النية نجاة أو هلاك
عبدالله حمود الحبيشي
1437/11/07 - 2016/08/10 10:11AM
الخطبة الأولى
أَمَّا بَعْدُ .. عباد الله .. حديث عظيم طالما درسناه وتدارسناه، وكلام جميل من كلام النبوة حفظناه .. حديث تواتر نقله عن الأئمة الأعلام لعموم نفعه، وعظيم موقعه، قال عنه أبو عبيد رحمه الله وهو من كبار العلماء بالحديث والفقه والأدب: ليس في الأحاديث أجمع ولا أغنى ولا أنفع ولا أكثر فائدة منه؛ واتفق الشافعي وأحمد وابن المديني وابن مهدي وأبو داود والدارقطني وغيرهم على أنه ثلث العلم ومنهم من قال ربعه .
إنه الحديث الذي رواه عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) .
من منا لا يعرف هذا الحديث أو لم يسمعه .
بالنية تتميز العبادات عن العادات، وتتميز العبادات عن بعضها، فالصيام لابد له من نية تميزه عن الانقطاع عن الطعام لأي سبب آخر من مرض أو غيره، والصلاة لابد من نية تتميز بها الفرائض عن النوافل، وفي الصدقة لابد من النية لتتميز الزكاة عن النذر وعن الكفارة وهكذا .
يقول يحيى بن أبي كثير: تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل.
وقال ابن المبارك: رُب عمل صغير تعظمه النيه، ورب عمل كبير تصغره النية.
هكذا كان السلف الصالح يهتمون بأمر النية ووجوب الإخلاص فيها لله تعالى .. ولا عجب في ذلك فالنية تصحب المسلم في كل أحواله، في عباداته، وفي معاملاته، وفي علاقته بأهله، وفي علاقته بالآخرين.
النية عمل قلبي لا يعلمه إلا الله ، والناس فيه متفاوتون على قدر ما يقوم في قلوبهم من إخلاص لله، وهذه النية تصحبنا في كل أحوالنا.. ففي الطهارة والوضوء والغسل فإذا فعلها العبد نظافة أو تبردا كانت عادة ، وإذا فعلها عبادة واستجابة لأمر الله كانت عبادة يؤجر عليها العبد ويثاب ، فهو يتوضأ مستصحبًا هذه النية في أول وضوئه وآخره، لكنه لا ينطق بها؛ لأن النطق بها ليس له أي فائدة، ولم يشرعها الله لنا ولا رسوله صلى الله عليه وسلم .
يقوم المسلم للصلاة، فإذا خرج من بيته فبنية أداء الفريضة طاعة لله، ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام (صلاةُ الرجلِ في الجماعةِ تُضَعَّفُ على صلاتِه في بيتِه، وفي سُوقِه، خمسًا وعشرين ضِعفًا، وذلك أنه : إذا توضَّأَ فأحسَنَ الوُضوءَ، ثم خرَج إلى المسجدِ، لا يُخرِجُه إلا الصلاةُ) هذه هي النية (لا يُخرِجُه إلا الصلاةُ ، لم يَخطُ خُطوَةً، إلا رُفِعَتْ له بها درجةٌ، وحُطَّ عنه بها خَطيئَةٌ، فإذا صلَّى، لم تَزَلْ الملائكةُ تصلي عليه، ما دام في مُصَلَّاه : اللهم صلِّ عليه، اللهم ارحَمْه، ولا يَزالُ أحدُكم في صلاةٍ ما انتَظَر الصلاةَ) .
المسلم يجاهد نفسه على ترك المعاصي والذنوب خوفا من الله .. لا خوفا من الفضيحة ولا خوفا من سلطان .. فهذه نية يثاب عليها ويؤجر كما قال عليه الصلاة والسلام (من تركَ شيئًا للهِ ، عوَّضهُ اللهُ خيرًا منه) وقال عليه الصلاة والسلام (أن مَن همَّ بالسيئةِ فلم يفعلْها كتبها اللهُ له حسنةً كاملةً قال: لأنه ترَكها من جرَّائِي)
يتعامل الناس في البيع والشراء .. فلا يظهر منهم إلا الصور والمعاملات الظاهرة .. ولكن النية تكون حاضرة فإما تكون التجارة ربح وخير وبركة أو تكون خسارة وندامة ، قال عليه الصلاة والسلام (البَيِّعَانِ بالخيارِ ما لم يتفرَّقَا ، فإن صَدَقَا وبَيَّنَا بُورِكَ لهما في بَيْعِهِما ، وإنْ كَتَمَا وكَذَّبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بيَعْهِمَا) .
وقال عليه الصلاة والسلام (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ) الإرادة عمل قلبي لا يطلع عليه إلا الله وهو النية والعزم (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَها يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ) .
فانظر كيف جُعلت النية الصالحة سببًا قويًّا للرزق وتوفيق الله وعونه للعبد للأداء ، وجُعلت النية السيئة سببًا للإتلاف !
يقول شيخ الإسلام بن تيمة : فالمؤمن إذا كانت له نية أتت على عامة أفعاله وكانت المباحات من صالح أعماله ؛ لصلاح قلبه ونيته .أ.ه.
الموظف يذهب إلى عمله ووظيفته فما هي نيته؟ .. إذا قصد بكسبه وأعماله الدنيوية والعادية الاستعانة بذلك على القيام بحق الله ، وقيامه بالواجبات والمستحبات ، انقلبت عاداته إلى عبادات، وبارك الله للعبد في أعماله، وفتح له من أبواب الخير والرزق أمورًا لا يحتسبها ولا تخطر له على بال .
فإذا ذهب إلى دكانه نوى مباشرة البيع والشراء المباح، وقصد الصدق والنصح في بيعه وشرائه، وفعل ما يقدر عليه من محاباة وإحسان إلى مَن يعامله، وتجنب الغش بكل أنواعه، ونوى بذلك كله قوام نفسه وعائلته ومَن له حق عليه، كان عمله عبادة يعظم بها أجره ويُعان من ربه .
إن كل ولي ، وكل أب ينفق على بيته وأهله وعياله ، وهذا من المسلمات ، ولكن في النية الحسنة الصالحة تكون عبادة يؤجر عليها بل من خير النفقات وأعظمها أجرا ، يقول عليه الصلاة والسلام لسعد بن أبي وقاص (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله) وهذه هي النية (تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تضعه في في امرأتك) ما أعظمه من دين وأكمله من تشريع فالإنسان يثاب حتى في الأمور المباحة التي فيها فرحته وسروره؛ كما أنه دين يؤكد أهمية الأمور العاطفية؛ من التعامل الحسَن مع الزوجة وكسب مودتها، وإرضاء عاطفتها ويؤجر على ذلك .
وقال عليه الصلاة والسلام (دينارٌ أنفقته في سبيلِ اللهِ . ودينارٌ أنفقته في رقبةٍ . ودينارٌ تصدقت به على مسكينٍ . ودينارٌ أنفقته على أهلِك . أعظمُها أجرًا للذي أنفقته على أهلِك) فإنفاقه على زوجته، وإنفاقه على ولده، وبره بأبويه، كل تلك الأعمال تصحبها نية خالصة لله، يريد بها التقرب إلى الله يكون أجرها وثوابها عظيم عند الله .
عباد الله .. النية الصالحة تبلغ بالمؤمن منزلة عالية وينال بها أجر العاملين المنفقين المجاهدين بل وحتى الشهداء .
فالعبد الذي لا يجد المال الذي يتصدق به يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم (وعبد رزقَهُ اللَّهُ علمًا ولم يرزقْهُ مالًا فَهوَ صادقُ النِّيَّةِ يقولُ لو أنَّ لي مالًا لعملتُ بعملِ فلانٍ) المتصدق المنفق الذي يدفع الملايين في الخير والصدقه وهذا ليس له مال ولكنه صادق في نيته ولم يدفع ولا درهم (فَهوَ بنيَّتِهِ فأجرُهما سواءٌ) .
أما عن نيل منزلة المجاهدين والشهداء فيقول عليه الصلاة والسلام في غزة تبوك التي سميت من شدتها بالعسرة ، وقد تخلف عنه بعض أصحابه لا نفاقا ولا قلة إيمان ، ولكن حبسهم العذر، فقال (إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم حبسهم العذر) وفي رواية (إلا شرَكوكم في الأجرِ) .
ويقول عليه الصلاة والسلام (مَن سأَل الشَّهادَةَ بصِدقٍ ، بلَّغه اللهُ مَنازِلَ الشُّهَداءِ ، وإنْ مات على فِراشِه) .
نسأل الله أن يصلح نياتنا وأعمالنا ويجعلها خالصة لوجهه الكريم .. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله ..
أما بعد: عباد الله، إن النية في القلب وكلما قوي تأثيرها ، كلما عظم الثواب .
وإذا علم الله حسن نية العبد، وطيب مقصده، ونقاء سريرته، زرع له القبول، وغرس له الحب، وسدد قوله، وبارك عمله فبالنية الصادقة قد يدخل الإنسان الجنة، وإن لم يعمل بعمل أهلها بعد؛ ودليل ذلك الذي الصحابي الذي أسلم وقُتل من فوره في المعركة، دخل الجنة بإعلان التوحيد والعزم على الإيمان .
والمرء يهم بالحسنة ولم يعملها فتكتب له حسنة ، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إنما يبعث الناس على نياتهم" .
ومن فضل الله أن نية الخير والعزم عليه نثاب عليها وإن لم يتم العمل قال تعالى (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَـٰجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ) لم تكتمل هجرته ولكنه عزم وخرج (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ).
وقال عليه الصلاة والسلام (من توضَّأَ فأحسَنَ وضوءَهُ ثمَّ راحَ فوجدَ النَّاسَ قد صلَّوا أعطاهُ اللَّهُ جلَّ وعزَّ مثلَ أجرِ من صلَّاها وحضرَها لا ينقصُ ذلِكَ من أجرِهم شيئًا) .
العمل الصالح والعبادة والطاعات التي يعملها المسلم إذا تركها لعذر ينال ثوابها وأجرها وهو في فراشة إذا صحت نيته في عملها وما حبسه إلا العذر قال عليه الصلاة والسلام (إذا مرض العبدُ أو سافر ، كتب اللهُ تعالى له من الأجرِ مثلَ ما كان يعملُ صحيحًا مُقيمًا) .
وقال عليه الصلاة والسلام (مَن أتى فِراشَه وهوَ ينوي أنْ يقومَ يُصلِّي من اللَّيلِ ، فغلَبتْهُ عينُه حتَّى يُصبِحَ ، كُتِبَ لهُ ما نَوى) ليس هذا وحسب بل يقول عليه الصلاة والسلام (وكان نومُهُ صَدقةً) .
قال بعض السلف: "إن نوم المؤمن وأكله وشربه كل ذلك أعمال صالحة تجري عليه إذا أراد بها التقوي على طاعة الله".
ويقول زُبَيْد بن الحارث رحمه الله : يسرني أن يكون لي في كل شيء نية حتى في الأكل والنوم .
عباد الله .. وإن كان للنية الصالحة هذه المنزلة وهذه المكانة ، وكما أنها ترتقي بالعبد وينال بها الأجور العظيمة والحسنات الكثيرة ، فقد ينال بها السيئات والأوزار بنيته الفاسدة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام عن عبد نوى .. فقط نية .. نوى الشر والفساد ولم يذق من الملذات شيء ولم يستمتع بالشهوات قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام (وعبد لم يرزقْهُ اللَّهُ مالًا ولا علمًا فَهوَ يقولُ لو أنَّ لي مالًا لعملتُ فيهِ بعملِ فلانٍ) الذي يعبث بالمال في الفساد والشهوات والملذات ولا يعرف لله حقا في هذا المال (فَهوَ بنيَّتِهِ فوزرُهما سواءٌ).
ومن الخاسرين الخائبين من ينفق ماله في الخير ، ولكنه لا يريد بذلك وجه الله فعمله هباء ، ولم يجني من عمله إلا الإثم والأوزار ، ومثله من تعلم العلم الشرعي ، وعرف المسائل الفقهية والأحكام ، فلم يخلص النية، ولم يصدق القصد، قال صلى الله عليه وسلم (مَن تعلَّمَ عِلمًا ممَّا يُبتَغَى بِهِ وجهُ اللَّهِ تعالى ولا يتعلَّمُهُ إلَّا ليصيبَ بِهِ عَرضًا منَ الدُّنيا لم يجدْ عَرفَ الجنَّةِ يومَ القيامةِ) يعني ريحَها .
بل أعظم خسارة ، وأطول حسرة من فسدت نيته وإن كان العمل من أعظم العبادات وأجلها ، قال عليه الصلاة والسلام (إنَّ اللهَ تبارك وتعالى إذا كان يومُ القيامةِ ، ينزلُ إلى العبادِ ، ليقضيَ بينهم ، فأولُ من يُدعى به رجلٌ جمع القرآنَ ، ورجلٌ قُتِلَ في سبيلِ اللهِ ، ورجلٌ كثيرِ المالِ ، فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ للقاريءِ : ألم أُعلِّمْك ما أَنزلتُ على رسولي ؟ قال : بلى يا ربِّ ، قال : فما عملتَ فيما علمتَ ؟ قال : كنتُ أقومُ به آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ ، فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ له : كذبتَ ، بل أردتَ أن يقالَ : فلان قاريءٌ ، وقد قيل ذلك . ويُؤتى بصاحبِ المالِ، فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ : ألم أُوَسِّعْ عليك حتى لم أدعْك تحتاجُ إلى أحدٍ ؟ قال : بلى يا ربِّ ؛ قال : فماذا عملتَ فيما آتيتُك ؟ قال: كنتُ أَصِلُ الرَّحِمَ ، أتصدَّقُ . فيقولُ اللهُ له : كذبتَ ، بل أردتَ أن يُقالَ : فلانٌ جوَادٌ ، وقد قيل ذلك . ويؤتَى بالذي قُتِلَ في سبيلِ اللهِ ، فيقولُ اللهُ له : فبماذا قُتِلْتَ ؟ فيقولُ : أيْ ربِّ ! أُمرتُ بالجهادِ في سبيلِك ، فقاتلتُ حتى قُتِلتُ ، فيقولُ اللهُ له : كذبتَ ، بل أردتَ أن يُقالَ : فلانٌ جريءٌ ، فقد قيل ذلك) ثم قال عليه الصلاة والسلام (أولئك الثلاثةُ أولُ خلقِ اللهِ تُسَعَّرُ بهم النارُ يومَ القيامةِ) .
وقد بكى معاوية حينما سمع هذا الحديث حتى غشي عليه، فلما أفاق، قال: صدق الله ورسوله، قال الله عز وجل (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .
نسأل الله أن يصلح نياتنا ويرزقنا الإخلاص وحسن القصد .
أَمَّا بَعْدُ .. عباد الله .. حديث عظيم طالما درسناه وتدارسناه، وكلام جميل من كلام النبوة حفظناه .. حديث تواتر نقله عن الأئمة الأعلام لعموم نفعه، وعظيم موقعه، قال عنه أبو عبيد رحمه الله وهو من كبار العلماء بالحديث والفقه والأدب: ليس في الأحاديث أجمع ولا أغنى ولا أنفع ولا أكثر فائدة منه؛ واتفق الشافعي وأحمد وابن المديني وابن مهدي وأبو داود والدارقطني وغيرهم على أنه ثلث العلم ومنهم من قال ربعه .
إنه الحديث الذي رواه عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) .
من منا لا يعرف هذا الحديث أو لم يسمعه .
بالنية تتميز العبادات عن العادات، وتتميز العبادات عن بعضها، فالصيام لابد له من نية تميزه عن الانقطاع عن الطعام لأي سبب آخر من مرض أو غيره، والصلاة لابد من نية تتميز بها الفرائض عن النوافل، وفي الصدقة لابد من النية لتتميز الزكاة عن النذر وعن الكفارة وهكذا .
يقول يحيى بن أبي كثير: تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل.
وقال ابن المبارك: رُب عمل صغير تعظمه النيه، ورب عمل كبير تصغره النية.
هكذا كان السلف الصالح يهتمون بأمر النية ووجوب الإخلاص فيها لله تعالى .. ولا عجب في ذلك فالنية تصحب المسلم في كل أحواله، في عباداته، وفي معاملاته، وفي علاقته بأهله، وفي علاقته بالآخرين.
النية عمل قلبي لا يعلمه إلا الله ، والناس فيه متفاوتون على قدر ما يقوم في قلوبهم من إخلاص لله، وهذه النية تصحبنا في كل أحوالنا.. ففي الطهارة والوضوء والغسل فإذا فعلها العبد نظافة أو تبردا كانت عادة ، وإذا فعلها عبادة واستجابة لأمر الله كانت عبادة يؤجر عليها العبد ويثاب ، فهو يتوضأ مستصحبًا هذه النية في أول وضوئه وآخره، لكنه لا ينطق بها؛ لأن النطق بها ليس له أي فائدة، ولم يشرعها الله لنا ولا رسوله صلى الله عليه وسلم .
يقوم المسلم للصلاة، فإذا خرج من بيته فبنية أداء الفريضة طاعة لله، ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام (صلاةُ الرجلِ في الجماعةِ تُضَعَّفُ على صلاتِه في بيتِه، وفي سُوقِه، خمسًا وعشرين ضِعفًا، وذلك أنه : إذا توضَّأَ فأحسَنَ الوُضوءَ، ثم خرَج إلى المسجدِ، لا يُخرِجُه إلا الصلاةُ) هذه هي النية (لا يُخرِجُه إلا الصلاةُ ، لم يَخطُ خُطوَةً، إلا رُفِعَتْ له بها درجةٌ، وحُطَّ عنه بها خَطيئَةٌ، فإذا صلَّى، لم تَزَلْ الملائكةُ تصلي عليه، ما دام في مُصَلَّاه : اللهم صلِّ عليه، اللهم ارحَمْه، ولا يَزالُ أحدُكم في صلاةٍ ما انتَظَر الصلاةَ) .
المسلم يجاهد نفسه على ترك المعاصي والذنوب خوفا من الله .. لا خوفا من الفضيحة ولا خوفا من سلطان .. فهذه نية يثاب عليها ويؤجر كما قال عليه الصلاة والسلام (من تركَ شيئًا للهِ ، عوَّضهُ اللهُ خيرًا منه) وقال عليه الصلاة والسلام (أن مَن همَّ بالسيئةِ فلم يفعلْها كتبها اللهُ له حسنةً كاملةً قال: لأنه ترَكها من جرَّائِي)
يتعامل الناس في البيع والشراء .. فلا يظهر منهم إلا الصور والمعاملات الظاهرة .. ولكن النية تكون حاضرة فإما تكون التجارة ربح وخير وبركة أو تكون خسارة وندامة ، قال عليه الصلاة والسلام (البَيِّعَانِ بالخيارِ ما لم يتفرَّقَا ، فإن صَدَقَا وبَيَّنَا بُورِكَ لهما في بَيْعِهِما ، وإنْ كَتَمَا وكَذَّبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بيَعْهِمَا) .
وقال عليه الصلاة والسلام (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ) الإرادة عمل قلبي لا يطلع عليه إلا الله وهو النية والعزم (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَها يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ) .
فانظر كيف جُعلت النية الصالحة سببًا قويًّا للرزق وتوفيق الله وعونه للعبد للأداء ، وجُعلت النية السيئة سببًا للإتلاف !
يقول شيخ الإسلام بن تيمة : فالمؤمن إذا كانت له نية أتت على عامة أفعاله وكانت المباحات من صالح أعماله ؛ لصلاح قلبه ونيته .أ.ه.
الموظف يذهب إلى عمله ووظيفته فما هي نيته؟ .. إذا قصد بكسبه وأعماله الدنيوية والعادية الاستعانة بذلك على القيام بحق الله ، وقيامه بالواجبات والمستحبات ، انقلبت عاداته إلى عبادات، وبارك الله للعبد في أعماله، وفتح له من أبواب الخير والرزق أمورًا لا يحتسبها ولا تخطر له على بال .
فإذا ذهب إلى دكانه نوى مباشرة البيع والشراء المباح، وقصد الصدق والنصح في بيعه وشرائه، وفعل ما يقدر عليه من محاباة وإحسان إلى مَن يعامله، وتجنب الغش بكل أنواعه، ونوى بذلك كله قوام نفسه وعائلته ومَن له حق عليه، كان عمله عبادة يعظم بها أجره ويُعان من ربه .
إن كل ولي ، وكل أب ينفق على بيته وأهله وعياله ، وهذا من المسلمات ، ولكن في النية الحسنة الصالحة تكون عبادة يؤجر عليها بل من خير النفقات وأعظمها أجرا ، يقول عليه الصلاة والسلام لسعد بن أبي وقاص (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله) وهذه هي النية (تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تضعه في في امرأتك) ما أعظمه من دين وأكمله من تشريع فالإنسان يثاب حتى في الأمور المباحة التي فيها فرحته وسروره؛ كما أنه دين يؤكد أهمية الأمور العاطفية؛ من التعامل الحسَن مع الزوجة وكسب مودتها، وإرضاء عاطفتها ويؤجر على ذلك .
وقال عليه الصلاة والسلام (دينارٌ أنفقته في سبيلِ اللهِ . ودينارٌ أنفقته في رقبةٍ . ودينارٌ تصدقت به على مسكينٍ . ودينارٌ أنفقته على أهلِك . أعظمُها أجرًا للذي أنفقته على أهلِك) فإنفاقه على زوجته، وإنفاقه على ولده، وبره بأبويه، كل تلك الأعمال تصحبها نية خالصة لله، يريد بها التقرب إلى الله يكون أجرها وثوابها عظيم عند الله .
عباد الله .. النية الصالحة تبلغ بالمؤمن منزلة عالية وينال بها أجر العاملين المنفقين المجاهدين بل وحتى الشهداء .
فالعبد الذي لا يجد المال الذي يتصدق به يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم (وعبد رزقَهُ اللَّهُ علمًا ولم يرزقْهُ مالًا فَهوَ صادقُ النِّيَّةِ يقولُ لو أنَّ لي مالًا لعملتُ بعملِ فلانٍ) المتصدق المنفق الذي يدفع الملايين في الخير والصدقه وهذا ليس له مال ولكنه صادق في نيته ولم يدفع ولا درهم (فَهوَ بنيَّتِهِ فأجرُهما سواءٌ) .
أما عن نيل منزلة المجاهدين والشهداء فيقول عليه الصلاة والسلام في غزة تبوك التي سميت من شدتها بالعسرة ، وقد تخلف عنه بعض أصحابه لا نفاقا ولا قلة إيمان ، ولكن حبسهم العذر، فقال (إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم حبسهم العذر) وفي رواية (إلا شرَكوكم في الأجرِ) .
ويقول عليه الصلاة والسلام (مَن سأَل الشَّهادَةَ بصِدقٍ ، بلَّغه اللهُ مَنازِلَ الشُّهَداءِ ، وإنْ مات على فِراشِه) .
نسأل الله أن يصلح نياتنا وأعمالنا ويجعلها خالصة لوجهه الكريم .. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله ..
أما بعد: عباد الله، إن النية في القلب وكلما قوي تأثيرها ، كلما عظم الثواب .
وإذا علم الله حسن نية العبد، وطيب مقصده، ونقاء سريرته، زرع له القبول، وغرس له الحب، وسدد قوله، وبارك عمله فبالنية الصادقة قد يدخل الإنسان الجنة، وإن لم يعمل بعمل أهلها بعد؛ ودليل ذلك الذي الصحابي الذي أسلم وقُتل من فوره في المعركة، دخل الجنة بإعلان التوحيد والعزم على الإيمان .
والمرء يهم بالحسنة ولم يعملها فتكتب له حسنة ، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إنما يبعث الناس على نياتهم" .
ومن فضل الله أن نية الخير والعزم عليه نثاب عليها وإن لم يتم العمل قال تعالى (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَـٰجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ) لم تكتمل هجرته ولكنه عزم وخرج (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ).
وقال عليه الصلاة والسلام (من توضَّأَ فأحسَنَ وضوءَهُ ثمَّ راحَ فوجدَ النَّاسَ قد صلَّوا أعطاهُ اللَّهُ جلَّ وعزَّ مثلَ أجرِ من صلَّاها وحضرَها لا ينقصُ ذلِكَ من أجرِهم شيئًا) .
العمل الصالح والعبادة والطاعات التي يعملها المسلم إذا تركها لعذر ينال ثوابها وأجرها وهو في فراشة إذا صحت نيته في عملها وما حبسه إلا العذر قال عليه الصلاة والسلام (إذا مرض العبدُ أو سافر ، كتب اللهُ تعالى له من الأجرِ مثلَ ما كان يعملُ صحيحًا مُقيمًا) .
وقال عليه الصلاة والسلام (مَن أتى فِراشَه وهوَ ينوي أنْ يقومَ يُصلِّي من اللَّيلِ ، فغلَبتْهُ عينُه حتَّى يُصبِحَ ، كُتِبَ لهُ ما نَوى) ليس هذا وحسب بل يقول عليه الصلاة والسلام (وكان نومُهُ صَدقةً) .
قال بعض السلف: "إن نوم المؤمن وأكله وشربه كل ذلك أعمال صالحة تجري عليه إذا أراد بها التقوي على طاعة الله".
ويقول زُبَيْد بن الحارث رحمه الله : يسرني أن يكون لي في كل شيء نية حتى في الأكل والنوم .
عباد الله .. وإن كان للنية الصالحة هذه المنزلة وهذه المكانة ، وكما أنها ترتقي بالعبد وينال بها الأجور العظيمة والحسنات الكثيرة ، فقد ينال بها السيئات والأوزار بنيته الفاسدة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام عن عبد نوى .. فقط نية .. نوى الشر والفساد ولم يذق من الملذات شيء ولم يستمتع بالشهوات قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام (وعبد لم يرزقْهُ اللَّهُ مالًا ولا علمًا فَهوَ يقولُ لو أنَّ لي مالًا لعملتُ فيهِ بعملِ فلانٍ) الذي يعبث بالمال في الفساد والشهوات والملذات ولا يعرف لله حقا في هذا المال (فَهوَ بنيَّتِهِ فوزرُهما سواءٌ).
ومن الخاسرين الخائبين من ينفق ماله في الخير ، ولكنه لا يريد بذلك وجه الله فعمله هباء ، ولم يجني من عمله إلا الإثم والأوزار ، ومثله من تعلم العلم الشرعي ، وعرف المسائل الفقهية والأحكام ، فلم يخلص النية، ولم يصدق القصد، قال صلى الله عليه وسلم (مَن تعلَّمَ عِلمًا ممَّا يُبتَغَى بِهِ وجهُ اللَّهِ تعالى ولا يتعلَّمُهُ إلَّا ليصيبَ بِهِ عَرضًا منَ الدُّنيا لم يجدْ عَرفَ الجنَّةِ يومَ القيامةِ) يعني ريحَها .
بل أعظم خسارة ، وأطول حسرة من فسدت نيته وإن كان العمل من أعظم العبادات وأجلها ، قال عليه الصلاة والسلام (إنَّ اللهَ تبارك وتعالى إذا كان يومُ القيامةِ ، ينزلُ إلى العبادِ ، ليقضيَ بينهم ، فأولُ من يُدعى به رجلٌ جمع القرآنَ ، ورجلٌ قُتِلَ في سبيلِ اللهِ ، ورجلٌ كثيرِ المالِ ، فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ للقاريءِ : ألم أُعلِّمْك ما أَنزلتُ على رسولي ؟ قال : بلى يا ربِّ ، قال : فما عملتَ فيما علمتَ ؟ قال : كنتُ أقومُ به آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ ، فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ له : كذبتَ ، بل أردتَ أن يقالَ : فلان قاريءٌ ، وقد قيل ذلك . ويُؤتى بصاحبِ المالِ، فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ : ألم أُوَسِّعْ عليك حتى لم أدعْك تحتاجُ إلى أحدٍ ؟ قال : بلى يا ربِّ ؛ قال : فماذا عملتَ فيما آتيتُك ؟ قال: كنتُ أَصِلُ الرَّحِمَ ، أتصدَّقُ . فيقولُ اللهُ له : كذبتَ ، بل أردتَ أن يُقالَ : فلانٌ جوَادٌ ، وقد قيل ذلك . ويؤتَى بالذي قُتِلَ في سبيلِ اللهِ ، فيقولُ اللهُ له : فبماذا قُتِلْتَ ؟ فيقولُ : أيْ ربِّ ! أُمرتُ بالجهادِ في سبيلِك ، فقاتلتُ حتى قُتِلتُ ، فيقولُ اللهُ له : كذبتَ ، بل أردتَ أن يُقالَ : فلانٌ جريءٌ ، فقد قيل ذلك) ثم قال عليه الصلاة والسلام (أولئك الثلاثةُ أولُ خلقِ اللهِ تُسَعَّرُ بهم النارُ يومَ القيامةِ) .
وقد بكى معاوية حينما سمع هذا الحديث حتى غشي عليه، فلما أفاق، قال: صدق الله ورسوله، قال الله عز وجل (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .
نسأل الله أن يصلح نياتنا ويرزقنا الإخلاص وحسن القصد .