهم.

لقد تجلى فقه الصحابة رضوان الله عليهم، في هذه الموازنة الفذة بين الأحداث، ثم اختيار الهجرة بذاتها لتكون عنواناً ورمزاً للتاريخ الإسلامي، إذ أنهم اعتبروا الهجرة بداية وجودهم الحقيقي في هذه الحياة، لقد كان هذا العمل منهم فهماً عميقاً لرسالتهم، لأن الهجرة كانت عملاً غير الله به وجه التاريخ الإنساني بعد أن مال ميلاً عظيماَ،

ودفع به إلى وجهته الصحيحة مستقيماً غير ذي عوج.

العنصر الثاني : الهجرة وخوارق العادات :

قد يسأل سائل لماذا لم تقم الهجرة علي المعجزة الربانية مثلما حدث في رحلتي الإسراء والمعراج يأتيه البراق ويذهب به إلي المكان الذي يريده ؟

لا بد أن نحدد الفرق بين الهجرة والإسراء والمعراج : الإسراء والمعراج كانت معجزة الهدف منها التسرية والتسلية لقلب النبي (ﷺ) وخاصة بعد الأحداث العظيمة التي حدث في عام الحزن من شدة تعذيب وفقدان زوجه خديجة رضي الله عنها

وعمه أبي طالب .

أما الهجرة المباركة كان من الممكن أن يهاجر النبي (ﷺ) وأصحابه الكرام بكلمة كن ولكن لم يحدث!! لأن الهدف من الهجرة هو تأسيس دولة الإسلام والإبقاء علي الإسلام فتأسيس دولة الإسلام لا يقوم علي المعجزات ولا خوارق العادات ، فلا بد من بذل الجهد البشري القائم علي التخطيط والأخذ بالأسباب ولكي يتعلم الناس هذه السنة الكونية التي لا ينصلح الكون إلا بها ولا يقوم الدين إلا بها .

العنصر الثالث : الهجرة ميلاد أمة وبناء دولة :

لم تكن الهجرة فراراً من الجهاد أو تهرباً منه، كلا وإنما كانت إعداداً لأعبائه، ولم

 تكن خوفاً من الأذى، و لكن توطيداً لدفعه، و لم تكن جزعاً من المحنة، و لكن توطيناً للصبر عليها، أجل لم تكن فراراً من القدر، ولكنها كانت فراراً إلى القدر.

ولم تكن الهجرة فرارا من المحنة، أو مجرد انتقال مكاني، وإنما كانت فاتحة العمل الجاد المتواصل لتغيير الأرض، و تحويل مجرى التاريخ، والتحول من مرحلة الدعوة والاستضعاف  إلى مرحلة الدولة والقوة ، ووضع أسس البناء الإسلامي الشامخ ؛ ولم تكن الهجرة إلى المدينة مجرد الفرار بدين الله تعالى من ظلم قريش وقسوتها في معاملة المسلمين  كما يفهم بعض قصيري النظر  إنما كانت الاتجاه بالدين إلى بيئة صالحة لأن ينمو فيها وتكون قاعدة انطلاق لمشاعل النور والهدي إلى بقية أصقاع الأرض.

ولذلك كانت أكبر أحداث التاريخ البشرى بلا مبالغة، بل أعظم هجرة في تاريخ النبوات جميعا من حيث النتائج والآثار، ومن حيث التفاعلات التي تولدت عنها، والأحداث التي تعاقبت بعدها، وترتبت عليها.

وبذلك كان يوم بدر وفتح مكة وما تبعه، وتطهير الجزيرة العربية من أرجاس اليهود و الشرك ، وإسلام العرب، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، و تقويض ممالك الفرس والروم، و وصول الإسلام إلى الصين شرقا والأندلس غربا ؛ كل هذا وأكثر منه سيظل مديناً بقدرٍ كبير لهذه الهجرة النبوية المباركة.

إن الهجرة يتجلى فيها التعامل مع الأسباب ؛ لأن ذلك من الدين، إذ الأسباب ما هي إلا أدوات للقدرة العليا، ومفاتيح لخزائن رحمة الله عز وجل، إن من تأمل الهجرة،

ورأى دقة التخطيط فيها، ودقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، يدرك أن التخطيط جزء من السنة النبوية، بل هو جزءٌ من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم، ولابد أن نعلم أن هذه العبقرية في التخطيط، ما كان بها وحدها يكون النجاح، لولا التوفيق الإلهي، والإمداد الرباني .

العنصر الرابع : التخطيط البشري للهجرة المباركة :

كيف تم تخطيط النبي (ﷺ) للهجرة المباركة ؟

لقد وضع النبي (ﷺ) الخطوات الأساسية للخطة وهي كما يلي :

الخطوة الأولي : وضوح الرؤية :

وضوح الرؤية لدي النبي (ﷺ) منذ أول يوم في الرسالة أنه مبعوث للعالمين ، وأن

التحديات له من أول يوم وأنه سيتحول من بلد إلي بلد وسيكون البلد الجديد مأوي جديد للدعوة وذلك من خلال حديثه مع ورقة ابن نوفل لما رجع (ﷺ) من غار حراء وبعد حوار طويل تقول له زوجته خديجة بعد أن أخذته إلى ابن عمها ورقة بن نوفل: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله (ﷺ) خبر ما رأى، فقال ورقة:(هذا هو الناموس الأكبر نزّله الله على موسى، ليتني فيها جَذَعَا أنصرك حين يخرجك قومك، ولئن أدركني يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا).

وإدراكه أن حالة الاستضعاف التي هم فيها لن تدوم فتهيأ (ﷺ) لتلك المرحلة فربي

أصحابه تربية صلبة قوية تربية رجل الدولة فكرا وعقلا وممارسة ، فكان يبعث فيهم الأمل والنظرة المستقبلية يتضح من حديثه مع خباب رضي الله عنه :}شكونا إلى رسول الله (ﷺ) وهو متوسد بردة له في الكعبة، فقلنا له ألا تستنصر لنا؟

ألا تدع الله لنا؟ قال: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء

بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون{

الخطوة الثانية : تحديد الأهداف :

1ـ إقامة دين الله: ولا شيء أغلى عند المسلم من دينه، ولا شيء أسمى من رسالة التوحيد، فهي التي عليها نحيا، وعليها نموت، وفي سبيلها نجاهد، وعليها نلقى الله، ولذلك هاجر رسول الله (ﷺ) من أجله ، وضحي أصحابه الكرام رضوان الله عليهم جميعا من أجله فعلي سبيل المثال : يقول أهل السير: كان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنَّبه وأخزاه، وأوعده بإبلاغ الخسارة الفادحة في المال، والجاه، وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به.

وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من ورق النخيل ثم يدخنه من تحته.

ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه منعته الطعام والشراب، وأخرجته من بيته،

 وكان من أنعم الناس عيشًا، فتَخَشَّفَ جلده تخشف الحية.

وكان صهيب بن سنان الرومي يُعذَّب حتى يفقد وعيه ولا يدرى ما يقول، وترك ماله وأرضه وداره وهاجر إلي الله ورسوله ونزل فيه قول الله تعالي }وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ (207){ ]البقرة[ .

وكان بلال مولى أمية بن خلف الجمحي، فكان أمية يضع في عنقه حبلًا، ثم يسلمه إلى الصبيان، يطوفون به في جبال مكة، ويجرونه حتى كان الحبل يؤثر في عنقه، وهو يقول: أحَدٌ أحَدٌ، وكان أمية يشده شدًا ثم يضربه بالعصا، و يلجئه إلى الجلوس في حر الشمس، كما كان يكرهه على الجوع. وأشد من ذلك كله أنه كان يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في الرمضاء في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك: أحد، أحد، ويقول: لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها.

ومر به أبو بكر يوما وهم يصنعون ذلك به فاشتراه بغلام أسود، وقيل: بسبع أواق أو بخمس من الفضة، وأعتقه.

وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه مولى لبني مخزوم، أسلم هو وأبوه وأمه، فكان المشركون  وعلى رأسهم أبو جهل  يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرها.

ومر بهم النبي (ﷺ) وهم يعذبون فقال: ( صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة )، فمات

 ياسر في العذاب، وطعن أبو جهل سمية (أم عمار) في موضع عفتها بحربة فماتت، وهي أول شهيدة في الإسلام، وهي سمية بنت خياط مولاة أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكانت عجوزًا كبيرة ضعيفة. وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة، وبوضع الصخر الأحمر على صدره أخرى، وبغطه في الماء حتى كان يفقد وعيه. وقالوا له: لا نتركك حتى تسب محمدًا، أو تقول في اللات والعزى خيرًا، فوافقهم على ذلك مكرهًا، وجاء باكيًا معتذرًا إلى النبي (ﷺ). فأنزل الله: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ(106)}[ النحل].

والأمثلة كثيرة والسيرة مليئة بالقدوات الرائعة في البذل والعطاء من أجل إقامة الدين وكان شعارهم :

تهون الحياة وكل يهون     ولكن إسلامنا لا يهون

نضحي له بالعزيز الكريم    ومن أجله نستحب المنون

2- حماية الفئة التي آمنت بدين الله عزَّ وجلَّ، وبرسوله محمد (ﷺ) من بطش المشركين الكافرين؛ حتى تتمكن من إقامة هذا الدين.

3- نشر دين الله، وجعل كلمة الله هي العليا، وكلمة المشركين الكافرين السفلى، وصدق الله العظيم القائل: }إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ

حَكِيمٌ(40){ ]التوبة[.

4- تأسيس الدولة الإسلامية التي تطبق شرع الله في كلِّ نواحي الحياة؛ من خلال المجتمع الإسلامي المتآخي المترابط المتحاب.

فالدولة إحدى ضرورات إقامة الدين في الأرض فهي حارسة له حامية لمبادئه كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي: "الدين والسلطان توأمان ، الدين أصل والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم وملا حارس له فضائع" .

ولقد قرر علماء السياسة الشرعية أن أول ما تحتاج إليه الدعوة الإسلامية أن تقوم "دار الإسلام" أو دولة الإسلام" التي تتبنى رسالة الإسلام عقيدة وشريعة عبادة وأخلاقا, هذه الدولة ضرورة إسلامية وهي أيضا ضرورة إنسانية دولة توحد الأمة تحت راية واحدة وتنطلق بالإسلام إلى العالمية، هذه الدولة جزء من نظام الإسلام، وإذا كانت الأفكار والمعتقدات والمبادئ تحتاج إلى كيان قوي لحمايتها فهذا الكيان

هو الدولة التي سعى إليها رسول الله (ﷺ) من أول يوم.

5- الانطلاق بالإسلام إلى العالم لتكون له الأستاذية باعتباره الدين التام والشامل، وأن رسوله قد أُرسل إلى الناس كافة، مصداقًا لقول الله: }وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(28){ ]سبأ[

ومن أجل تحقيق هذه الأهداف العامة كانت الهجرة التي أُذِنَ للرسول بها، وهذا أمر مهم واستراتيجي وعظيم يجب أن توضع له السياسات ويخطط له بحكمة، وينفذ بنظم وبرامج وبأساليب رشيدة .

الخطوة الثالثة : الوسائل والأساليب:

رغم ثقة النبي (ﷺ) بحماية ربه له فهذا لم يمنعه من أن يأخذ الاحتياط البشري الذي يملكه ، وما أحوجنا إلي أن ندرك واجبنا في الإعداد لمواجهة العدو رغم اعتمادنا الأول والأخير علي الله تعالي ، لا أن نحيل تقصيرنا وضعفنا وتهاوننا علي القدر ، ونتوجع علي عدم نصر الله تعالي لنا ،ونحن المسؤولون عن ذلك.

لذلك قام النبي (ﷺ) بوضع الوسائل للهجرة المباركة علي النحو التالي :

1- التهيئة للهجرة واختيار المكان المناسب :

البحث عن مراكز داعمة للحركة نحو الدولة وذلك من خلال ترتيب الهجرة إلى الحبشة قال تعالى: { يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ أَرۡضِي وَٰسِعَةٞ فَإِيَّٰيَ فَٱعۡبُدُونِ (56)}] العنكبوت[  .

قال ابن كثير رحمه الله: "هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين إلى أرض الله الواسعة حتى يمكن إقامة الدين… إلى أن قال: ولهذا ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك، فوجدوا خير المنزل هناك أصحمة النجاشي ملك الحبشة، رحمه الله تعالى، قال رسول الله (ﷺ) لأصحابه: }لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل لكم فرجاً مما أنتم فيه { .

فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله (ﷺ) إلى أرض الحبشة، مخافة

 الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام).

ولكن كان النبي (ﷺ) يعلم من خلال خبرته للواقع أن الحبشة لا تصلح لأن تكون مقرا للدولة الإسلامية لأنها كانت في منفي واعتماد الدولة علي الملك العادل الذي إن مات ماتت الدعوة هناك ، ولكن ظل النبي (ﷺ) يعرض نفسه علي القبائل والأسواق ، حتي قابل  ستة شباب من الخزرج في العقبة، فواعدوه سنة حتى يكمل اجتماع أهل يثرب، بعد أن فرَّقهم وشتَّت شملهم النزاع في حرب بعاث، وانتظر رسول الله (ﷺ) عاما كاملا على الموعد الذي تم بينه وبين النفر الستة من الخزرج، وتم لقاء جديد في العقبة أطلق عليه فيما بعد  بيعة العقبة الأولى، وهو كما رواه ابن إسحاق:

"حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا، فلقوه بالعقبة، وهي العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله (ﷺ) على الإسلام وهو ما يسمي ببيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب".

عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وكان شهد بدرًا، وهو أحد النقباء ليلة العقبة أن رسول الله (ﷺ) قال وحوله عصابة من أصحابه }بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروفٍ، فمَن وفى منكم فأجرُه على الله، ومَن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا، فهو كفَّارة له، ومَن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله، فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه{، فبايعناه على ذلك.

يقول ابن إسحاق: "فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله (ﷺ) ودعوهم إلى الإسلام حتى فشى فيهم، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله (ﷺ) ".

ولقد بعث النبي (ﷺ) مصعب بن عمير ممثلا شخصيا للرسول (ﷺ) إلي المدينة يفقه المسلمين بهذا الدين الجديد، واستطاع السفير الأول  في المدينة مصعب بن عمير بحكمته وحصافته وذكائه أن يقنع أكبر قيادات الأوس للإسلام، أسيد بن حضير وسعد بن معاذ، خلال العام الجديد، ولم يبق في بني عبد الأشهل بطن كبير من

الأوس رجل ولا امرأة ولا طفل إلا ودخل في الإسلام.

لقد أصبح الجو العام في المدينة مهيأ تهيئة تامة لقيام الدولة الإسلامية.

وهذا ما خطط له رسول الله (ﷺ) بعد أن بذل كل ما يملك من جهد لتعبئة الطاقات الإسلامية في المدينة.

وتمت التعبئة الكاملة، حين شعرت القاعدة الصلبة التي بايعت النبي (ﷺ) البيعة الأولي أنه قد آن الأوان لقيام الدولة الجديدة، وكما يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "حتى متى نترك رسول الله (ﷺ) يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟".

 لقد أصبحت النفوس جاهزة للانطلاق، وتنتظر إشعال الفتيل للحرب ضد الجاهلية المستحكمة.

وصار القوم جاهزون لبيعة جديدة قادرة على حماية رسول الله (ﷺ) ومنعته.

كان اللقاء الذي غير مجرى التاريخ في موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من البعثة، حيث حضر لأداء مناسك الحج بضع وسبعون نفسا من المسلمين ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان) من أهل يثرب، فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم اتصالات سرية أدت إلي اتفاق الفريقين على أن يجتمعوا في أوسط أيام التشريق في الشعب الذي عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى، وأن يتم هذا الاجتماع في سرية تامة في ظلام الليل، والذي كان من نتائجه أن تغيرت خريطة العالم بعد ذلك وقامت للإسلام دولة، وسقطت عروش عظيمة كعرشي كسرى وقيصر، واستقر دين الإسلام في الأرض.

تكلم رسول الله (ﷺ) ، وتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام ثم قال: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم"، فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا (نساءنا) فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحرب، وأبناء الحلقة (السلاح)، ورثناها كابرا عن كابر، فاعترض القول والبراء يُكَلِّمُ رسول الله (ﷺ) أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا، وإنا قاطعوها يعني اليهود فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال فتبسم رسول الله (ﷺ) ، ثم قال: "بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم".

وروى الإمام أحمد في مسنده والبيهقي في السنن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: فَرَحَلَ إِلَيْهِ مِنَّا سَبْعُونَ رَجُلاً حَتَّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ في الْمَوْسِمِ فَوَعَدْنَاهُ شِعْبَ الْعَقَبَةِ فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ حَتَّى تَوَافَيْنَا فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مَا نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: "تُبَايِعُونِى عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ في النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، والنَّفَقَةِ في الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْىِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَنْ تَقُولُوا في اللَّهِ لاَ تَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ، وَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ. وَلَكُمُ الْجَنَّةُ".

يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَهُوَ أَصْغَرُ السَّبْعِينَ، فَقَالَ: رُوَيْدًا، يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، إِنَّا لَمْ نَضْرِبْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيِّ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، إِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنْ تَعَضَّكُمْ السُّيُوفُ، فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى السُّيُوفِ إِذَا مَسَّتْكُمْ، وَعَلَى قَتْلِ خِيَارِكُمْ، وَعَلَى مُفَارَقَةِ الْعَرَبِ كَافَّةً، فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً، فَذَرُوهُ فَهُوَ أَعْذَرُ عِنْدَ اللَّهِ.

قَالُوا: يَا أَسْعَدُ بْنَ زُرَارَةَ، أَمِطْ عَنَّا يَدَكَ، فَوَاللَّهِ لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ، وَلَا نَسْتَقِيلُهَا.

فَقُمْنَا إِلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا يَأْخُذُ عَلَيْنَا بِشُرْطَةِ الْعَبَّاسِ، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ.

ولقد سجَّل القرآن ذلك، يقول الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا (18)}[الفتح].

وبعد أن تمت بيعة العقبة الثانية طلب رسول الله (ﷺ) انتخاب اثنى عشر زعيما يكونون نقباء على قومهم، يكفلون المسؤولية عليهم في تنفيذ بنود هذه البيعة، إذ إن رسول الله (ﷺ) لن يستطيع أن يبايع كل أفراد الأمة المسلمة على ذلك، فلا بد من انتخاب قيادة مسؤولة مسؤولية مباشرة عن هذه القواعد.

وتم الأمر بانتخاب تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. وبعد هذا الانتخاب الحر عقد رسول الله (ﷺ) اجتماعًا مهمًّا على مستوى القمة مع هؤلاء النواب، وأخذ عليهم النبي (ﷺ) ميثاقا آخر بصفتهم رؤساء مسؤولين، وقال لهم: "أَنْتُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ بِمَا فِيهِمْ كُفَلاءُ كَكَفَالَةِ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى بِنْ مَرْيَمَ، وَأَنَا كَفِيلٌ عَلَى قَوْمِي". يعني المسلمين من أهل مكة. فقالوا: نعم.

قال ابن إسحاق: "فلما أذن الله تعالى لرسوله (ﷺ) في الحرب، وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن تبعه وآوى إليه من المسلمين، أمر رسول الله (ﷺ) أصحابه من المهاجرين من قومه، ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها، واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال: "إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها".

فخرجوا أرسالًا وأقام رسول الله (ﷺ) بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة، والهجرة إلى المدينة"

فكان اختيار المدينة اختيار صائب لأن موقع المدينة الاستراتيجي بين مكة والشام،

وتحديدًا على طريق القوافل التجارية من وإلى الشام، وبين الشام واليمن، ولا يكاد طريق للتجارة ينطلق من مكة أو اليمن نحو الشام أو العراق إلَّا مرَّ بالمدينة أو قريبًا منها، فإن ذلك الموقع المهم سيُعطي قوة ضغط كبيرة تنفع المسلمين في بعض الإجراءات العسكرية أو إذا تطلب الأمر وحسب مقتضى الظروف ومستجداتها، وخاصة في قضية تجارة قريش، وهي القضية الاقتصادية التي تُمثِّل عصب الحياة بالنسبة لأهل مكة.

وأيضاً اختلاف طبيعة بشر أهل المدينة عن بقية الناس، وقد كانت هذه الرؤية واضحةً لدى النبي محمد (ﷺ) حين كان يلتقي بوفودهم في مواسم الحج، ولاحَظ دماثة أخلاقهم، ورجاحة عقولهم، وسلامة صدورهم، وفصاحة منطقهم، وخاصة كبار القوم فيهم؛ حيث لم يظهروا عداءً صريحًا يصل إلى مرحلة القتال، حتى أولئك الذين لم يؤمنوا من أول مرة.

2- التوقيت المناسب للهجرة:

لقد أَوْحَى الله عزَّ وجلَّ إلى نبيه (ﷺ) وأخبره بمؤامرة قريش، وَأَذِنَ له في الخروج، وحدَّد له وقت الظهيرة، وذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه في ذلك الوقت، في ساعة لا يظن أحد أن يخرج فيها رسول الله (ﷺ) ، وَمَكَثَ في الغار ثلاثة أيام حتى تهدأ الأمور ويأمن الطريق، لقد اختار الله عزَّ وجلَّ لنبيه التوقيت المناسب في إطار خطة محكمة وترتيب دقيق.

 3- اختيار الطريق المناسب:

خرج رسول الله (ﷺ) وصاحبه من الغار نحو الجنوب إلى اليمن، ثم اتجه غربًا إلى الساحل حتى سارا في طريق لم يألفه الناس إلا نادرًا بهدف تجنب شر الأعداء.

4- كتمان الأمر :

سياسة كتم الأسرار، حتى لا يعلم المشركين والكفار أي معلومات عن الهجرة، حتى وأنه قد أخفاها لمرحلة معينة عن صاحبه المخلص الأمين أبو بكر الصديق، وعن الذين سوف يكلفون بمهام خاصة فيها، تقول كتب السيرة:

 "لقد استعد أبو بكر للهجرة إلى المدينة؛ ليلحق بمن هاجر من قبل، فقال له رسول الله (ﷺ): "على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي"، فقال له أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال:  نعم ، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله (ﷺ) ليصحبه.."، ولكن لم يُعْلِم رسول الله (ﷺ)أبا بكر بميعاد الهجرة.

والنموذج الثاني من كتمان أسرار الهجرة عندما ذهب النبي (ﷺ) إلى أبي بكر؛ ليبرم

 معه مراحل الهجرة، قالت عائشة رضي الله عنها:}بينما نحن جلوس في بيت أبي

بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله (ﷺ) متقنعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداك له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلاَّ أمر؛ قالت: فجاء رسول الله (ﷺ) فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي (ﷺ) لأبي بكر: "أخرج مَنْ عِنْدك"، فقال أبو بكر: إنما هم أَهْلُكْ، بأبي أنت يا رسول الله، قال: "فإني قد أُذِنَ لي في الخروج"، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال

 رسول الله (ﷺ): نعم{ ]رواه البخاري[

 ويستنبط من ذلك الموقف كتمان ميعاد الهجرة عن أهل رسول الله (ﷺ) وعن أبي بكر حتى ساعة التنفيذ، وهذه سياسة رشيدة عند التعامل مع الأعداء.

5- توزيع الأدوار والاختصاصات وتوفير الأدوات:

إن سياسة تحديد وتوزيع الاختصاصات والمسئوليات من الأشياء المهمة في أي خطة، فلم تكن الهجرة عملاً عشوائيًّا، بل كانت خطة محكمة جدًّا وتنظيمًا دقيقًا، وُزِّعَت فيها الاختصاصات وحُدِّدَت المسئوليات علي هذا النحو:

رفيق الرحلة :

فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يرافق الرسول (ﷺ) ويعاونه ويساعده ويشتري

راحلتين ، ونجد أن النبي (ﷺ) رفض أخذ الراحلة من أبي بكر إلا بالثمن؟

قال بعض العلماء: إن الهجرة عمل تعبدي فأراد عليه الصلاة والسلام أن يحقق الإخلاص بأن تكون نفقة هجرته خالصة من ماله دون غيره، وهذا معنى حسن، وهو درس عظيم في الإخلاص وتكميل أعمال القرب التي تفتقر إلى النفقة ( كنفقة الحج،

 والزكاة ، وغيرها من الأعمال ) فإن الأولى أن تكون نفقتها من مال المسلم خاصة.

رد الودائع والأمانات والتعمية علي الكفار :

يقوم به علي رضي الله عنه ، ينام في فراش النبي (ﷺ) للتمويه ويرد الأمانات والودائع لأصحابها.

رجل المخابرات العامة ونقل المعلومات :

يقوم به عبد الله بن أبي بكر، فلا يكفي أن يقوم النبي (ﷺ) في الغار مدة معينة ثم ينطلق إلي المدينة حسب تقديره وظنه فلا بد من التعرف مباشرة علي كل أسرار العدو مخططاته وتوقعاته بحيث تصل أول بأول إليه (ﷺ) فيكون متابعة تنفيذ الخطة قائما علي خبرة الواقع لا علي الظن يخطئ ويصيب فكان عبدالله يسمع أخبار مكة نهارا ويقضي النهار معهم ، ثم يأتي بالليل إلي النبي (ﷺ) في الغار يبيت معهم ، وقبل الفجر يذهب إلي مكة ،وكأنه نائم في مكة . ، وكلما كانت القيادة أعلم بواقع العدو ، وأدري بأسراره ، ولها في صفوفه من ينقل إليها كل تخطيطاته ، كلما كان

 ذلك أنجح لها في تنفيذ خططها ومخططاتها .

تأمين الزاد :

تقوم به أسماء بنت أبي طالب رضي الله عنها وكانت حامل في شهورها الأخيرة وكانت تصعد في الجبل اوعر الشامخ ذو الأحجار الكثيرة .

إخفاء أثر الأقدام :

يقوم به عامر ابن فهيرة ، يقوم برعي الأغنام ليعفي أثر الأقدام ،ونجحت هذه السياسة في إخفاء محاولة المشركين في العثور على رسول الله (ﷺ) وصحبه .

الاستعانة بالخبراء:

 لقد اتبع النبي (ﷺ) سياسة الاستعانة بالخبراء حتى ولو كانوا من غير المسلمين، لقد

 استعان رسول الله (ﷺ) بعبد الله بن أريقط الليثي؛ ليدله على أفضل الطرق الخفية إلى المدينة باعتباره من الخبراء في ذلك، تقول كتب السيرة: "لقد استأجر رسول الله (ﷺ) وصاحبه أبو بكر عبد الله بن أريقط الليثي الكافر، وكان هاديًا ماهرًا بالطريق وَأَمِنَاهُ على ذلك، وسلما إليه الراحلتين، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، وجاءهما عبد الله في المكان والميعاد المتفق عليه، ولقد استنبط فقهاء الإسلام أنه يجوز الاستعانة بغير المسلم عند الضرورة متى كان خبيرًا وأمينًا.

لقد كان توزيع دقيق للمسئوليات في إطار سياسة رشيدة وخطة محكمة، ولذلك تحققت المقاصد والأهداف بدون ارتباك أو خلل، وهذا ما يجب الاستفادة منه في إدارة شئون حياتنا كلها وفي دعوتنا الإسلامية.

6 ـ التمويه والسرية والكتمان :

حرص النبي (ﷺ)علي كتمان الأمر وأخذ السرية التامة تقول أمنا عائشة رضي الله عنها " بينما نحن جلوس في بيتنا بمكة في حر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله (ﷺ) مقيلا مغطيا رأسه في ساعة لم يأتينا فيها .."

وقد أوصي النبي (ﷺ) بالاستعانة بالسرية فقال (ﷺ) }استعينوا علي قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود {

لقد مَوَّه رسول (ﷺ) خروجه من البيت، ثم غادر هو وأبو بكر من بيت سيدنا أبو بكر رضي الله عنه من باب خلفي، وسلك طريقًا غير طريق المدينة المعتاد، وهو الطريق الواقع جنوب مكة والمتجه نحو اليمن، وكان النبي (ﷺ) يسير على أطراف قدميه كي يخفي الآثار، وظل في الغار مدة ثلاثة أيام حسب التخطيط ، وهنا تبدو عظمة التخطيط أكثر حين نعلم أن غار ثور في جنوب مكة ، وليس علي طريق المدينة حيث احتمالات الرصد ، ولما كان النبي (ﷺ) يعلم أن قريشا ستجد في الطلب ، وإن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالا ، فقد سلك الطريق المعاكس تماما وهو الواقع جنوب مكة والمتجه نحو اليمن ، سلك هذا الطريق نحو خمسة أمثال حتي بلغ إلي جبل يعرف بجبل ثور وهو جبل شامخ وعر الطريق صعب المرتقي ذو أحجار كثيرة فخفيت قدما رسول الله ،(ﷺ) وأقام النبي (ﷺ) ثلاثة أيام لأن الخروج إلي أي مكان في الأيام الأولي يجعلهما عرضة للوقوع في قبضة العدو كما أن المدة الزمنية كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا في المعلومات المقدمة من عبدالله ابن أبي بكر عن خفة الطلب عليهما كما أن الاستقرار أكثر قد يلفت النظر من الآخرين حين يتكرر المرور عليهما من أسماء وعبدالله كل

يوم .

العنصر الخامس : التأييد الرباني في الهجرة :

بالرغم من كل الأسباب التي اتخذها رسول الله (ﷺ) فإنه لم يرتكن إليها مطلقا ، وإنما كان كامل الثقة في الله تعالي ، عظيم الرجاء في نصره وتأييده ، دائم الدعاء بالصيغة التي علمه الله إياها قال تعالي:}وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80){ ]الإسراء[ .

ويظهر التأييد الإلهي في أكثر من موقف في الهجرة :

1ـ إخبار جبريل عليه السلام للنبي (ﷺ) بمكيدة قريش لقتله، و أمره ألا ينام في مضجعه تلك الليلة، قائلاً له : ” لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه “. وقد قال الله تعالي }وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(30)}[الأنفال].

وقد فسرها ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده بما قاله عبد الله بن عباس فيها، قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال: بعضهم إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي (ﷺ) ، وقال: بعضهم بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع الله عز وجل نبيه على ذلك فبات علي على فراش النبي (ﷺ) تلك الليلة وخرج النبي (ﷺ)  حتى لحق بالغار وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي (ﷺ) فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوا عليا رد الله مكرهم فقالوا أين صاحبك هذا، قال لا أدري

2ـ خروجه (ﷺ) من بين أيديهم ويضع علي رؤسهم التراب، فألقى الله عليهم النعاس فسقطت من أيديهم السيوف وما قاموا إلا عندما طلعت الشمس كل يحتحت التراب من على رأسه، وهو يتلوا قول الله تعالي }وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9){ ]يس[.

3ـ حماية الله وحفظه لنبيه (ﷺ) في الغار.

عندما خرجوا مغضبين لما رأوا عليا في فراشه (ﷺ) فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل خُلِّط عليهم فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال”. ساعتها أحاط المشركون بالغار، وأصبح منهم رأي العين طمأن الرسول (ﷺ) الصديق رضي الله عنه بمعية الله تعالي لهما ، فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : قلت للنبي (ﷺ) وأنا في الغار لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال :

 }ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما {

وسجل الحق عز وجل ذلك في قوله تعالي}إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ

الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(40){ ]التوبة[

ورحم الله القائل :

ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت     على خير البرية لم تنسج ولم تحم

عناية الله أغنت عن مضاعفة       من الدروع وعن عالٍ من الأطم

ورحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي :ـ

فَأَدبَروا وَوُجوهُ الأَرضِ تَلعَنُهُمْ        كَباطِلٍ مِن جَلالِ الحَقِّ مُنهَزِمِ

لَولا يَدُ اللهِ بِالجارَينِ ما سَلِما       وَعَينُهُ حَولَ رُكنِ الدينِ لَم يَقُمِ

ويلاحظ أنها جاءت بعد أن أخذ الرسول (ﷺ) بكافة الأسباب المتاحة، و هذا شأن المؤمن مع الأسباب، أن يقوم بها كأنها كل شيء في النجاح ثم يتوكل بعد ذلك على الله ؛ لأن كل شيء لا قيام له إلا بالله، فالنبي (ﷺ) خطط و دبر للهجرة و أخذ بكل أسبابها الممكنة للبشر، كل ذلك مع توكله المطلق على ربه و مولاه الذي كان يجرى له الخوارق بعد استفراغ غاية الجهد ؛ و لذلك قال لصاحبه : "لا تحزن إن الله معنا" و لم يقل : لا تحزن إن خطتنا محكمة، و هي بالفعل محكمة، لكن الأمر كله لله من قبل و من بعد.

4 ـ مشهد آخر من مشاهد ذلك التأييد الرباني، والحفظ الإلهي تجلى واضحاً، في خبر سراقة بن مالك وهو يلحق بالنبي عليه الصلاة والسلام وصاحبه وهو طامع في المائة ناقة التي رصدتها قريش لمن يأتي بالنبي (ﷺ) حيا أو ميتا، فحينما اقترب منهما، ورآه أبو بكر وقع في نفسه الخوف والحزن، فأخبر الرسول (ﷺ) بذلك، لندع الصديق يقص علينا طرفاً من خبره ذاك، يقول أبو بكر رضي الله عنه كما في

 صحيح مسلم "

واتبعنا سراقة بن مالك قال ونحن في جلد من الأرض (صلبة)، فقلت يا رسول الله أُتينا، فقال: لا تحزن إن الله معنا، فدعا عليه رسول الله (ﷺ) فارتطمت فرسه إلى بطنها، فقال: إني قد علمت أنكما قد دعوتما علي فادعوا لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا الله فنجا، فرجع لا يلقى أحدا إلا قال قد كفيتكم ما ههنا فلا يلقى أحدا إلا رده قال ووفى لنا".

وأعطاه النبي (ﷺ) كتاب أمان، ثم تبسم عليه الصلاة والسلام تبسم الواثق من

نصرالله له، وقال: يا سراقة ! كيف بك إذا طوقت بسواري كسرى؟

قال كسري ابن هرمز ملك الفرس قال النبي (ﷺ) نعم .

يتعجب سراقة من حال النبي (ﷺ) وهو المطارد هو وصاحبه يبن الجبال يَعِد بكنوز كسري ملك الفرس وكأن النبي (ﷺ) ينظر نظرة أمل إلي المستقبل الكبير للإسلام الذي يعم الدنيا كلها ، وفعلا تم الفتح للمسلمين في خلافة سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وأخذ سراقة سواري كسري من أمير المؤمنين سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه.

وإذا العناية لاحظتك عيونها       نم فالمخاوف كلهن أمان

وصدق الله العظيم إذ يقول :} وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48){    ]الطور[

في هذا المعلم من معالم هجرته (ﷺ) ، يقترن المادي بالغيبي، ويتزاوج الإعداد البشري بالتأييد الإلهي، وفي ذلك عبرة ودرس للمسلمين من بعد، بأنهم مكلفون بأن يتخذوا من الأسباب ما يستطيعونه ويقدرون عليه، دون تقصير أو تكاسل، أما الركون إلى ما عند الله من أسباب النصرة الغيبية، دون إتعاب النفوس، وإنفاق الأموال في نصرة الدين، فهو من إفرازات التفكير الخوارقي، الذي لا يقدم ولا يؤخر ولا يسمن ولا يغني .

فالأخذ بالأسباب والتخطيط فرض وترك الأسباب معصية ، والاعتماد علي الأسباب شرك.

العنصر السادس: معالم الدولة الفاضلة في المدينة المنورة :

الأسس التي قامت عليها دولة المدينة هي:

1- بناء المسجد النبوي.

2-  المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.

3- وثيقة المدينة أو دستور دولة الإسلام الأولى.

4ـ إنشاء السوق التجارية الإسلامية في المدينة.

أولاً: بناء المسجد النبوي:

المسجد هو النواة الأولى لدولة الإسلام ، لذلك شرع النبي (ﷺ) منذ وصوله المدينة ببناء المسجد في المكان الذي بركت فيه ناقته. وعَمِلَ النبي (ﷺ) في بنائه ليُرغّب المسلمين في العمل فيه من المهاجرين والأنصار حيث قال قائلهم:

لئن قعدنا والنبي يعمل         لذاك منا العمل المضلل

وهكذا «أو بمثل هذه البساطة تم بناء المسجد النبوي، وبروح التعاون الأخوي والعمل الجماعي رفع رسول الله (ﷺ) أركان هذا المسجد الذي صار موئلاً لأعظم رجال عرفتهم الإنسانية، والذي خرّج أرحم القادة وأشجعهم، وأعظم الأبطال

وأفضلهم، وأعظم الخلفاء وأرأفهم..»

ووضع من خلاله أرقى الأسس وأقواها في كيفية صناعة الأمة وتوحيدها دينيناً ودنيوياً.

ولإدراك أهمية الخطوة الأولى التي قام الرسول (ﷺ) ومدى أثرها في بناء الأمة الإسلامية والحرص على وحدة تكوينها وأهدافها وغاياتها لابد من الوقوف على الوظيفة التي أرادها الرسول (ﷺ) للمسجد الذي بناه:

- فقد جعل النبي (ﷺ) المسجد مركزاً للعبادة والتعليم والتوجيه والإرشاد والتفقه في

الدين، وذلك بتبليغ الوحي وتوضيحه للمسلمين في خطب الجمعة ومجالس العلم وفي كل فرصة تسنح له.

ولهذا أصبح المسجد النبوي النبع الدافق الذي يغذي القلوب والأرواح بعبادة الله عز

وجل من صلاة وذكر وقراءة قرآن، ويغذي العقول المؤمنة بالعلم والمعرفة الشاملة التي تزيدهم من الله قرباً، وتجعلهم أقدر الناس وأحرصهم على حمل الأمانة ونشر تعاليم الإسلام في المكان الذي يحلون فيه.

- جعل النبي (ﷺ) المسجد مركزاً لإدارة شؤون الدولة الداخلية والخارجية، وهو أشبه ما يكون بدار الحكومة، إذ في المسجد كان النبي (ﷺ) يجتمع بالمسلمين أثناء صلاتهم وذكرهم لله تعالى للتشاور والتفاهم والدراسة والتخطيط للدعوة وتدبير شؤون المسلمين، وفي المسجد كان يستقبل الوفود التي تجيء لأغراض مختلفة كإعلان الإسلام، أو عقد معاهدة، أو طلب معونة، لذلك كان المسجد أشبه بقاعة استقبال رسمية مفتوحة ومهيأة في جميع الأوقات والأحوال لجميع الوافدين.

- كان المسجد النبوي مركزاً للقيادة العسكرية، حيث كانت تنطلق منه ألوية الجهاد بقيادة النبي (ﷺ) ، أو بمن ينيبه عنه، وبه كانت تستقبل قوافل النصر والاستشهاد في

سبيل الله.

فالمسجد النبوي كان بمثابة الرئة التي يتنفس من خلالها المجتمع الإسلامي والذي يجد فيه الفرد المسلم متنفساً لقضاء احتياجاته الدينية والدنيوية، فقد كان لهذا المكان أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وعسكرية لتكوين أمة موحدة ذات أهداف واحدة.

ثانياً: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:

المؤاخاة تعد من أعظم الأسس التي قامت عليها دولة الإسلام الأولى بعد بناء المسجد النبوي ، حيث قال رسول الله (ﷺ): «تآخوا في الله أخوين أخوين. ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقال: هذا أخي».

لقد كان للمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية إذ آخى النبي (ﷺ) بينهم على الحق والمواساة، «وحسبنا دليلاً على ذلك ما قام به سعد بن الربيع الذي كان قد آخى الرسول (ﷺ) بينه وبين عبد الرحمن بن عوف، إذ عرض على عبد الرحمن بن عوف أن يشركه في بيته وأهله وماله في قسمة متساوية، ولكن عبد الرحمن شكره وطلب منه أن يرشده إلى سوق المدينة ليشتغل فيها»

ولهذا نجد أن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، كانت السبيل الوحيد أمام النبي

(ﷺ) لصياغة مجتمع متماسك متراص كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً بوشائج قوية من المحبة والتعاون والإيثار، وذلك ليكون قادراً على مواجهة التحديات الكامنة في كل جانب ومواجهة مشركي مكة الذين سيحاولون بكل جهدهم الوقوف بوجه النبي (ﷺ) ودعوته من الانتشار، وأن يكون له دولة قوية موحدة تهدد نفوذهم ومصالحهم لاسيما في مكة المكرمة.

وكذلك هناك اليهود الذين عاثوا فساداً في المجتمع المدني بإثارة العداوة والبغضاء بين الأوس والخزرج وذلك للسيطرة على المدينة مادياً ومعنوياً، لن يتركوا النبي (ﷺ) وصحبه أن يتولون زمام الأمور ويصلحون ما أفسدوه.

ثالثاً : الوثيقة أو دستور المدينة :

قام النبي (ﷺ) بعد أن بنى للمسلمين مسجداً، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار، فكتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه اليهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم.

وهذا الكتاب الذي سمي بوثيقة المدينة، أو الصحيفة، أو المعاهدة بين المسلمين وغير المسلمين، أو ما سمي بلغة العصر الحاضر دستور المدينة، أو دستور دولة الإسلام

 الواحدة الموحدة.

وقد نصت هذه الوثيقة «هذا كتاب من محمد النبي رسول الله (ﷺ) بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. أنهم أمة واحدة من دون الناس».

وقد نصت بنود هذه الوثيقة على عوامل الوحدة ونبذ الفرقة والاختلاف فيما بينهم، ومن ذلك «وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد(ﷺ) ».

وفي هذا إشارة واضحة إلى اهتمام الرسول (ﷺ) وسلم بغير المسلمين وإعطائهم الدور بالمشاركة الفاعلة في بناء الدولة جنباً إلى جنب مع المسلمين، وعدم إهمالهم خشية أن يكونوا عامل هدم فيها مستقبلاً من خلال تعاونهم مع الأعداء المتربصين

بالدولة الإسلامية الناشئة.

4ـ إنشاء السوق التجارية الإسلامية في المدينة:

إن أهمية السوق الإسلامية للمسلمين في المدينة المنورة تأتي من ضرورة وجود كيانٍ اقتصادي قوي للمسلمين في مواجهة الكيانات الاقتصادية المعاصرة سواء على مستوى المدينة نفسها في مواجهة اليهود أم على مستوى الدول والممالك المجاورة نظرا لمنافسة الممالك المجاورة للمسلمين خاصة والعرب عامة وكونهم إلى حد كبير يشكلون سوقا لتصريف الكثير من بضائع ومنتجات تلك الممالك.

يجب أن يكون للمسلمين قوةٌ اقتصاديةٌ تستطيع بها المحافظة على أموال المسلمين وتنميتها بالحق، وأن تكون لهم سوقٌ خالية من كل صور السحت والربا وأكل أموال الناس بالباطل، سوق تقوم على الطيبات والحلال، والصدق والأمانة، والتسامح والقناعة، وخالية من الاحتكار

وتروي كتب السيرة أنه كانت في المدينة المنورة سوقٌ تُسمَّى "سوق بني قينقاع"

في حيٍّ من أحياء اليهود، وكانوا يتعاملون بالربا والمقامرة، والت

المرفقات

1720354473_الهجرة ميلاد أمة وبناء دولة.pdf

المشاهدات 282 | التعليقات 0