النسوية

عبدالله القاضي
1442/06/23 - 2021/02/05 18:34PM

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.

لما خلق الله تعالى البشر جعل بعضهم محتاجا إلى بعض، وهم في مجموعهم فقراء إلى ربهم، فالأب بحاجة إلى الولد، كما الولد محتاج إلى الوالد، والرجل محتاج إلى المرأة، كحاجة المرأة إلى الرجل، والفقير محتاج إلى الغني، والغني لا يستغني عن الفقير، وهلم جرا.

لما كان الأمر كذلك جعل الرب الحكيم الرحيم نظاما لضبط العلاقة بين هذه الأطراف، هذا النظام أظهره الله تعالى في الفطرة، وهدى إليه العقول، وكمّل ذلك وبيّنه بالشرع والوحي.

وسأقف مع علاقة واحدة من هذه العلاقات، هي علاقة الرجل بالمرأة.

فهذه العلاقة يحكمها نظامان ربانيان كبيران: التكامل، والقيام.

أما التكامل فهو أن كل جنس يسد نقصا في الجنس الآخر، ولكل جنس وظيفة في الحياة هيئ لها وأُعدّ لها لا يُحسنها الجنس الآخر، فسعادة الرجال وسعادة النساء في أن يُقبل كل جنس منهم على ما خُلِق له وهيئ له، وشقاوة الجنسين في أن تتحول العلاقة بينهما إلى صراع وتنافس وتداخل في الواجبات.

أما النظام الآخر الذي يضبط علاقة بين الجنسين فهو القيام، وهو ما أشار إليه القرآن في قول الله تعالى ﴿الرجال قوّامون على النساء﴾، ويعني هذا النظام أن كل اجتماع بشري يحتاج إلى قيادة، الدولة لها ملك أو رئيس، المدينة لها أمير، الوزارة لها وزير، المؤسسة لها مدير، ومن الاجتماعات البشرية: الأسرة، فهي أيضا بحاجة إلى قيادة، فمبدأ قيام الرجل في الأسرة مبدأ مطّرد في جميع الاجتماعات البشرية.

أيها المسلمون:

الذي أريد أن ننتبه له في هذه الخطبة مرض اجتماعي، يختلّ فيه الفكر، ويتناقض الإنسان، وتضطرب وتتصادم العلاقات الاجتماعية فيه، إنه مرض النسوية.

النسوية -باختصار- فكرة تقوم على الحرية المطلقة، والمساواة التامة بين الرجل والمرأة.

النسوية شجرة: لها جذور تحت التراب قد لا ترى، ولها جذع وأغصان وأوراق يراها الناس.

أما أصولها فهي الإلحاد، نعم، الإلحاد، لا أقول: إن كل متأثرة بالفكر النسوي ملحدة، لكن: الفكرة نفسها فكرة إلحادية؛ لأن الإيمان لا يجتمع والحريةَ المطلقة، ولا يجتمع والرفضَ لأحكام الرب I.

وأما أغصان هذه الشجرة التي أصبحنا نراها ونسمع بها فهي تشويه صورة الرجل، ودعوة المرأة إلى الاستغناء عنه، وتبشيع صورة الزواج، وتصويره في صورة العبودية والرقّ، وتأليب المرأة المتزوجة على زوجها لتعصيَه أو تفارقَه بالطلاق، وتحسينُ الطلاق، وتصويره عتقا وانفكاكا من عبودية الزوج، وتعظيمُ العمل الوظيفي للمرأة خارج البيت، وإشعار المرأة بأن عملها في رعاية بيتها وأُسرتها عمل لا قيمة له ولا أثر في بناء المجتمع وقوّته، والمبالغة في تعظيم وإعلاء قيمة الحرية، حريةً لا قيد لها من شرع ولا خلق.

أيها المسلمون! هذا المرض الفكري الاجتماعي ينتشر اليوم، بل تحمل رايته وترسل سراياه مؤسسات دولية، تحاول أن تفرض فكرها الفاسد على أمم الأرض، ينتشر هذا المرض والتشوّه الفكري في المجتمع على يد قنوات إعلامية مفسدة، وبرامج تواصل، كثير منها بأسماءٍ سعودية وهمية، تدار من الخارج، همّها زعزعة المجتمع، ومحاربة التدين فيه، وينشر هذا المرض أيضا قرينات سوء وُظِّفن لنشر هذا المرض.

ينشر هذا الفكر دعوته بأساليب عاطفية، ومغالطات أسلوبية، فتجده يتصيّد ما في المجتمع من مشكلات اجتماعية، فيبالغ فيها، ويعممها، ثم يربطها بالدين وأحكامه الثابتة، كمشروعية الزواج، وطاعة الزوج، وطاعة الأب، وآداب التعامل بين الرجال والنساء، ثم يُسيء تفسير نصوص الشرع وأحكامه، فيُصوّر كل حكم شرعي يخالف رغبة المرأة بأنه إهانة واستعباد لها، ويستعمله لإيغار صدور الجاهلات من النساء ضد أزواجهن وآبائهن وإخوانهن.

وفي مقابل ذلك، يخفي متعمدا محاسن التشريع الإسلامي، ومظاهر الجمال والتماسك والرحمة في مجتمعنا، ويخفي أيضا سوءات الحرية الغربية المنفلتة، التي جنت على المرأة، فأعطتها حقوق الانفتلات والضياع، ومنعتها حق البر والصلة والنفقة، أعطتها الحرية التي لا تحتاج إليها، ومنعتها الحقوق التي لا بد لها منها!

ونتيجة هذا الوهم: تفكك الأسر، ورفض الدين، وخروج المرأة من هذه الحرية الجوفاء لا حقوق لها على والد ولا على ولد ولا على زوج، وفشوّ الفاحشة، لأن حاجة المرأة إلى الرجل أمر فطري كحاجة الرجل إلى المرأة، فإذا لم يُقض ذلك الوطر بالطريقة المشروعة قُضي ولا بد بطريق الفاحشة وساء سبيلا.

أيها المسلمون! قال رسول الله ﷺ: «تعوذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن».

نعوذ بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

***

الخطبة الثانية

 

أيها المسلمون:

لا فائدة من الحديث عن مشكلة إذا لم يؤد إلى معرفة أسبابها، وطرق الوقاية والعلاج منها، ولا فائدة من الكلام في أسباب المشكلة وطرق علاجها إذا لم يكن كل واحد منا جزءا من حلّها.

لذا سأشير إلى أمرين أساسيين، هما: التربية، والقيام.

أما القيام، أو ما يسمى بالقوامة: فإن فهم الرجل لمعنى القوامة في الإسلام والتزامه ذلك كفيل بإذن الله في الوقاية من مرض النسوية.

ذلك الرجل -وليس والله برجل- الذي يهين زوجته، والذي يطالب بها بحقوقه، ولا يؤدي حقوق أهله أحد دعاة النسوية!

الرجل الذي يرى التعدد في الزواج مباحا، وينسى أن العدل بين الزوجات واجب، هو أيضا من دعاة النسوية، وكيف ستكون صورة الزواج في عقول بناته وهن يرين سوء سيرة أبيهن؟!

وأما التربية: فكل عمل تبذله أيها المسلم أو تساهم فيه لأسرتك أو للمجتمع، أو للمسلمين عموما، عملٍ يؤدي إلى تثبيت الإيمان، ومعرفة الله I، ومعرفة شريعته الكاملة، فإنه وقاية وتحصين من جميع الأمراض الفكرية والسلوكية، ومنها مرض النسوية.

أن تجلس مع أسرتك في مجلس لتلاوة القرآن، وشرح معانيه، أو قراءة في حديث النبي ﷺ، وفهم معانيها، أو تعين أولادك على الالتحاق ببرنامج علمي أو تربوي، يحضرونه، أو يتعلمونه عن بُعد، كل ذلك يزيد تحصينهم، ويمنعهم بإذن الله من الانحرافات.

أن تجعل نزهاتك نزهات عائلية، تزيد أولادك ارتباطا بك، وثقة فيك، وقبولا لنصحك.

أن تقوي العلاقة بأبنائك وبناتك، أن تعاملهم معاملة الصديق، فتعرف مشكلاتهم، وتعرف علاقاتهم، وتهيئ لهم البدائل النافعة، وتقضي وقتا كافيا معهم.

أن تجعل من دعائك وصلاتك جزءا للدعاء لذريتك وللمسلمين عموما بالصلاح، أنت بهذا أحد المصلحين في الأمة.

أن تتحسس آراء أولادك واتجاهاتهم، وتشعرهم بالأمان، ثم تحاورهم برفق، وتكشف عنهم الشبهات إن استطعت، أو تبحث أو تسأل من يُعينك على ذلك، وتوصل إليهم المعرفة الصافية.

أن تثقف نفسك، فتزداد وعيا بأسلوب التربية، وبطبيعة الشباب وكيفية معاملتهم، أنت بذلك بإذن الله تقي أولادك فتنا كثيرة.

دور التعليم هنا دور أساسي، فليس هدف التعليم مجرد تخريج موظفين لسوق العمل، إن التعليم قبل ذلك حفظ ورعاية وصيانة للمبادئ الأساسية في الحياة، وإن دور المعلم والمعلمة ومسؤوليتهما أمام الله تعالى عظيمة.

 

المشاهدات 2125 | التعليقات 0