المنظر المبهِجِ
سعود المغيص
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾.
عباد الله : مَرِضَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَمَ أيَّامًا، فَبينَمَا المُسْلِمونَ في صَلاةِ الفَجْرِ مِنْ يَومِ الاثنينِ، وأَبُو بَكْرٍ-رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ-يُصلِّي بِهِم، وَهُم صُفوفٌ في الصَّلاةِ، كَشَفَ النبيُّ- صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - سِتْرَ الحُجْرَةِ ، وهو قَائِمٌ كَأنَّ وجْهَهُ ورَقَةُ مُصْحَفٍ ، فنَظَرَ إليهم فتبسَّمَ يَضْحَكُ، فَهَمُّوا أنْ يَفْتَتِنوا مِنَ الفَرَحِ برُؤْيَةِ النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ-، فَنَكَصَ – رجعَ - أبو بَكْرٍ علَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وظَنَّ أنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - خَارِجٌ إلى الصَّلَاةِ ، فأشارَ إليهم رَسولُ اللَّهِ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ-بيدِهِ أن أتمُّوا صَلاتَكُم ، ثمَّ دَخلَ الحُجرةَ وأَرخى السِّترَ ، قالَ أَنسُ بنُ مالِكٍ-رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -: "فتُوُفِّيَ رَسولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في ذلِكَ اليومِ".
فهَلْ عَلِمْتُمْ سِرَّ تَبَسُّمِ الرسولِ - صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّم-وسَعَادَتِهِ - بأبِي هو وأُمِّي - في آخِرِ لَحَظَاتِ حَيَاتِهِ ؟
إنَّهُ ذَلِكَ المَنْظَرُ الـمُبْهِجُ - الـمُفْرِحُ - وَهو يَرى المُسْلِمينَ مُجْتَمِعينَ صُفُوفًا فِي صَلاةِ الجَمَاعةِ ، فِي بَيْتٍ مِنْ بُيوتِ اللهِ-تَعَالى-، قَدْ أَجابُوا دَاعيَ اللهِ ، وأَقَامُوا شَرِيعَةَ اللهِ ، وكَأَنَّ نَظْرةَ وَداعِه تَقولُ لجَمِيعِ المُسلِمينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ ومَكَانٍ : لا خَوفٌ عَلِيكُم ما دُمْتُمْ مُحَافِظِينَ عَلَى صَلاةِ الجَمَاعَةِ في بُيُوتِ اللهِ -تَعالى-.
إنَّها صَلاةُ الجَماعَةِ ، التي تَعَلَّقَ بِها قُلُوبُ الأتْقِياءُ ، ورَابَطَ فِي انْتِظَارِها الأوْلِيَاءُ ، وحَافَظَ عَلى إقَامَتِهَا الأوْفِيَاءُ ، فِي المَشِي لها : تُرْفَعُ الدَّرَجاتُ ، وتُكْتَبُ الحَسَناتُ ، وتُمْحى السَّيِّئاتُ ، ويُبشَّرُ المَشَّاؤونَ لها في الظُّلُمَاتِ بالنُّورِ التَّامِ يَومَ القِيامَةِ، ويُعِدُّ اللهُ – تَعالى - نُزُلًا وضِيَافَةً لِزوَّارِه فِي الجَنَّةِ ، كُلَمَا غَدَوْ أو رَاحُوا إلى المَسْجِدِ ، فَمَا بَالُكَ بِمَصيرِ عَبْدٍ يَومَ القِيامةِ ، قُد أُعِدَّتْ لَهُ الضِّيافةُ في الجَنَّةِ ، وَهيَ تَنْتَظِرُه ؟ وهَذا الذي عَلَّقَ قُلوبَ أهلِ الإيمانِ ، حَتى قَالَ سعيدُ ابنُ المُسَيِّبِ : "مَا فَاتَتني التَّكبيرةُ الأولى مُنذُ خَمسينَ سَنةٍ".
عباد الله : في المَسْجِدِ: ما تَزَالُ في صَلاةٍ ، ما دُمْتَ في وَقتِ الانْتِظَارِ، وتَدْعُو لَكَ بالمَغْفِرةِ والرَّحْمَةِ المَلائكَةُ الأبْرَارُ، هُنَاكَ المَوعِدُ مَع عَلَّامِ الغُيُوبِ، وهُنَاكَ حَياةُ القُلُوبِ، وهُنَاكَ مَغْفِرةُ الذُّنوبِ ، وهُنَاكَ الحَدُّ الفَاصِلُ بينَ النِّفَاقِ والإيمَانِ ، كَما قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "ولو أنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ في بُيُوتِكُمْ كما يُصَلِّي هذا المُتَخَلِّفُ في بَيْتِهِ ، لَتـَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ ، ولو تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ ، وَلقَدْ رَأَيْتُنَا وَما يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ ، وَلقَدْ كانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى به يُهَادَى بيْنَ الرَّجُلَيْنِ-يعتمدُ عليهما من شدةِ المرضَ- حتَّى يُقَامَ في الصَّفِّ"، وهَا هو عامِرُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ ابنِ الزُّبَيْرِ يَسْمَعُ المُؤَذِّنَ وَهُوَ يَـجُودُ بِنَفْسِهِ-في سكراتِ الموتِ-، فَقَالَ: "خُذُوا بِيَدِي-إلى المسجدِ-، فَقِيْلَ: إِنَّكَ عَلِيْلٌ - مريضٌ- ، قَالَ: أَسْمَعُ دَاعِيَ اللهِ، فَلاَ أُجِيْبُهُ ، فَأَخَذُوا بِيَدِهِ ، فَدَخَلَ مَعَ الإِمَامِ فِي المَغْرِبِ ، فَرَكَعَ رَكْعَةً ، ثُمَّ مَاتَ.
عباد الله : إنَّ اللهُ يَبْعَثُ مَلائكةً في اللَّيلِ والنَّهارِ يَحضرونَ الصَّلواتِ ، يَشهدونَ على مَنْ حَضَرَ ومَنْ فَاتَ؟ ويَجتَمِعونَ في صَلاةِ العَصِرِ وصَلاةِ الصُّبْحِ ، "ثُمَّ يَعْرُجُ – يَصْعَدُ - الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ ، فَيَسْأَلُهُمْ – ربُهم - وهو أعْلَمُ بهِمْ : كيفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فيَقولونَ: تَرَكْنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ ، وأَتَيْنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ "، فَهلْ اسْمُكَ مَرْفُوعٌ في سِجِّلاتِهم؟
وقُلْ لبِلالِ العَزمِ مِنْ قَلبِ صَادقٍ
أَرِحْنَا بِها إنْ كُنْتَ حَـــــقًّا مُصَليًّا
أقول قولي هذا ..
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ :
أَمَا بَعْدُ عباد الله :
فقد وَصَفَ اللهُ - تَعالى - أهْلَ المَساجِدِ ، بأنَّه لا يُلهيهِم عن الصَّلاةِ شيءٌ ، فَهي عِندَهم كِتابٌ مَوقُوتٌ ، يَتـْرُكونَ ما بأَيدِهِم ويُجيبونَ لها النِّداءُ ، ولو كانوا في مَصْدَرِ رِزقِهم مِنْ بَيعٍ أو شِراءٍ، (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ*رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)
كَانَ إبراهيمُ بنُ مَيمونَ-رحمه اللهُ تعالى-يَعملُ في الصِّياغةِ وطَرْقِ الذَّهبِ والفِضةِ، وكَانَ إذا رَفعَ الـمِطْرَقَةَ فَسمِعَ النِّداءَ-الأذانَ-لم يَرُدَّهَا.
نَحْتَاجُ دَائمًا إلى مَن يُذَكِّرُنا بفَضلِ صَلاةِ الجَمَاعةِ والتَّبْكِيرِ إلى المَسَاجِدِ، خَاصَّةً مع كَثْرةِ المَشاغِلِ والمُلهياتِ والتَّوَتُّرِ المُتَصَاعِدِ، فرَسولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ-لَمَّا رَأى التَّأخيرَ في أَصْحَابِه، قَالَ لهم مُذَكِّرًا ومُـحَذِّرًا : "تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ ، فما يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ".
ولِذَلكَ فَقَدْ كَانُوا يَخافُونَ من التَّأخرِ عن الصِّلاةِ ، وكَانَ فَوَاتُ الصَّلاةِ مُصيبةً يُواسَوْنَ عَليهَا-يُعَزَوْنَ - ، قَالَ إبراهيمُ الوَاسِطيُّ - رحمَهُ اللهُ تعالى-: "رأيتُ أَبا الليثِ الخُراسَانيَّ-رحمَهُ اللهُ تعالى-ببلدةِ طَرَسُوسَ يُعَزَّى، قُلتُ: مَا شَأنْهُ؟ قَالوا: فَاتَتْهُ الصَّلاةُ في جَماعةٍ".
فإنَّا للهِ وإنَّا إليهِ رَاجِعُونَ، وأَحْسَنَ اللهُ عزاءَنا ، إنْ كَانَتْ قُلوبُنا تَعلَّقَتْ بكُلِّ مكانٍ ، إلا المَسجِدَ .
اللهم علمنا ماينفعنا وانفعنا ..
اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًا سخاءً رخاءً وسائرَ بلاد المسلمين.
اللهُمَّ اِحْمِ بلادَنا، وسائرَ بلادِ الإسلامِ مِنَ الفِتَنِ والمِحَن، مَا ظَهَرَ مِنهَا ومَا بَطَن. اللهُمَّ وَفِّقْ خَادِمَ الحَرَمَينِ الشَّريفينِ ووَلِيَّ عَهدِهِ لِمَا تُحِبُّ وتَرْضَى، وخُذْ بِهمَا للبِرِّ والتَّقْوَى، وأعنهما على ما فيهِ صلاحُ الإسلام والمسلمين.
اللهُمَّ احفَظْ جنودَنا المرابطين على الثُّغور، اللهُمَّ قَوِّ عزائمَهُم، وسَدِّدْ سهامَهُم، واكبِتْ أعداءَهُم، وتقبَّلْ شهيدَهُم، وعافِ جريحَهُم، وانصُرْهم على القَومِ الباغين، يا ربَّ العالمين.
اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الذي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا التي فيها مَعَاشُنَا، وأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا التي فيها مَعَادُنَا، واجْعَلِ الحَياةَ زِيَادَةً لَنَا في كُلِّ خَيْر، والمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.. اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدراراً ، برحمتك يا أرحم الراحمين.
(ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حَسَنةً وفي الآخِرَةِ حَسَنةً وقِنَا عذابَ النار)
سُبحانَ ربِّكَ ربِّ العِزَّةِ عمَّا يصفون ، وسلامٌ على المرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.