النزاهة ومحاربة الفساد.
أ.د عبدالله الطيار
الْحَمْدُ لِلَّهِ ربّ الأربابِ، ومسبّبِ الأسبابِ، أَمَرَ بالإصلاحِ وَوَعَدَ عليه بالثَّوَابِ، ونَهَى عن الإفسادِ، وتَوَعَّدَ المفسدينَ بالعِقَابِ، سبحانَهُ العزيزُ القهّارُ، فرَّقَ بين المصلحينَ الأبرَار، وبين المفسدينَ والكفارِ{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} ص: [28].
وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُهُ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ:
فاتّقُوا اللهَ أَيُّهَا المؤمنونَ، فالتقوى وصيةُ اللهِ للأوَّلينَ والأخرينَ، قالَ تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131].
عِبَادَ اللهِ: لقدْ حَارَبَ الإسلامُ الفسادَ، ونَهَى عنهُ، وحذَّرَ منهُ، قالَ تعالَى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}الأعراف: [56]، وجعلَ اللهُ عزّ وجلّ الإفسادَ في الأرضِ دليلاً على نقصِ الإيمانِ، وفسادِ القلبِ، قالَ سبحانَهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} البقرة: [204-205].
أيُّهَا المؤمنونَ: والنهيُ عن الإفسادِ في الأرضِ وصِيَّةُ المرسلينَ، وشعارُ الصَّالحينَ، ودَيْدَنُ المُصْلِحِينَ، قال صالحٌ عليه الصلاةُ والسلامُ لقومِهِ:{وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}الشعراء: [151-152] وقال شعيبٌ عليه الصلاةُ والسلامُ لقومِهِ: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} هود: [85] وحكى اللهُ عزّ وجلّ وصية موسى عليه الصلاة والسلام لأخيهِ بقولِهِ:{وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} الأعراف: [142] وفي نصيحةِ قومِ قارونَ لقارونَ بقولِهِمْ: {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} القصص: [77].
والفسادُ يَا عِبَادَ اللهِ: هو كلمةُ السرِّ في هلاكِ الأُمَمِ، ومِعْوَلُ هدمِ الدُّوَلِ، ونذيرُ شُؤْمٍ وبادرةُ شرٍّ، قالَ تعالَى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} الروم: [41]، والفسادُ رَدِيفُ كلِّ شرٍّ، وموجِبُ كلّ سُخْطٍ، وبابُ كلّ بلاءٍ، فما انتشرَ الفسادُ في قومٍ إلا عَمّهُمُ البلاءُ، وأمَّهُمُ القحطُ والجفاءُ، قالَ ﷺ: (إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ) أخرجه البخاري(3475).
أيُّهَا المؤمنونَ: ومن أهمِّ صورِ الفسادِ وأَخْطَرِهَا: التَّعَدِّي على المالِ العامِ، واستباحةِ أموالِ المسلمينَ وثَرَوَاتِهِمْ، واستغلالِ النفوذِ، والوَسَاطَةِ، وأكْلِ الرِّشْوَةِ، وغيرِهَا من صورِ الفسادِ التي تُؤْذِنُ بالهلاكِ، وتدلُّ على خَرْقٍ جَسِيمٍ في الجانبِ العقديِّ، وقِلَّة المراقبةِ للهِ عزّ وجلّ، وضعفِ الوازعِ الدينيّ لدى الأفرادِ والجماعاتِ.
عبادَ اللهِ: صحّ عن النبيِّ ﷺ أنهُ قَالَ: (إنَّ رِجالًا يَتَخَوَّضُونَ في مالِ اللَّهِ بغيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النّارُ يَومَ القِيامَةِ) أخرجه البخاري (3118)، وهذا الحديثُ تحذيرٌ لمن أمَّنَهُم اللهُ عزّ وجلّ على أموالِ المسلمينَ كالصدقاتِ والزكاةِ، والجمعياتِ الخيريَّةِ، وأموال اليتامى والمالِ العامِ، فيضيعونَهُ، أو يأخذونَ منه بغيرِ وجهِ حقٍّ، أو يعطونَهُ لغيرِ مستحقيهِ فهؤلاءِ أخبرَ النبيُّ ﷺ أنّ لهم النارَ يومَ القيامةِ، إنْ هُم أضَاعُوا الأمانةَ، وخانُوا المسلمينَ في مالِهِم، إلا أن يتوبُوا، فيردُّوا المظالِمَ إلى أهلِهَا، والحقوقَ إلى أصحابِهَا.
وفي الحديثِ وجوبُ المحافظةِ على الأموالِ العامّةِ، وغيرِهَا من وجوهِ النَّفْعِ العامِ، وأنَّها ليستْ مرتعًا لمن ولّاه اللهُ عليهَا، إنَّمَا هيَ أمانةٌ، يجبُ حِفْظُهَا، والحفاظُ عليهَا، وإلا كانتْ وبالًا على صاحبِهَا في الدُّنيَا، وموجِبًا لولوجِ النَّارِ يومَ القيامةِ.
أعوذُ باللهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} القصص:[83].
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكْرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانِهِ، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، تعظيمًا لشأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الداعي إلى رضوانِهِ، صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا أمَّا بــــــعــــــــــدُ:
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ واعلمُوا أنّ محاربَةَ الفساد، والحدّ منه، والإبلاغ عن المفسدينَ واجبٌ شرعيٌّ، قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} هود:[116] وقد اسْتَعْمَلَ رَسولُ اللهِ ﷺ رَجُلًا مِنَ الأزْدِ على صَدَقاتِ بَنِي سُلَيْمٍ، يُدْعى: ابنُ اللُّتْبِيَّةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قالَ: هذا لَكُمْ، وَهذا لِي، أُهْدِيَ لِي، فَقَامَ رَسولُ اللهِ ﷺ علَى المِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عليه وَقالَ: (ما بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ، فيَقولُ: هذا لَكُمْ، وَهذا أُهْدِيَ لِي، أَفلا قَعَدَ في بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ في بَيْتِ أُمِّهِ، حتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لا يَنَالُ أَحَدٌ مِنكُم منها شيئًا إلَّا جَاءَ به يَومَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ علَى عُنُقِهِ بَعِيرٌ له رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إبْطَيْهِ، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ، هلْ بَلَّغْتُ؟ مَرَّتَيْنِ) أخرجه البخاري (7174)، ومسلم (1832).
أيُّهَا المؤمنونَ: إنَّ بلادَنا –حرسَهَا اللهُ- تُوَاجِهُ بكلِّ حزمٍ وشِدَّةٍ، وتضربُ بيدٍ مِنْ حديدٍ على أيدي كلِّ المفسدينَ، ومن ثبتَتْ إِدَانتُهُمْ بِتُهَمِ الإفسادِ أو الرِّشْوَةِ أو إِهْدَارِ المالِ العامِ، انطلاقًا من النصوصِ القرآنيّةِ، والأحاديثِ النبويَّةِ في وجوبِ محاربةِ المفسدينَ والأخذِ على أيديهم.
والواجبُ علينَا أنْ نكونَ عَوْنًا لبلادِنَا في هذا الشأنِ، بالإبلاغِ عن الفاسِدِينَ وإحباط جرائمِ المفسدين، والمحافظةِ على المالِ العامِ، وحمايةِ مكتسباتِ الوطنِ.
أسألُ اللهَ عزّ وجلَّ أن يؤلِّفَ بين قلوبِنَا، ويُصْلِحَ ذاتَ بينِنَا ويهدينَا صِرَاطَهُ المستقيمَ
اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِ المسلمينَ لِلْحُكْمِ بكتابِكَ، والعمل بسنَّةِ نبيِّكَ، اللهم وفِّق خادمَ الحرمينِ الشريفينِ وسموَّ وليِّ عهدِهِ لما فيه الخيرُ والصلاحُ واحفظْهُم من كلِّ سوءٍ ومكروهٍ، واجْزِهِمْ عمَّا يُقَدِّمُونَ للإسلامِ والمسلمينَ خَيْرَ الْجَزَاءِ.
اللهمَّ ارْبِطْ على قلوبِ رجالِ الأمنِ، الذين يُدَافِعُونَ عن الدِّينِ والمقدساتِ والأعراضِ والأموالِ واحْفَظُْهمْ مِن بينِ أيديهمِ ومن خَلْفِهِمِ، ونعوذُ بعظمتكَ أنْ يُغْتَالُوا من تَحْتِهِمْ.
اللهمَّ ارحَمْ هذا الجمعَ من المؤمنينَ، اللهمَّ استر عوراتِهِمْ، وآمِنْ روعاتِهِمْ وارفَعْ درجاتِهِمْ في الجنَّاتِ، واغفرْ لَهُم ولآبَائِهِمْ وأمَّهَاتِهِم، وأَصْلِحْ نيَّاتِهِمْ وذريَّاتِهِم واجمعنَا وإيَّاهُم ووالدِينَا وأزواجِنَا وذرِّيَّاتِنَا ومَنْ لَهُ حقٌّ علينَا في جنَّاتِ النعيم.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفى فقد أَمَرَكم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ من قائلٍ عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب:56].
الجمعة: 1444/5/15هـ