النداءات في سورة الحجرات

النداءات في سورة الحجرات

الخطبة الأولى

إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً . أَمَّا بَعْدُ :-

فاتقوا الله عباد الله وأطيعوه وراقبوه ولا تعصوه واعلموا أنكم ملاقوه .

عباد الله : لقد أمرَنَا اللهُ سبحانَهُ وتعالى أَنْ نقرأَ القرآنَ الكريمَ ، وأن نفهَمَ معانِيَهُ ، ونتدبَّرَهُ لِنُدرِكَ مرامِيَهُ ، قال الله تعالى : ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الأَلْبَابِ ﴾ ، ويقول سبحانه : ﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ ، فالمتدبر لآيات القرآن العظيم يزداد إيمانه ، ويتضح له الطريق الموصلة إلى الله ، وكلما كانت قراءة القرآن عن تدبر وتعقل كان وقعها في النفس أكبر ، وكان لها أثر في سلوك الإنسان ، ولهذا لمَّا سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد ، قَالَتْ : ( كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ ) ، فكان صلى الله عليه وسلم يتمثل القرآن منهجاً لحياته ، قراءةً وتدبراً وتطبيقاً ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : " لا تهذُّوا القرآن هذَّ الشِّعْرَ ، ولا تنثروه نثر الدقل ، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ، ولا يكن همُّ أحدكم آخر السورة " . ومن سور القرآن التي ينبغي قراءتها وتدبرها والعمل بما فيها التوجيهات والنداءات " سورة الحجرات " ، وهي سورة مع قصرها ، وقلة عدد آياتها ، إلا أنها جاءت شاملة لأحكام وآداب وأوامر ونواهي ، لا تجدها مجتمعة في سورة سواها ، ولهذا فهي تسمى سورة الأخلاق ، لاشتمالها على جملة من الآداب ؛ الأدب مع الله ، والأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأدب مع عباد الله المؤمنين . كما تشتمل على كثير من حقائق العقيدة والتشريع والأخلاق ، وفي هذه السورة جاءت ستة نداءات : خمسة منها جاء المنادَى فيها موصوفًا بوصف الإيمان ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } ، أما النداء السّادس فقد جاء عامًّا للناس كلّهم ، ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) ، ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " إذا سمعتَ الله عز وجل  يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فأرعها سمعك ، فإنما هو أمر تؤَمر به ، أو نهي تُنهَى عنه ، أو خبر تخبَر به " .

وأول هذه النداءات : هو قوله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، يعني : لا تتسرَّعوا في الحكم والقول والفتوى قبل أن تعلموا وتسمعوا ما قال الله ورسوله ، ومعنى ذلك أنّ ما قال الله ورسوله مُقدَّمٌ على قول كلِّ أحد ، فلا يجوز لأحدٍ أنْ يقول وأنْ يعارض حكم الله وحكم رسوله برأي فلان أو رأي فلان ، فالحكم لله ورسوله ، ولا قول لأحدٍ مع قول الله ورسوله ، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه في معنى الآية : ( لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة ) ، وقال مجاهد : " لا تفتاتوا على رسول الله  بشيء حتى يقضيَه الله على لسانه " ، وقال الضحاك : " لا تقضوا أمرًا دون الله ورسوله من شرائع دينكم " . وهذا منهج في التلقّي والتنفيذ ، وأصل من أصول التشريع . فالمؤمن مطالب بعدم تقديم رأيه وهواه على أوامر الله ورسوله في الكتاب والسنة .

النداء الثاني : قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) ، في هذه الآية بيان الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مخاطبته ، بأن لا يرفعْ المخاطِبُ له صوتَه ولا يجهرْ له بالقول ، بل يغضُّ صوتَه ويخاطبُه بأدبٍ ولين وتعظيم وإجلال ، فلا يكون الرسولُ في مخاطبته كأحدهم ، بل يُمَيِّزوه في خطابهم كما مَيَّزه الله عن غيره في وجوب الإيمان به ومحبته واتباعه وتوقيره . والتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته يكون في احترام شريعته وعدم تقديم العقل عليها ، والاعتزاز بها والعمل بموجبها والدعوة لها . وحذر الله من عدم الالتزام بذلك الأدب مع نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأنه يُخشى على من لم يتأدب بذلك حبوطُ عمله وهو لا يشعر ، وفي ذلك بيانُ أن الأدبَ مع النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب حصول الثواب وقبول الأعمال . قال ابن القيم رحمه الله : " فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سببا لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياستهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه أليس هذا أولى أن يكون محبطا لأعمالهم " . ألا فاتقوا الله عباد الله وتأدبوا مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تفوزوا بالثواب وقبول الأعمال . باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم ، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم . أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَأسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَللْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ ، فاستغفروه إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم .

 

الخطبة الثانية

الحمد لله عَظُمَ شأنه ودام سلطانه ، أحمده سبحانه وأشكره ، عمّ فضله وجَزَلَ عطاؤه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله ، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد :-

فالنداء الثالث من النداءات في سورة الحجرات ، قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) أي : تثبتوا في الأخبار ؛ فإذا أتى فاسق بخبرٍ فليتثبتوا من خبره ؛ ولا يصدقوه مباشرة ؛ فلربما حُكِم بموجب ذلك الخبر الكاذب ؛ فيقع التعدي والظلم . فإن الشيطان وأوليائه دائما يسعون في إيقاع الفتنة بين المؤمنين ، وتمزيق صفهم بنقل الأخبار الكاذبة والملفقة ، فإذا كان الناقل فاسقا ، وجب التثبت والتبين والبحث عن الحقيقة في الأمر ، وعدم العجلة في اتخاذ القرا ر فيحصل الندم .

النداء الرابع : قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ، السخرية هي التنقُّص والاستهزاء ، والاحتقار والاستصغار ، ولعلَّ هذا الذي سخرت منه أو احتقرته خيرٌ منك عند الله ، والخطاب للرجال والنساء ، واللمز : هو ذكر للعيوب والمساوئ بإخفاء الكلام مع تحريك الشفة أو اللسان أو اليد ؛ ممُّا يُفْهَم منه الذم والعيب . أما النبز : فهو مناداة الإنسان أخاه بألقاب يكرهها أو فيها احتقاراً له ، أو مثيرة للسخرية . وسواء أكانت السخرية واللمز والنبز بين الأفراد أو بين الأقوام والجماعات . يقول الإمام الطبري في تفسيره : " التنابز بالألقاب : هو دعاءُ المرء صاحبَه بما يكرهه من اسمٍ أو صفة ، وعمَّ اللهُ بنهيه ذلك ، ولم يخصص به بعضَ الألقاب دون بعض ؛ فغير جائزٍ لأحدٍ من المسلمين أن ينبز أخاه باسمٍ يكرهه أو صفةٍ يكرهها " .

النداء الخامس : قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ) ، هذا فيه نهي عن الظنون الكاذبة التي لا أصل لها ولا مستند لها ، سوء الظنّ بالمسلمين ، وأكثر الظنِّ من وساوس الشيطان ؛ ليفسد القلوب ويفسد العلاقات بين الأحبَّة والأقارب وبين المسلمين . وسوء الظن يجر إلى التجسُّس وتتبُّع العورات ، يتجسس ويفتش ويسأل عمّا لا شأن له به ، " مِن حسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه " ، فلا يجوز للمسلم أن يتجسس لا بسمعه ولا ببصره ولا بسؤاله ما الذي صار ؟ وماذا فعل فلان ؟ . والتجسس يجر إلى الغيبة ؛ وهي : ( ذكرُكَ أخاكَ بما يكرهُ ) ، وشبهت الغيبة بأكل لحم المؤمن ميتا ، وهذا غاية البشاعة ، فكما أن الميت لا يحس بأكل الآكلين ، كذلك الغائب لا يسمع ما يقوله فيه المغتاب .

النداء السادس : قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) ، فيه بيان أنُّ الجميع كلُّهم مخلوقون مِن أصل واحد من ذكرٍ وأنثى ، وأنُّ الغاية من جعلهم شعوبا وقبائل ، ليست للتناحر والخصام ، إنما هي للتعارف والوئام ، ولا فضل لأحدٍ على أحدٍ إلا بالتقوى . ألا فاتقوا الله عباد الله ، وتدبَّروا آيات كتابِه ، وطبِّقوها في حياتكم واقِعًا ملمُوسًا ؛ تُحقِّقوا خيرَي الدنيا والآخرة .. وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال : " إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان . اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين . اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم وفق إمامنا وولي عهده لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم ، اللهم أصلح لهم بطانتهم ، واحفظهم بحفظك يا ذا الجلال والإكرام . اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قولٍ وعمل ، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ، اللهم اشرح صدورنا بالإيمان ، ونوِّر قلوبنا بالسنة والقرآن . اللهم آتِ نفوسَنا تقواها ، وزكِّها أنت خيرُ مَن زكَّاها ، أنت وليُّها ومولاها ، اللهم أمّن حدودنا واحفظ جنودنا . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين . { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } . وأقم الصلاة .

 

( خطبة الجمعة 20/5/1446هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل                          للتواصل جوال و واتساب /  0504750883  )

المرفقات

1732299090_النداءات في سورة الحجرات.docx

المشاهدات 470 | التعليقات 0