النفقة على القريب
سليمان بن خالد الحربي
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ؛ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ وَاقْتَفَىٰ أَثَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الـمُسْلِمُونَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ:
أّحِبَتِي فِي اللهِ: لَقَدْ سَأَلَ الصَّحَابَةُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُؤَالًا قَدْ يَظْهَرُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ سُؤَالٌ تُعْرَفُ إِجَابَتُهُ لِوُضُوحِهِ، لـٰكِنَّ الوَحْيُ نَزَلَ عَلَىٰ رَسُولِ اللهِ -صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالإِجَابَةِ عَلَىٰ هَذَا السُّؤَالِ العَظِيمِ فِي كِتَابٍ يُتْلَىٰ.
قَالَ اللهُ تَعَالَىٰ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215]. فَأَجَابَهُمْ بِإِجَابَتَيْنِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ حُكْمَيْنِ:
فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ أَوْلَى مَنْ تَصَدَّقْتَ عَلَيْهِ وَأَنْفَقْتَ عَلَيْهِ هُمُ الوَالِدَانِ ثُمَّ الأَقَارِبُ، نَعَمْ الأَقَارِبُ مِنَ الأَخِ وَالأُخْتِ وَأَوْلَادِهِمَا، وَالعَمِّ وَالعَمَّةِ وَأَوْلَادِهِمَا، وَالخَالِ وَالخَالَةِ وَأَوْلَادِهِمَا، فَضْلًا عَنِ الآبَاءِ وَآبَائِهِمْ، وَالأَوْلَادِ وَأَوْلَادِهِمْ.
إِنَّ هَذِهِ الآيَةِ قَدَّمَتِ الأَقَارِبَ عَلَى النَّفَقَةِ عَلَى اليَتَامَى وَالـمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَبَعْضُهُمْ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ، وَمَعَ ذَلِكَ قَدَّمَتِ الأَقَارِبَ عَلَيْهِمْ، فَهَلِ النَّاسُ يُطَبِّقُونَ هَذَا التَّرْتِيبَ؟
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَهُ مُسَاهَمَاتٍ خَيِّرَةٍ فِي بِنَاءِ الـمَسَاجِدِ، وَالنَّفَقَةِ عَلَى الفُقَرَاءِ وَالـمُعْوَزِينَ، لَكِنْ لَهُ ابْنُ عَمٍّ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ فِي الدَّرَجَةِ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَيَتَلَقَّى زكَوَاتِ النَّاسِ الأَبْعَدِينَ، وَمَا عَلِمَ هَذَا أَنَّ سَدَّ حَاجَةَ هَذَا القَرِيبِ أَوْلَى لَهُ مِنْ كُلِّ هَذَا.
إِنَّ شَأْنَ القَرِيبِ وَذَوِيِ القُرْبَى فِي القُرْآنِ لَا يُذْكَرُ إِلَّا بَعْدَ الوَالِدَيْنِ، وَيُقَدَّمُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، تَأَمَّلُوا هَذِهِ الآيَاتِ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة:177]. {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:8]. {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]. {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء:26]. {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الروم:38].
أَسَمِعْتُمْ عِبَادَ اللهِ هَذَا أَكْثَرَ مِنْ هَذَا الوُضُوحِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى فِي تَقْرِيرِ حَقِّ الأَقَارِبِ؟! فَمَرَّةً يَذْكُرُهُ بَعْدَ حَقِّ الوَالِدَيْنِ، وَمَرَّةً يَذْكُرُهُ بَعْدَ الوَارِثِينَ مِنَ الـتَّرِكَةِ.
وَلِعِظَمِ هَذَا الحَقِّ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى لِأَقَارِبِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَقًّا مِنَ الغَنَائِمِ؛ إِكْرَامًا لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَّهُ أَوْلَى النَّاسِ بِالْوَفَاءِ وَإِيتَاءِ الحُقُوقِ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا جَلِيًّا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَجَاءَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" -واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ؟ قَالَ: «أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ»([1]).
وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: «ثُمَّ الأَقْرَبَ فَالأَقْرَبَ»([2]). أَيْ: أَنَّ الأَخَ أَقْرَبُ مِنَ العَمِّ.
وَفي الصحيحين قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : "فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ للهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللهُ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ»"([3]).
وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَىْءٌ فَلأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَىْءٌ فَلِذِى قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِى قَرَابَتِكَ شَىْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا». يَقُولُ: فَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ([4]).
وَالسُّؤَالُ -عِبَادَ اللهِ-: كَمْ هِيَ الأَحَادِيث فِي فَضْلِ عِتْقِ الرَّقَبَةِ؟! وَمَعَ ذَلِكَ تَأَمَّلَ مَا فَعَلَتْهُ أُمِّنَا مَيْمُونَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ- قَالَتْ: أَعْتَقَتُ وَلِيدَةً فِى زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ»([5]).
إِنَّهُ تَرْتِيبٌ مَقْصُودٌ فِي شَرِيعَتِنَا بِوُضُوحٍ لَا مِرْيَةَ فِيهِ، فَمَنْ أَرَادَ أَعْظَمَ الصَّدَقَةِ وَأَزْكَاهَا فَلْيَبْحَثْ عَنْ أَقَارِبِهِ؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ بَعْضِهِمْ مِنَ الاِخْتِلَاف فَلَا تَتْرُكُهُمْ.
جَاءَ فِي "مُسْنَدِ أَحْمَدَ" أَنَّ الرَّسُولَ -صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا، أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ». قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَؤُلَاءِ بَنُو يَرْبُوعٍ قَتَلَةُ فُلَانٍ -وَهُمْ مِنْ أَقَارِبِهِ- فقَالَ: «أَلَا لَا تَجْنِي نَفْسٌ عَلَى أُخْرَى»([6]).
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكَيِمِ، أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الـمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وتُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمُدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلـٰهَ إِلَّا اللهُ تَعظيمًا لشانِهِ، وأشْهَدُ أنَّ محمدًا عبْدُه ورسُولُه الدَّاعِي إِلى جنَّتِه ورِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ علَيْه وعَلى آلِه وأصحابِه وأعوانهِ.
أمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ فِي اللهِ: تِلْكُمُ الإِجَابَةُ الأُولَى عَلَى سُؤَالِ: مَاذَا يُنْفِقُونَ.
وَالإِجَابَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الذِي يُنْفِقُونَ؟ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ}، فَقَوْلُهُ: {مِنْ خَيْرٍ} هَذِهِ هِيَ الإِجَابَةُ الـمُبَاشِرَةُ لِلسُّؤَالِ، وَأَمَّا الإِجَابَةُ الأُولَى فَهِيَ زِيَادَةٌ عَلَى السُّؤُالِ، فَبَيَّنَ الـمُنْفَقَ عَلَيْهِمْ وَبَيَّنَ مِقْدَارَ الـمُنْفَقِ، فَقَالَ: {مِنْ خَيْرٍ}. وَالخَيْرُ: هُوَ الـمَالُ، وَهُوَ بِهَذَا الأُسْلُوبِ يَعَمُّ القَلِيلَ وَالكَثِيرَ مَا دَامَ نَافِعًا.
فَشَمِلَتْ هَذِهِ القَاعَدِةُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الإِنْفَاقِ فَإِنَّهُ مُخَاطَبٌ بِأَنْ يُعْطِيَ قَرِيبَهُ وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا؛ لِأَجْلِ أَنْ لَا يَقُولُ أَحَدٌ: أَنَا لَا أَمْلِكُ شَيْئًا حَتَّى أُخَاطَبَ بِهَذِهِ الآيَةِ. بَلْ أَجَابَ اللهُ عَنْ سُؤَالٍ ثَانٍ بِخُصُوصِ هَذِهِ القَضِيَّةِ الـمُهِمَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ، فَذَكَرَ اللهُ سُؤَالَيْنِ بِصِيغَةِ السُّؤَالِ؛ لِأَجْلِ أَنْ يَنْتَبِهَ السَّامِعُ لِهَذِهِ القَضِيَّةِ الـمُهِمَّةِ، فَقَالَ اللهُ: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}، هَذَا سُؤَالٌ عَنْ مِقْدَارِ مَا يُنْفِقُونَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَيَسَّرَ اللهُ لَهُمُ الأَمْرَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُنْفِقُوا العَفْوَ، وَهُوَ الـمُتَيَسَّرُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، الَّذِي لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ حَاجَتُهُمْ وَضَرُورَتُهُمْ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ بِحَسْبِهِ؛ مِنْ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ وَمُتَوَسِّطٍ، كُلٌّ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إِنْفَاقِ مَا عَفَا مِنْ مَالِهِ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ.
تَأَمَّلَ كَيْفَ أَخَذَتْ هَذِهِ القَضِيَّةُ تِلْكُمُ الجُمْلَةِ مِنَ النُّصُوصِ القُرْآنِيَّةِ وَالسُّنَّةِ النَبَوِيَّةِ، إِنَّكَ لَتَعْجَبُ حِينَمَا تَرَى غَنِيًّا وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْحَثُ عَنِ الخَيْرِ، لَكِنَّهُ يَشُحُّ بِمَالِهِ عَنْ أَقَارِبِهِ، أَوْ يُعْطِيَهُمُ القَلِيلَ، تَاللهِ لَوْ عَلِمَ مَا فِي الأَجْرِ عَلَى هَذَا القَرِيبِ وَإِعْفَافِهِ مَا دَامَ قَادِرًا لَرَبَحَ وَلَأَنْجَحَ. وَقَدْ قَالَ -صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صَدَقَةِ القَرِيبِ بِأَنَّهَا «صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ»([7]). فَجَمَعَتْ أَجْرَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ الأَعْمَالِ: صِلَةَ الرَّحِمِ، وَأَجْرَ الصَّدَقَةِ. إِنَّهَا غَنِيمَةٌ بَارِدَةٌ.
وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الـمَشَارِيعِ هُوَ مَا نَسْمَعُهُ بِمَا يُسَمَّى بِصَنَادِيقِ العَائِلَاتِ، فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الـمَشَارِيعِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَتَوَلَّى كُلُّ عَائِلَةٍ أُمُورَ أَقَارِبِهَا.
وَلَكِنْ مِنَ الأَخْطَاءِ: أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يَضَعُ فِيهَا إِلَّا زكَاةَ مَالِهِ، فَمَنْ كَانَ غَيْرَ مُخَاطَبٍ بِالزَّكَاةِ بِأَنْ كَانَ لَا يَحُولُ الحَوْلُ عَلَى نِصَابٍ عِنْدَهُ يَحْرِمُ نَفْسَهُ مِنْ هَذَا الخَيْرِ وَمِنَ الـمُشَارَكَةِ فِيهِ، فَلْيَضَعْ فِيهِ العَفْوَ وَالزَّائِدَ وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا جِدًّا.
مَعْشَرَ الإِخْوَةِ: الْتَفِتُوا إِلَى أَقَارِبِكُمْ بِمَا تَقْدِرُونَ؛ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ كِسْوَةٍ أَوْ مَالٍ أَوْ مَسْكَنٍ، فَهِيَ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ.
فَإِنَّه لَيَحُزُّ بِالخَاطِرِ أَنْ تَرَى رَجُلًا غَنِيًّا وَلَهُ قَرِيبٌ مُحْتَاجٌ يَنْتَظِرُ صَدَقَاتِ النَّاسِ وَعَطَايَاهُمْ، وَهُوَ يَرَى قَرِيبَهُ يَذْهَبُ بِصَدَقَاتِهِ بَعِيدًا عَنْهُ، وَالنَّاسَ لَا يَأْتُونَ إِلَيْهِ، وَيَقُولُونَ: أَعْطُوا غَيْرَهُ فَإِنَّ هَذَا لَنْ يَتْرُكُهُ قَرِيبُهُ. فَلَا هُوَ مِنْ قَرِيبِهِ انْتَفَعَ، وَلَا مِنْ ضَرَرِ القَرَابَةِ تَخَلَّصَ، وَالوَاقِعُ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ.
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى رَسُولِ الهُدَى وَإِمَامِ الوَرَى، فَقَدْ أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِينَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالأَئِمَّةِ الـمَهْدِيينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِعَفْوِكَ وَكَرَمِكَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ. اللَّهُمَّ أَعَزَّ الإِسْلَامَ وَالـمُسْلِمِينَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الـمُوَحِّدِينَ الَّذِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِكَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، اللَّهُمَّ انْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِكَ وَعَدُوِهِمْ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِاليَهُودِ الـمُعْتَدِينَ، وَالنَّصَارَى الـمُحَارِبِينَ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَكَ، اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا. اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أُمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُمْ لِمَا يُرْضِيكَ، وَجَنِّبْهُمْ مَعَاصِيكَ، اللَّهُمَّ تُبْ عَلَى التَّائِبينَ، وَاهْدِ ضَالَّ الـمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ رُدَّهُمْ إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا، اللَّهُمَّ ارْفَعَ مَا نَزَلَ مِنَ الفِتَنِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا.
عَبَادَ اللهِ: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فَاذْكُرُوا اللهَ العَلِيَّ العَظِيمَ يَذْكُرُكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
([1]) أخرجه البخاري (5971) (8/2)، ومسلم (2) (2548) (4/1974).
([2]) أخرجه الترمذي (1897) (4/309).
([3]) أخرجه البخاري (1461) (2/119)، ومسلم (42) (998) (2/693).
([4]) أخرجه مسلم (41) (997) (2/692).
([5]) أخرجه البخاري (2592) (3/158)، ومسلم (44) (999) (2/694).
([6]) أخرجه أحمد (7105) (11/674) من حديث أبي رمثة رضي الله عنه.
([7]) أخرجه أحمد (16226) (26/164)، والترمذي (658) (3/37)، والنسائي في المجتبى (2582) (5/92) من حديث سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه.
المرفقات
النفقة-على-القريب
النفقة-على-القريب