النفاق وشيء من علاماته 1439/08/11

النفاق و­­­­شيء من علاماته[1]
الحمدلله الذي بيَّن لعباده الدين, ونهاهم عمَّا يضر ويشين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, كمَّل من عباده المؤمنين, ورفع مقامهم في العالمين, وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله, نصح لأمته وأدى الأمانة, وبلَّغ رسالة ربه البلاغ المبين, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً, أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون, واتصفوا بصفات المؤمنين, وإياكم وصفاتِ المنافقين, فإنَّ النفاق طريق الخاسرين, الذين خسروا دنياهم وآخرتهم.
معاشر المسلمين: لقد بيَّن الله حال المؤمنين وحال المنافقين, فمن اتصف بصفات المؤمنين فهو منهم, ومن اتصف بصفات المنافقين فهو منهم.
والمنافقون قسمان: منافقون في الاعتقاد, نفاقهم أكبر, وهم من دخل في الإسلام نفاقاً, فهم يظهرون إسلامهم ويبطنون الكفر, وهؤلاء لا ينفكُّ منهم عصر, وفعلهم هذا من أعظم وأقبح صور الكذب, وهم يقلون حال ضعف المسلمين, ويكثرون حال قوتهم, لخشيتهم من قوة الإسلام وأهله, وهؤلاء أنزل الله فيهم سورة تتلى وهي سورة المنافقون, حيث كان منهم جماعة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ويحضرون مجلسه عليه الصلاة والسلام, وقد نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليهم بعد موتهم قال تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [التوبة: 84، 85] قال الإمام ابن القيم رحمه الله عن النفاق الأكبر أنَّه: (يُوجِبُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ فِي دَرْكِهَا الْأَسْفَلِ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ لِلْمُسْلِمِينَ إِيمَانَهُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ مُنْسَلِخٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مُكَذِّبٌ بِهِ...وَقَدْ هَتَكَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَسْتَارَ الْمُنَافِقِينَ، وَكَشَفَ أَسْرَارَهُمْ فِي الْقُرْآنِ، وَجَلَّى لِعِبَادِهِ أُمُورَهُمْ، لِيَكُونُوا مِنْهَا وَمِنْ أَهْلِهَا عَلَى حَذَرٍ، وَذَكَرَ طَوَائِفَ الْعَالَمِ الثَّلَاثَةَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: الْمُؤْمِنِينَ، وَالْكُفَّارَ، وَالْمُنَافِقِينَ، فَذَكَرَ فِي الْمُؤْمِنِينَ أَرْبَعَ آيَاتٍ، وَفِي الْكُفَّارِ آيَتَيْنِ، وَفِي الْمُنَافِقِينَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً، لِكَثْرَتِهِمْ وَعُمُومِ الِابْتِلَاءِ بِهِمْ، وَشِدَّةِ فِتْنَتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَإِنَّ بَلِيَّةَ الْإِسْلَامِ بِهِمْ شَدِيدَةٌ جِدًّا، لِأَنَّهُمْ مَنْسُوبُونُ إِلَيْهِ، وَإِلَى نُصْرَتِهِ وَمُوَالَاتِهِ، وَهُمْ أَعْدَاؤُهُ فِي الْحَقِيقَةِ، يُخْرِجُونَ عَدَاوَتَهُ فِي كُلِّ قَالَبٍ يَظُنُّ الْجَاهِلُ أَنَّهُ عِلْمٌ وَإِصْلَاحٌ، وَهُوَ غَايَةُ الْجَهْلِ وَالْإِفْسَادِ. فَلِلَّهِ كَمْ مِنْ مَعْقِلٍ لِلْإِسْلَامِ قَدْ هَدَمُوهُ؟ ! وَكَمْ مِنْ حِصْنٍ لَهُ قَدْ قَلَعُوا أَسَاسَهُ وَخَرَّبُوهُ؟! وَكَمْ مِنْ عِلْمٍ لَهُ قَدْ طَمَسُوهُ؟! وَكَمْ مِنْ لِوَاءٍ لَهُ مَرْفُوعٍ قَدْ وَضَعُوهُ؟! وَكَمْ ضَرَبُوا بِمَعَاوِلِ الشُّبَهِ فِي أُصُولِ غِرَاسِهِ لِيَقْلَعُوهَا؟! وَكَمْ عَمَّوْا عُيُونَ مَوَارِدِهِ بِآرَائِهِمْ لِيَدْفِنُوهَا وَيَقْطَعُوهَا؟! فَلَا يَزَالُ الْإِسْلَامُ وَأَهْلُهُ مِنْهُمْ فِي مِحْنَةٍ وَبَلِيَّةٍ، وَلَا يَزَالُ يَطْرُقُهُ مِنْ شُبَهِهِمْ سَرِيَّةٌ بَعْدَ سَرِيَّةٍ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بِذَلِكَ مُصْلِحُونَ {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8])[2].
معاشر المسلمين: وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم صاحبه وأمين سرِّه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه بأسمائهم فكان لا يصلي على أحد منهم إذا مات, وكان عمر رضي الله عنه ينظر لحذيفة فلا يصلي على أحد مات إلا إذا صلى عليه حذيفة رضي الله عنه, وأصحاب هذا القسم من النفاق توعَّدهم الله بالدرك الأسفل من النار, قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 145، 146] وذكر الله تعالى شيئاً من صفاتهم في سورة التوبة, وذكر الله عنهم أنهم كانوا يحذرون أن تنزَّل سورة تخبر عمَّا في قلوبهم قال تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة: 64] قال مجاهد رحمه الله: (يقولون القول بينهم، ثم يقولون: عسى الله أن لا يفشي سرنا علينا)[3]. وقال الإمام السعدي رحمه الله: (كانت هذه السورة الكريمة تسمى "الفاضحة" لأنها بيَّنت أسرار المنافقين، وهتكت أستارهم، فما زال الله يقول: ومنهم ومنهم، ويذكر أوصافهم، إلا أنه لم يعين أشخاصهم لفائدتين: إحداهما: أن الله سِتِّيرٌ يحب الستر على عباده.
والثانية: أنَّ الذم على من اتصف بذلك الوصف من المنافقين، الذين توجَّه إليهم الخطاب وغيرهم إلى يوم القيامة، فكان ذكر الوصف أعم وأنسب، حتى خافوا غاية الخوف)[4].
معاشر المسلمين: القسم الثاني من أقسام المنافقين: هم من وقع في النفاق العملي, أي: من يعمل شيئاً من أعمال المنافقين مع بقاء الإيمان في القلب, وهؤلاء مسلمون في الظاهر وفي الباطن, لكنهم اتصفوا ببعض صفات المنافقين مثل: التكاسل عن أداء الصلاة مع الجماعة وثِقَلِها عليهم وأثقل ما يكون عليهم منها صلاتي الفجر والعشاء, قال صلى الله عليه وسلم :(لَيْسَ صَلاَةٌ أَثْقَلَ عَلَى المُنَافِقِينَ مِنَ الفَجْرِ وَالعِشَاءِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ المُؤَذِّنَ، فَيُقِيمَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا يَؤُمُّ النَّاسَ، ثُمَّ آخُذَ شُعَلًا مِنْ نَارٍ، فَأُحَرِّقَ عَلَى مَنْ لاَ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاَةِ بَعْدُ)[5] متفق عليه.
معاشر المسلمين: ومن صفات المنافقين: الكذب وإخلاف الوعد وخيانة الأمانة والفجور في المخاصمة قال النبي صلى الله عليه وسلم : (أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)[6] متفق عليه, قال الإمام النووي رحمه الله:(مَعْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ خِصَالُ نِفَاقٍ وَصَاحِبُهَا شَبِيهٌ بالمنافقين فِي هَذِهِ الْخِصَالِ وَمُتَخَلِّقٌ بِأَخْلَاقِهِمْ)[7].
معاشر المسلمين: يستهين أحدهم بالكذب, يكذب كأن لم يفعل خطيئة, وهذا من الجهل, فالكذب حرام يعاقب عليه صاحبه, يظن أنَّ في الكذب نجاته, فيعامل الناس بالكذب ويخاتلهم بالمخداعة, ويقابل هذا بوجه وذاك بوجه, يظن أنَّ الكذب والتلبيس والحيل ذكاء منه ولا يأثم عليه, يظن أنَّه على هدى وهو على غير السبيل, والمنافق في خيانته للأمانة يظن أنَّه فاز بشيء أو ظفر به من متع الدنيا وظلم الناس, وما علم أنَّه خاسر محاسب معاقب يُمحَقُ البركة, ومن صفات المنافقين الغدر, يُعاهد أحداً على شيء ثم يغدر به, ومن صفاتهم الفجور في الخصومة, قال الإمام ابن رجب رحمه الله: (وَيَعْنِي بِالْفُجُورِ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْحَقِّ عَمْدًا حَتَّى يَصِيرَ الْحَقُّ بَاطِلًا وَالْبَاطِلُ حَقًّا، وَهَذَا مِمَّا يَدْعُو إِلَيْهِ الْكَذِبُ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم : «إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ» وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ»...فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ ذَا قُدْرَةٍ عِنْدَ الْخُصُومَةِ -سَوَاءٌ كَانَتْ خُصُومَتُهُ فِي الدِّينِ أَوْ فِي الدُّنْيَا- عَلَى أَنْ يَنْتَصِرَ لِلْبَاطِلِ، وَيُخَيِّلَ لِلسَّامِعِ أَنَّهُ حَقٌّ، وَيُوهِنَ الْحَقَّ، وَيُخْرِجَهُ فِي صُورَةِ الْبَاطِلِ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَقْبَحِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمِنْ أَخْبَثِ خِصَالِ النِّفَاقِ...عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ خَاصَمَ  فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ» وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا: «وَمَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ، فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ»)[8].اللهم إنا نعوذ بك من النفاق ومن الشقاق ومن سيء الأخلاق.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
[1] تم إعدادها ضحى الأربعاء 09/08/1439هـ, خطبة الجمعة ليوم 11/08/1439هـ, جامع بلدة الداخلة في سدير, عمر المشاري.
[2] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 355).
[3] تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (14/ 331).
[4] تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 342).
[5] أخرجه البخاري في كتاب الأذان, باب فضل العشاء في الجماعة برقم (657) واللفظ له. وأخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة, باب فضل صلاة الجماعة, وبيان التشديد في التخلف عنها برقم (651).
[6] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان, باب علامة المنافق برقم (34) ومسلم في كتاب الإيمان, باب بيان خصال المنافق برقم (58).
[7] شرح النووي على مسلم (2/ 47).
[8] ينظر جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط (2/ 486-487).
المرفقات

وشيء-من-علاماته

وشيء-من-علاماته

المشاهدات 926 | التعليقات 0