النزاهة وأثرها في حفظ المال العام ومحاربة الفساد
أ.د عبدالله الطيار
الخطبة الأولى:
إنّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ، ونعوذ باللهِ منْ شرورِ أنفسنَا ومنْ سيئاتِ أعمالنا منْ يهدهِ اللهُ فلَا مُضلّ لهُ ومنْ يُضلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ بعثهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وأصحابهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[البقرة:281].
عبادَ اللهِ: الفسادُ آفةٌ خطيرةٌ، وظاهرةٌ مقيتةٌ، وداءٌ عضالٌ، إذا استشرى بأمَّةٍ ضاعَ ميزانُ العدلِ فيهَا، وأكَلَ قويُّهَا ضعيفَهَا، واعتلى السفهاءُ أكتافَ عقلائِهَا، وسُرِقَت الأموالُ، ونُهِبَت الخيراتُ والثرواتُ، وضيِّعت الأمانات، وآثارُهُ المدمّرةُ ونتائجهُ السلبيةُ تطالُ جميعَ مقوّماتِ الحياةِ، وتُعَرقِلُ أداءَ المسؤولياتِ والمهامِ وإنجازَ الوظائِفِ والخدماتِ، وتشكِّلُ منظومةَ تخريبٍ وإفسادٍ، وكانَ سببًا كبيرًا في فَشلِ تنميتِهَا وتقويضِ أركانِ نهضتِهَا، وتراجُعِهَا وتقَهْقُرِهَا أخلاقيًّا واقتصاديًّا. ومن أخطرِ آثارِ الفسادِ أنَّهُ يُؤَدّي إلى تبريرِ مَا يقومُ بهِ الفردُ من إفسادٍ، فَلا يكونُ تَعَاملُه معَ الآخرينَ إلّا بدافِعِ الماديةِ والمصلحةِ الذاتيةِ، دونَ مراعاةٍ للشرعِ أو قيمِ المجتمعِ.
عبادَ اللهِ: وللفسادِ صورٌ كثيرةٌ ومتعددةٌ، ومِنْ ذَلِكَ: الرِّشوةُ بجميعِ صورِهَا وتسمياتِهَا
والمحسوبيَّةُ، والمحاباةُ، والواسطةُ، والاختلاسُ، والابتزازُ بجميعِ صورهِ، والاعتداءُ
علَى المالِ العامِ ونهبهِ، ونهبُ الأراضِي، واستغلالُ النفوذِ، والتهرّبُ من دفعِ الضّرائبِ العامَّةِ، والتَّلاعبُ في المستنداتِ والوثائقِ والسنداتِ التي تثبتُ حقوقًا للآخرينَ، وإساءةُ استخدامِ الوظائفِ العامَّةِ والخاصَّةِ وإرساءُ المناقصاتِ على غيرِ مستحقيهَا. ولقدْ نَهَى الشارعُ الحكيمُ عنْ الفسادِ بجميعِ صورهِ، قال تعالى:{وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَاد}[البقرة:205].
وفِي صحيحِ مسلمٍ أنَّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: (لَا يَسْتَرْعى اللهُ عَبْداً عَلى رَعِيَّةٍ يَمُوتُ حِينَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهَا إِلّا حَرّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ).
وروى الإمامُ أحمدُ عَن ثوبانَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: (لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الرَّاشِيَ، وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ يَعْنِي الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا).
عبادَ اللهِ: لقدْ حثَّ دينُنَا الحنيفُ على طهارةِ النَّفْسِ وتنزيهِهَا عن الأدران والسيئات، قَالَ تعالَى:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْْ}[المدَّثر: 4]. قَالَ ابنُ عبدِ البَرِّ رَحِمَهُ اللهُ: تأوَّلوا قوله تعالى:{وثيابك فطهِّر}، على ما تأوَّله عليه جمهورُ السَّلفِ، من أنَّها طهارةُ القلبِ، وطهارةُ الجيبِ، ونزاهةُ الـنَّفْسِ عنِ الدَّنايا والآثامِ والذُّنوبِ.
وعن النُّعمانِ بن بَشير رضيَ اللهُ عنْهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بيِّنٌ، وبَيْنَهُمَا مُشَبَّهاتٌ، لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهاتِ، استبرأَ لدينِهِ وعِِرْضِهِ، ومَنْ وَقَعَ فِي الشُّبهاتِ، كرَاعٍ يرعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أنْ يُوَاقِعَهُ..)(رواه البخاري ومسلم). قالَ ابنُ رجبٍ رحمهُ اللهُ: مَنْ اتَّقى الأمورَ المشْتبَهةَ عليهِ، التِي لا تتبيَّن لهُ: أحلالٌ هيَ أوْ حَرَامٌ؟ فَإِنَّهُ مُسْتَبرئٌ لدِِينِهِ، بمعنى: أنَّه طالبٌ لهُ البَرَاءَ والـنَّزَاهَةَ مِمَّا يُدَنِّسهُ ويُشِينُهُ.
عبادَ اللهِ: والمسلمُ إذا اتَّصفَ بخُلُقِ النَّزَاهَةِ أثْمَرَ لصاحبِهِ القناعةَ والورعَ، فكانَ من المتَّقين، وتحصَّلَ علَى مرضاتِ ربِّهِ، ونالَ محبَّتَهُ، واقتدى بخُلُقِ نبيِّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وحفظَ نفسَهُ عن الانزلاقِ والانحرافِ. وإنَّ ممَّا يُعينُ المسلمَ على الاتصافِ بخلقِ النَّزَاهَةِ اقتداؤهُ بالنبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ، فقدْ قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:(إنِّي لأنقلبُ إِلَى أَهْلِي، فَأَجِدُ التَّمرةَ سَاقِطَةٌ عَلَى فِرَاشِي، فَأَرْفَعُهَا لآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةٌ، فَأُلْقِيهَا)(رواه البخاري ومسلم). وَأَنْ يَحرِصَ على الدُّعَاءِ: لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كانَ يقولُ:(وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلّا أَنْتَ) (رواه مسلم). وَأَنْ يتَّصِفَ بالنَّجْدَةِ والْجُودِ والْعَدْلِ، والْقَنَاعَةِ والْبُعْدِ عَنِ الطَّمَعِ.
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام* وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَاد}[البقرة:204، 205].
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكمْ بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكرِ الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفر لي ولكم إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلين، نبيِّنا محمد صلى الله عليه وآلهِ وصحبهِ أجمعين، أما بعدُ:
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهَ: واعلموا أنّ البعدَ عن الفسادِ والسَّلامةَ منْهُ وتَرْكَ الشُّبُهَاتِ نعمةٌ مِنَ اللهِ ومِنَّةٌ، ومَنْ عَصَمَ نَفْسَهُ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ حَازَ الخيرَ كُلَّهُ فِي حَيَاتِهِ.
قَالَ الماورديُّ رَحِمَهُ اللهُ: والنَّفسُ الشَّريفةُ تطلبُ الصِّيانةَ، وتُـرَاعِي النَّزاهةَ، وتحتملُ مِنَ الضُّرِّ مَا احتملَتْ، ومِنَ الشِّدَّةِ مَا طَاقَتْ، فَيَبْقَى تَحَمُّلُهَا، ويدومُ تصوُّنُهَا.
وربنا جلَّ وعلاَ يقولُ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة: 27]، فهم تنزَّهُوا عن أشياءَ منَ الحَلالِ؛ مَخافةَ أنْ يقعُوا في الحرامِ، فسمَّاهم متَّقينَ".
عبادَ اللهِ: إنَّ مكافحةَ الفسادِ في المجتمعِ ليْسَ عملاً هينًا، بلْ يحتاجُ لتضافرِ جهودِ الجميعِ منْ أجلِ تقويضِهِ وإضعافِهِ والتقليلِ منهُ، وحتَّى يحذرَ الناسُ مَنْ مَغَبَّةِ وجودِهِ وانتشارِهِ.
وعَلى كلِّ واحدٍ منَّا مسؤوليةٌ كبيرةٌ تجاهَهُ، بأنْ يتعاونَ الجميعُ مِنْ أجلِ القضاءِ عليهِ، وتقييدِهِ، حتَّى يَسْلَمَ المجتمعُ وتَسْلَمَ الدَّوْلةُ مِنْ هَذا الدَّاءِ الْعُضَالِ.
هذا وصلّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى فقدْ أمركم اللهُ بذلكَ فقالَ جلّ مِنْ قائلٍ عليمًا: {إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 25 / 3 /1441هـ