النكت : {حكمها - مفاسدها - أثارها }
أ.د عبدالله الطيار
النكت: حكمها مفاسدها وآثارها
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]أما بعد:
فاعلموا أيها المؤمنون والمؤمنات أن من الأمور المنكرة التي انتشرت بين الناس في هذه الأيام وانتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الاتصال الحديثة ما يسمى بالنكت ومثلها الرسوم المختلفة، التي هي عبارة عن تحقير واستهانة في النقائص والتعليق على عيوب الآخرين وتجريحهم بطريقة فكاهية مضحكة مع السخرية منهم بقصد إضحاك الآخرين، وإدخال السرور إلى قلوبهم.
وقد تكون هذه النكت وتلك الرسومات على قبائل معينة أو شخصيات مهمة أو متخصصين أو علماء، أو بعض المسؤولين أو الجهات الرسمية وغير ذلك. فبعض النفوس المريضة لا تتلذذ إلا بالضحك على الناس والاستهزاء بهم ، والسخرية بخلقتهم وأفعالهم ، والافتراء عليهم ،وقد جاءت الشريعة بالتحذير من ذلك فقد روى أبو داود في سننه من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ) وقوله صلى الله عليه وسلم - (ويل له ويل له ) كرره إيذانا بشدة هلكته وذلك لأن الكذب وحده رأس كل مذموم وجماع كل فضيحة فإذا انضم إليه استجلاب الضحك الذي يميت القلب ويجلب النسيان ويورث الرعونة كان أقبح القبائح ومن ثم قال الحكماء : إيراد المضحكات على سبيل السخف نهاية القباحة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (المتحدث بأحاديث مفتعلة ليضحك الناس، أو لغرض آخر، عاص لله ورسوله. وقد روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الذي يحدث فيكذب ليضحك القوم، ويل له، ويل له، ثم ويل له ـ وقد قال ابن مسعود: إن الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا يعد أحدكم صبيه شيئا ثم لا ينجزه. وأما إن كان في ذلك ما فيه عدوان على مسلم وضرر في الدين فهو أشد تحريما من ذلك، وبكل حال ففاعل ذلك مستحق للعقوبة الشرعية التي تردعه عن ذلك). اهـ.
وقال شيخنا ابن عثيمين: لا يجوز الكذب في الطرائف كما يقولون، لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ويل لمن يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ثم ويل له ـ وهذا يدل على أنه لا يجوز، لأن الوعيد بويل من أدلة تحريم العمل. اهـ.
عباد الله: إن ما يسمى بالنكت لها مفاسد وخيمة على الفرد والمجتمع فمن مفاسدها أنها تشتمل على الكذب، وهو من أعظم المفاسد، وقد نهى الله تعالى عنه في آيات كثيرة، قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30]. قال بعض المفسرين الزور: الكذب.
وروى البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا).
وروى البخاري في صحيحه من حديث سمرة بن جندب الطويل، وفيه رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَة آَتِيَانِ وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي وَإِنَّهُمَا قَالاَ لِي: انْطَلِقْ، وَإِنِّي انْطَلَقْت مَعَهُمَا ... فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِن حَدِيْدٍ، وَإِذَا هُوَ يَاتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ، قَالَ: ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الجَانِبِ الآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالجَانِبِ الأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِن ذَلِكَ الجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الجَانِبُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُوْدُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ المَرَّةَ الأُوْلَى، قَالَ: قُلتُ: سُبْحَانَ اللهِ مَا هَذَانِ؟ .... قَالَ: قَالاَ: أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِن بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ)
وقد يقول قائل إن هذه النكت التي قُصِد بها المزاح، لم تتضمن قولاً فاحشًا، أو نشر فاحشة، أو إشاعة منكر، أو استطالة في عرض مسلم نقول له حتى ولو لم تشتمل على ذلك فقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي أمامة أنه قال: (أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ) رواه أبو داود وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود .
قال ابن مسعود: (الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل) ثم تلا عبد الله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، وقال أيضاً: (المؤمن يُطبع على الخلال كلها غير الخيانة والكذب)
عباد الله: ومن مفاسد ما يسمى بالنكت أن بعض هذه النكت تحتوي على الاستهزاء بدين الله، أو المؤمنين، وهذا يؤدي بصاحبه إلى الكفر والخروج من دائرة الإسلام، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66]. وهو من نواقض الإسلام العشرة.
ومن مفاسدها أن النكت المصحوبة بالسخرية والاستهزاء من القبائل أو الأفراد تقطع الروابط الاجتماعية القائمة على الأخوة والتواد والتراحم و تفكك عرى المجتمع وتبذر بذور العداوة والبغضاء وتولد الرغبة بالانتقام وتورث الأحقاد والأضغان في الصدور. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11].
روى مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، وَلاَ يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَهُنَا - وَيُشِيْرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ - بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَن يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسِلِم عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :{ إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
أقول ما سمعتم واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي بين الطريق وأوضح المحجة، وأرسل رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون على الله الحجة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أما بعد:
فمن مفاسد النكت أن بعض هذه النكت تحتوي على الفحش وبذاءة اللسان، وهذا لا يليق بالمؤمن، لا قوله، ولا الاستماع إليه، قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]. قال بعض المفسرين: أي الكذب، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3]. وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (لَم يَكُن رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا، وَكَانَ يَقُوْلُ: (إِنَّ مِن خِيَارِكُم أَحْسَنَكُم أَخْلاَقًا).
عباد الله: إن المؤمن طاهر الجنان عف اللسان، ليس بفاحش ولا بذيء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء) وأخبرنا أن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه، وأخبرنا أن الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء والجفاء في النار، وأنه ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وأن الله يبغض الفاحش البذيء. وقد أمرنا ربنا جل جلاله بأن نقول للناس حسنا، وأن نطهر ألسنتنا من البذاءة والفحش، وفي صفة نبينا صلى الله عليه وسلم في التوراة: (ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يجزي السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح).
فعلى المسلم أن يتقي كل كلمة قذعة خبيثة تذهب مرؤته وتنفر الناس من لقياه، وعلى هؤلاء الهازلين المستهزئين المضحكين، الذين يختلقون الأكاذيب وأساليب الغمز واللمز بالمؤمنين والمؤمنات ليضحك أحدهم ويضحك الآخرين، عليهم أن يتقوا الله فكم ضاحك بملء فيه والله ساخط عليه.
الجمعة
11/4/1439 هـ.