الميثاق الغليظ.
عاصم بن محمد الغامدي
1438/02/25 - 2016/11/25 10:52AM
[align=justify]الميثاق الغليظ.
الخطبة الأولى:
الحمد لله أحقِّ من شكر، وأولى من حمد، وأكرمِ من تفضل وأرحمِ من قُصد، وصلى الله وسلم على نبيه محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فاتقوه وراقبوه، وتوبوا إليه ولا تعصوه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
أَنِسَ الناسُ بالغِيَرْ ... وتَعَامَوْا عَنِ العِبَرْ
قُلْ لِلَاهٍ بِيَوْمِهِ ... فِي غَدٍ تَعْرِفُ الخبَرْ
أيها المسلمون:
عُنِيَ دين الإسلام ببناء قوامِ المجتمع، لتسير عجلة الحياة في طريقها الصحيح، وقد لوحظ في الفترة الأخيرة، كثرة التأثر بالمؤثرات العصرية، كوسائل الاتصال الإلكترونية، وبرامج الإعلام المختلفة، فتغيرت كثير من المفاهيم الصحيحة، وغابت عديد من المظاهر الجميلة.
وقد عرف أهل الضلال، وأعداء الإسلام أهمية المجتمع في المحافظة على الدين، فما فتئوا يوجهون له الطعنات، ويركزون عليه الأضواء، لتدميره أو تغييره.
وأهم مكونات المجتمع الأسرة، التي اهتمَّ بها الإسلام اهتمامًا عظيمًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ، وَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ، وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ». [رواه ابن ماجه وحسنه الألباني].
وقال عليه الصلاة والسلام: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ". [متفق عليه].
وسمى الله تعالى عقد الزواج ميثاقًا غليظًا، ليحترم الأزواج قدسيته. {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}.
وقُوَّة الأسرة وضَعْفُها من قوة المجتمع وضعفه، وبصلاحها تصلح الأوضاع، وبفسادها تفسد الأخلاق والطباع، ركناها وقائداها زوج وزوجة، يجمع بينهما ولاءٌ ووفاء، ومودةٌ وصفاء، وتعاطفٌ وتلاطف، ووفاقٌ واتفاق، وآدابٌ وحسنُ أخلاق، تحت سقف واحد في عيشةٍ هنية، ومعاشرة مرضية.
أيها المسلمون:
نشرت وزارة العدل في المملكة إحصائية مؤلمة عن عدد قضايا الطلاق في العام الماضي، وتبين أن أكثرها للأسف في منطقة مكة المكرمة، وتلك الأرقام المهولة تستدعي من العقلاء الاستنفار لحل المشكلة والوقوف على أسبابها، فالمحافظة على الأسرة ينبغي أن يكون هدفًا نسعى إليه، ونصبو إلى تحقيقه.
ومع أن الطلاق من شريعة الله تعالى، وهو أحد دلائل حكمته سبحانه، ولا شك أن جزءًا من نسب الطلاق المذكورة، له أسبابٌ وجيهةٌ، إلا أن عددًا ليس بالقليل لم يسلم من نفخ الشيطان، وقلة الخبرة، وضيق الأفق، عند الزوج والزوجة.
وأول خطوات الحل، الاعتراف بالمشكلة، وأنها موجودة وليست خيالًا، والتنبه إلى أنَّ نجاح الأسرة، مبني على التفاهم، ولا علاقة له بالغنى والفقر، أو القصور الفارهة والأموال الضخمة، قال الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
وخير منهج أسري، هو منهج البيت النبوي، بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فمن أهم الأمور، تقبل الزوج والزوجة لما يحصل من اختلاف الأفكار والطباع في حدود المباح، وعدم التنبه لذلك يولد الكراهية، التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها، بقوله: «لَا يَفْرَكْ -أي: لا يكره- مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ». [رواه مسلم].
وهذا الأمر داخل في العشرة بالمعروف، التي أُمر بها الزوجان، فقال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ}، وقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.
ومن حسن عشرة المصطفى صلى الله عليه وسلم لزوجاته، ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما، بقوله: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ، وَجَلَسَ النَّاسُ حَوْلَهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ امْرَأَةً امْرَأَةً، يُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ، وَيَدْعُو لَهُنَّ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ إِحْدَاهُنَّ جَلَسَ عِنْدَهَا". [رواه الطبراني في المعجم الأوسط].
وفي آخر النهار له جلسة أخرى معهن، وقل يوم إلا وهو يطوف عليهنَّ كما أخبرت عائشة رضي الله عنها. [الجلوس آخر النهار رواه البخاري ومسلم، والطواف كل يوم رواه أبو داود وصححه الألباني].
هذا وله صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة زوجة، وإنما كان يفعل ذلك تأنيسًا لهن، وتطييبًا لقلوبهنَّ.
ومع كثرة أعماله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه كان يسهر مع زوجاته، ويستمع منهن طرائف الأخبار، فقد حدثته عائشة رضي الله عنها بحديث أم زرع الطويل، وفيه أن إحدى عشرة امرأةً تعاهدن في ليلة على أنْ لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئًا، فوصفت كل واحدة منهن زوجها، فكانت أحسنهن وصفًا لزوجها وتعدادًا لنعمه عليها زوجة أبي زرع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: "كُنْتُ لَكِ كَأبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ" [أخرجه البخاري ومسلم].
فأين هذا ممن شغلته تجارته وأعماله، أو أصحابه وأسفاره، حتى هجر زوجته وأهله من حيث لا يشعر، يخرج من عندهم في الصباح، ولا يعود إلا في وقت متأخر من الليل، ليهوي على فراشه جثة هامدة؟ بل إن بعض الناس يقضي مع أصحابه أكثر مما يقضيه مع أهله وأولاده.
وكان عليه الصلاة والسلام وفيًا لزوجاته، حافظًا لحقهن، تقول عائشة رضي الله عنها: "مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ، فَيَقُولُ: «إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ». [رواه البخاري ومسلم].
وكان عليه الصلاة والسلام حريصًا على مشاعر زوجاته، فلما حَجَّ بِنِسَائِهِ، وبَرَكَ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ جَمَلُهَا، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِهِنَّ ظَهْرًا، بَكَتْ. وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ دُمُوعَهَا بِيَدِهِ، وَجَعَلَتْ تَزْدَادُ بُكَاءً وَهُوَ يَنْهَاهَا، فَلَمَّا أَكْثَرَتْ، أَمَرَ النَّاسَ بِالنُّزُولِ، فَنَزَلُوا، وَلَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يَنْزِلَ. [رواه أحمد، وصححه الألباني]. وأعلن حبَّه لعائشة، وحبس جيش المسلمين ليبحث عن عقدها، حتى جاء أبوها رضي الله عنه وجعل يطعن في خاصرتها يعاتبها.
أيها المسلمون:
لم يكن الانسجام في البيت النبوي بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فقط، بل كذلك كانت زوجاته، في تقدير الحياة الزوجية، ومعرفة قدر زوجهن صلى الله عليه وسلم، فلما شعرن بضيقه عليه الصلاة والسلام، لما طلبن من النفقة ما لا يجده، قلن رضي الله عنهن: "وَاللهِ لَا نَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، ثم نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}، فَبَدَأَ صلى الله عليه وسلم بِعَائِشَةَ، فَقَالَ: "إِنِّي ذاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، مَا أُحِبُّ أَنْ تَعْجَلِي فِيهِ، حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ"، ولمَّا تَلَا عَلَيْهَا الآية، قَالَتْ عَائِشَةُ: أَفِيكَ أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ بَلْ أَخْتَارُ اللهَ وَرَسُولَهُ. [رواه أحمدُ وهو حديث صحيح].
عباد الله:
القصد مما سبق الإشارة لا الحصر، وحسبك من السوار ما أحاط بالمعصم، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد أيها المسلمون:
فإن حسن العشرة لا يعني انعدام المشكلات، ووجودَ الخلاف ليس خطرًا، بل الخطر انعدام الحكمة والإنصاف، حتى يتفاقم البلاء، ويحدث الهجر والطلاق.
ومع أن بيت النبوة هو خير البيوت وأزكاها، إلا أنه مرَّ بظروف عصيبة كحادثة الإفك، التي مكث الناس فيها شهرًا، لا يعلمون ما تنتهي إليه الأمور، ثم نزلت البراءة في كتاب الله تعالى.
وذكرت حفصة رضي الله عنها أن الواحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ربما اختلفت معه حتى يمرَّ كلُّ اليوم ولا تكلمه، بل هجر النبي صلى الله عليه وسلم زوجاته مرة شهرًا كاملاً.
وفي هذا عزاء للمؤمنين، وأسوة حسنة، فإذا كان بيت النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو من المشكلات، وهو خير البشر، وأعقل الناس، وأتقى الخلق لله، وزوجاته أمهات المؤمنين، فلا ضير أن يحصل الخلاف في بقية البيوت.
وكما كان صدره عليه الصلاة والسلام رحبًا، وخلقه سمحًا، وطبعه ليّنًا، فعلى المؤمن التأسي به، وسلوك منهجه، وتعلم طريقته، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}.
فتمسكوا رحمكم الله بسنته، وسيروا على منهجه وطريقته، وصلوا وسلموا على خير الورى طرًا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.
فاللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أصحاب السنة المتبعة، أبي بكر، وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والصحابة، وعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين.[/align]
الخطبة الأولى:
الحمد لله أحقِّ من شكر، وأولى من حمد، وأكرمِ من تفضل وأرحمِ من قُصد، وصلى الله وسلم على نبيه محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فاتقوه وراقبوه، وتوبوا إليه ولا تعصوه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
أَنِسَ الناسُ بالغِيَرْ ... وتَعَامَوْا عَنِ العِبَرْ
قُلْ لِلَاهٍ بِيَوْمِهِ ... فِي غَدٍ تَعْرِفُ الخبَرْ
أيها المسلمون:
عُنِيَ دين الإسلام ببناء قوامِ المجتمع، لتسير عجلة الحياة في طريقها الصحيح، وقد لوحظ في الفترة الأخيرة، كثرة التأثر بالمؤثرات العصرية، كوسائل الاتصال الإلكترونية، وبرامج الإعلام المختلفة، فتغيرت كثير من المفاهيم الصحيحة، وغابت عديد من المظاهر الجميلة.
وقد عرف أهل الضلال، وأعداء الإسلام أهمية المجتمع في المحافظة على الدين، فما فتئوا يوجهون له الطعنات، ويركزون عليه الأضواء، لتدميره أو تغييره.
وأهم مكونات المجتمع الأسرة، التي اهتمَّ بها الإسلام اهتمامًا عظيمًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ، وَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ، وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ». [رواه ابن ماجه وحسنه الألباني].
وقال عليه الصلاة والسلام: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ". [متفق عليه].
وسمى الله تعالى عقد الزواج ميثاقًا غليظًا، ليحترم الأزواج قدسيته. {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}.
وقُوَّة الأسرة وضَعْفُها من قوة المجتمع وضعفه، وبصلاحها تصلح الأوضاع، وبفسادها تفسد الأخلاق والطباع، ركناها وقائداها زوج وزوجة، يجمع بينهما ولاءٌ ووفاء، ومودةٌ وصفاء، وتعاطفٌ وتلاطف، ووفاقٌ واتفاق، وآدابٌ وحسنُ أخلاق، تحت سقف واحد في عيشةٍ هنية، ومعاشرة مرضية.
أيها المسلمون:
نشرت وزارة العدل في المملكة إحصائية مؤلمة عن عدد قضايا الطلاق في العام الماضي، وتبين أن أكثرها للأسف في منطقة مكة المكرمة، وتلك الأرقام المهولة تستدعي من العقلاء الاستنفار لحل المشكلة والوقوف على أسبابها، فالمحافظة على الأسرة ينبغي أن يكون هدفًا نسعى إليه، ونصبو إلى تحقيقه.
ومع أن الطلاق من شريعة الله تعالى، وهو أحد دلائل حكمته سبحانه، ولا شك أن جزءًا من نسب الطلاق المذكورة، له أسبابٌ وجيهةٌ، إلا أن عددًا ليس بالقليل لم يسلم من نفخ الشيطان، وقلة الخبرة، وضيق الأفق، عند الزوج والزوجة.
وأول خطوات الحل، الاعتراف بالمشكلة، وأنها موجودة وليست خيالًا، والتنبه إلى أنَّ نجاح الأسرة، مبني على التفاهم، ولا علاقة له بالغنى والفقر، أو القصور الفارهة والأموال الضخمة، قال الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
وخير منهج أسري، هو منهج البيت النبوي، بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فمن أهم الأمور، تقبل الزوج والزوجة لما يحصل من اختلاف الأفكار والطباع في حدود المباح، وعدم التنبه لذلك يولد الكراهية، التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها، بقوله: «لَا يَفْرَكْ -أي: لا يكره- مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ». [رواه مسلم].
وهذا الأمر داخل في العشرة بالمعروف، التي أُمر بها الزوجان، فقال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ}، وقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.
ومن حسن عشرة المصطفى صلى الله عليه وسلم لزوجاته، ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما، بقوله: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ، وَجَلَسَ النَّاسُ حَوْلَهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ امْرَأَةً امْرَأَةً، يُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ، وَيَدْعُو لَهُنَّ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ إِحْدَاهُنَّ جَلَسَ عِنْدَهَا". [رواه الطبراني في المعجم الأوسط].
وفي آخر النهار له جلسة أخرى معهن، وقل يوم إلا وهو يطوف عليهنَّ كما أخبرت عائشة رضي الله عنها. [الجلوس آخر النهار رواه البخاري ومسلم، والطواف كل يوم رواه أبو داود وصححه الألباني].
هذا وله صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة زوجة، وإنما كان يفعل ذلك تأنيسًا لهن، وتطييبًا لقلوبهنَّ.
ومع كثرة أعماله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه كان يسهر مع زوجاته، ويستمع منهن طرائف الأخبار، فقد حدثته عائشة رضي الله عنها بحديث أم زرع الطويل، وفيه أن إحدى عشرة امرأةً تعاهدن في ليلة على أنْ لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئًا، فوصفت كل واحدة منهن زوجها، فكانت أحسنهن وصفًا لزوجها وتعدادًا لنعمه عليها زوجة أبي زرع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: "كُنْتُ لَكِ كَأبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ" [أخرجه البخاري ومسلم].
فأين هذا ممن شغلته تجارته وأعماله، أو أصحابه وأسفاره، حتى هجر زوجته وأهله من حيث لا يشعر، يخرج من عندهم في الصباح، ولا يعود إلا في وقت متأخر من الليل، ليهوي على فراشه جثة هامدة؟ بل إن بعض الناس يقضي مع أصحابه أكثر مما يقضيه مع أهله وأولاده.
وكان عليه الصلاة والسلام وفيًا لزوجاته، حافظًا لحقهن، تقول عائشة رضي الله عنها: "مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ، فَيَقُولُ: «إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ». [رواه البخاري ومسلم].
وكان عليه الصلاة والسلام حريصًا على مشاعر زوجاته، فلما حَجَّ بِنِسَائِهِ، وبَرَكَ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ جَمَلُهَا، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِهِنَّ ظَهْرًا، بَكَتْ. وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ دُمُوعَهَا بِيَدِهِ، وَجَعَلَتْ تَزْدَادُ بُكَاءً وَهُوَ يَنْهَاهَا، فَلَمَّا أَكْثَرَتْ، أَمَرَ النَّاسَ بِالنُّزُولِ، فَنَزَلُوا، وَلَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يَنْزِلَ. [رواه أحمد، وصححه الألباني]. وأعلن حبَّه لعائشة، وحبس جيش المسلمين ليبحث عن عقدها، حتى جاء أبوها رضي الله عنه وجعل يطعن في خاصرتها يعاتبها.
أيها المسلمون:
لم يكن الانسجام في البيت النبوي بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فقط، بل كذلك كانت زوجاته، في تقدير الحياة الزوجية، ومعرفة قدر زوجهن صلى الله عليه وسلم، فلما شعرن بضيقه عليه الصلاة والسلام، لما طلبن من النفقة ما لا يجده، قلن رضي الله عنهن: "وَاللهِ لَا نَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، ثم نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}، فَبَدَأَ صلى الله عليه وسلم بِعَائِشَةَ، فَقَالَ: "إِنِّي ذاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، مَا أُحِبُّ أَنْ تَعْجَلِي فِيهِ، حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ"، ولمَّا تَلَا عَلَيْهَا الآية، قَالَتْ عَائِشَةُ: أَفِيكَ أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ بَلْ أَخْتَارُ اللهَ وَرَسُولَهُ. [رواه أحمدُ وهو حديث صحيح].
عباد الله:
القصد مما سبق الإشارة لا الحصر، وحسبك من السوار ما أحاط بالمعصم، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد أيها المسلمون:
فإن حسن العشرة لا يعني انعدام المشكلات، ووجودَ الخلاف ليس خطرًا، بل الخطر انعدام الحكمة والإنصاف، حتى يتفاقم البلاء، ويحدث الهجر والطلاق.
ومع أن بيت النبوة هو خير البيوت وأزكاها، إلا أنه مرَّ بظروف عصيبة كحادثة الإفك، التي مكث الناس فيها شهرًا، لا يعلمون ما تنتهي إليه الأمور، ثم نزلت البراءة في كتاب الله تعالى.
وذكرت حفصة رضي الله عنها أن الواحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ربما اختلفت معه حتى يمرَّ كلُّ اليوم ولا تكلمه، بل هجر النبي صلى الله عليه وسلم زوجاته مرة شهرًا كاملاً.
وفي هذا عزاء للمؤمنين، وأسوة حسنة، فإذا كان بيت النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو من المشكلات، وهو خير البشر، وأعقل الناس، وأتقى الخلق لله، وزوجاته أمهات المؤمنين، فلا ضير أن يحصل الخلاف في بقية البيوت.
وكما كان صدره عليه الصلاة والسلام رحبًا، وخلقه سمحًا، وطبعه ليّنًا، فعلى المؤمن التأسي به، وسلوك منهجه، وتعلم طريقته، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}.
فتمسكوا رحمكم الله بسنته، وسيروا على منهجه وطريقته، وصلوا وسلموا على خير الورى طرًا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.
فاللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أصحاب السنة المتبعة، أبي بكر، وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والصحابة، وعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين.[/align]
المرفقات
1203.zip
المشاهدات 4783 | التعليقات 2
زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية;33922 wrote:
أجدت وأفدت وأبنت شيخ عاصم في خطبك الوافية الكافية العاصمة فكلماته عصمة للميثاق الغليظ من الانكسار أو الانهيار .. فلله درك ودر أبيك ..
وكما ذكرت فضيلتك أن من درس حياة النبي -عليه الصلاة والسلام- الأسرية عالج كثيرا من مشكلاته فذلك أفضل علاج وأنجح دواء... وصدق بأبي هو وأمي (خير الهدي هدي محمد) فيا ليتنا نجعل منه القدوة الحسنة والأسوة المثلى في كل شؤوننا ..
وكما ذكرت فضيلتك أن من درس حياة النبي -عليه الصلاة والسلام- الأسرية عالج كثيرا من مشكلاته فذلك أفضل علاج وأنجح دواء... وصدق بأبي هو وأمي (خير الهدي هدي محمد) فيا ليتنا نجعل منه القدوة الحسنة والأسوة المثلى في كل شؤوننا ..
[align=justify]جزاك الله خيرًا، وتقبل منا ومنكم، وجعل عملنا شاهدًا لنا لا علينا.[/align]
زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية
أجدت وأفدت وأبنت شيخ عاصم في خطبك الوافية الكافية العاصمة فكلماته عصمة للميثاق الغليظ من الانكسار أو الانهيار .. فلله درك ودر أبيك ..
وكما ذكرت فضيلتك أن من درس حياة النبي -عليه الصلاة والسلام- الأسرية عالج كثيرا من مشكلاته فذلك أفضل علاج وأنجح دواء... وصدق بأبي هو وأمي (خير الهدي هدي محمد) فيا ليتنا نجعل منه القدوة الحسنة والأسوة المثلى في كل شؤوننا ..
تعديل التعليق