المفلحون

الْمُفْلِحُونَ
26/10/1435
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ، الرَّءُوفِ الرَّحِيمِ؛ اصْطَفَى مِنَ النَّاسِ رُسُلًا، وَجَعَلَ فِي الْبَشَرِ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا، وَجَعَلَ فِي الْمُؤْمِنِينَ عُصَاةً وَأَبْرَارًا، حِكْمَةً مِنْهُ وَاخْتِيَارًا: [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ] {القصص:68}.نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ تَفَرَّدَ بِالْخَلْقِ وَالْأَمْرِ؛ فَالْخَلْقُ خَلْقُهُ، وَالْمُلْكُ مُلْكُهُ، وَالْأَمْرُ أَمْرُهُ، وَجَمِيعُ الْخَلْقَ تَحْتَ قَهْرِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ؛ دَلَّنَا عَلَى طُرُقِ الْفَوْزِ وَالْفَلَاحِ، وَحَذَّرَنَا مِنْ طُرُقِ الْهَلَاكِ وَالْخُسْرَانِ، فَمَنِ اتَّبَعَهُ فَهُوَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، وَمَنْ عَصَاهُ كَانَ مِنَ الْخَاسِرِينَ: [فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] {الأعراف:157}. صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَالْزَمُوا الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ؛ فَإِنَّ عَاقِبَتَهُمَا أَمْنٌ فِي الدَّارَيْنِ، وَفَلَاحٌ فِي الْحَيَاتَيْنِ، وَاحْذَرُوا الْكُفْرَ وَالنِّفَاقَ وَالْمَعَاصِيَ؛ فَإِنَّ عَاقِبَتَهَا شَقَاءٌ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ: [وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ] {الأعراف:8-9}.
أَيُّهَا النَّاسُ: تَسْتَرْعِي انْتِبَاهَ قَارِئِ الْقُرْآنِ كَلِمَةُ الْفَلَاحِ وَأَوْصَافُ الْمُفْلِحِينَ؛ إِذْ هِيَ مَبْثُوثَةٌ فِي سُوَرِهِ وَآيَاتِهِ، دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ، مُحَرِّضَةٌ عَلَيْهِ، مُبَيِّنَةٌ طَرِيقَهُ، مُحَذِّرَةٌ مِنْ ضِدِّهِ.
والفَلَاحُ هُوَ: الظَّفَرُ وَإِدْرَاكُ الْبُغْيَةِ، وَهُوَ دُنْيَوِيٌّ وَأُخْرَوِيٌّ، فَالدُّنْيَوِيُّ: الظَّفَرُ بِجَاهِ الدُّنْيَا وَمَالِهَا وَعَافِيَتِهَا، وفَلَاحٌ أُخْرَوِيٌّ، وَهُوَ الْفَوْزُ بِرِضَا الرَّحْمَنِ سُبْحَانَهُ وَجَنَّتِهِ.
وَالْفَلَاحُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلَا فَلَاحَ بِلَا إِيمَانٍ، كَمَا أَنَّهُ لَا فَلَاحَ بِلَا عَمَلٍ صَالِحٍ. وَفِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِإِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِالْفَلَاحِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: [أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] {البقرة:5}.
وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]. وَالْخَيْرُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: [قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ] {المؤمنون:1}. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ جُمْلَةً مِنْ صِفَاتِهِمُ الَّتِي بِسَبَبِهَا أَفْلَحُوا، وَكُلُّ صِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ سَبَبٌ لِلْفَلَاحِ، وَهِيَ: الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا، وَالْإِعْرَاضُ عَنِ اللَّغْوِ، وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ، وَحِفْظُ الْفُرُوجِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَاتِ، وَالْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ.
وَمِنْ دَلَائِلِ فَلَاحِهِمْ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ أَوْصَافِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10- 11].
فَالصَّلَاةُ بَابٌ عَظِيمٌ لِلْفَلَاحِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ، وَهِيَ بَوَّابَةُ الْبُشْرَى بِالْفَلَاحِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. فَلَا عَجَبَ أَنْ يُنَادَى لِلصَّلَاةِ بِالْفَلَاحِ فَيَقُولُ الْمُؤَذِّنُ فِي النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ.
وَالتَّوْبَةُ طَرِيقُ الْفَلَاحِ؛ فَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَلْزَمَهَا اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى الَّلُه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَانَ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
وَالشَّهَادَتَانِ هُمَا كَلِمَةُ الْفَلَاحِ؛ لِأَنَّهُ يُدْخَلُ بِهِمَا فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدْ أَسَرَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَقِيلٍ، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الَّلُه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي مُسْلِمٌ، فقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوْ قُلْتَهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلَاحِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَجَعَلَ الْفَلَاحَ كُلَّهُ فِي الْإِسْلَامِ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُورُ فِي أَسْوَاقِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا».
وَفِي آيَةٍ قُرْآنِيَّةٍ جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ لِحُصُولِ الْفَلَاحِ: [فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ] {القصص:67}. وَعَسَى وَلَعَلَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِيجَابٌ وَتَحْقِيقٌ، أَيْ: إِنَّ الْفَلَاحَ وَاقِعٌ مُتَحَقِّقٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا.
وَالتَّقْوَى تَجْمَعُ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189]. وَجَاءَ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى لِنَيْلِ الْفَلَاحِ فِي الْقُرْآنِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ.
وَصَلَاحُ الْقَلْبِ، وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِلْفَلَاحِ: [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى] {الأعلى:14}. وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا] {الشمس:9}.
فَالْإِيمَانُ هُوَ الطَّرِيقُ الْأَسَاسُ لِلْفَلَاحِ، وَكُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ فَهُوَ طَرِيقٌ إِلَى الْفَلَاحِ، وَلَا يُقْبَلُ عَمَلٌ بِلَا إِيمَانٍ، وَجَمِيعُ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَمَلِ الْمُوَصِّلِ لِلْفَلَاحِ فَهُوَ لِلْحَثِّ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَالْعِنَايَةِ بِهِ، وَاجْتِنَابِ الْغَفْلَةِ عَنْهُ.
فَالْتِزَامُ الْحِسْبَةِ عَلَى النَّاسِ طَرِيقٌ إِلَى الْفَلَاحِ: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] {آل عمران:104}.
وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّفْسِ أَوِ الْمَالِ يُوَصِّلُ إِلَى الْفَلَاحِ: [لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] {التوبة:88}.
وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى سَبَبٌ لِلْفَلَاحِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] وَذِكْرُ نِعَمِهِ لِشُكْرِهَا أَيْضًا سَبَبٌ لِلْفَلَاحِ كَمَا قَالَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69].
وَالتَّحَاكُمُ إِلَى شَرِيعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَطَاعَتُهُ سُبْحَانَهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ صَلَّى الَّلُه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَبٌ لِلْفَلَاحِ: [إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] {النور:51}.
وَأَدَاءُ الْحُقُوقِ إِلَى أَهْلِهَا، مَنْ بَعُدَ مِنْهُمْ وَمَنْ قَرُبَ يُحَقِّقُ الْفَلَاحَ: [فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] {الرُّوم:38}.
وَمُوَالَاةُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمُعَادَاةُ أَعْدَائِهِ، وَبِنَاءُ الْوَلَاءِ وَالْبَرَاءِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ يَنْظِمُ صَاحِبَهُ فِي جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ حِزْبُ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُمُ الْمُفْلِحُونَ:[أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] {المجادلة:22}.
وَإيِثَارُ الْغَيْرِ عَلَى النَّفْسِ، وَالتَّخَلُّصُ مِنْ شُحِّ النَّفْسِ سَبَبٌ لِلْفَلَاحِ: [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] {الحشر:9}. وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: [وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] {التغابن:16}.
وَالْتِزَامُ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَدَمُ بَخْسِ شَيْءٍ مِنْهَا سَبَبٌ لِلْفَلَاحِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ أَعْرَابِيًّا شَرَائِعَ الإِسْلاَمِ، فقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ، لَا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا، وَلاَ أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالنَّقْصُ مِنْ طَبِيعَةِ الْبَشَرِ، فَجُعِلَتِ النَّوَافِلُ تَكْمِلَةً لِلْفَرَائِضِ؛ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ لِيُحَقِّقُوا الْفَلَاحَ.
وَكَفُّ الْيَدِ فِي الْفِتَنِ سَبَبٌ لِلْفَلَاحِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الدِّمَاءِ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؛ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، أَفْلَحَ مَنْ كَفَّ يَدَهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَلَمَّا ثَارَتِ الْفِتْنَةُ فِي الْعَهْدِ الْأُمَوِيِّ، وَاشْرَأَبَّتْ لَهَا أَعْنَاقُ النَّاسِ كَانَ مِمَّنْ بَقِيَ مِنَ الصَّحَابَةِ: الْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدٍ الْكِلَابِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَشَاوَرُوهُ لِلْخُرُوجِ فقَالَ: إِنْ تَقْعُدُوا تُفْلِحُوا وَتَرْشُدُوا، إِنْ تَقْعُدُوا تُفْلِحُوا وَتَرْشُدُوا، إِنْ تَقْعُدُوا تُفْلِحُوا وَتَرْشُدُوا، ثُمَّ سَاقَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى الَّلُه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَمْوَالِ.
وَالْقَنَاعَةُ سَبَبٌ لِلْفَلَاحِ؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ صَاحِبَهَا مِنَ الْوقُوعِ فِي الظُّلْمِ، وَالتَّطَاوُلِ عَلَى الْأَمْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ، وَالْهَلَاكُ بِسَبَبِ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي النَّاسِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَاجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ وَلَوْ هَوِيَتْهَا النُّفُوسُ طَرِيقٌ إِلَى الْفَلَاحِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَفْتَحَ لَنَا طُرُقَ الْفَلَاحِ، وَأَنْ يَهْدِيَنَا لِسُلُوكِهَا، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْمُفْلِحِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: ثَمَّةَ أَعْمَالٌ خَبِيثَةٌ تَنْفِي الْفَلَاحَ عَنْ فَاعِلِيهَا، وَصِفَاتٌ تَمْنَعُ أَصْحَابَهَا مِنَ الْفَلَاحِ، وَرَأْسُ ذَلِكَ الظُّلْمُ، وَأَعْظَمُ الظُّلْمِ الشِّرْكُ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 21] وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 17].
وَكَذَلِكَ ظُلْمُ الْبَشَرِ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى دِمَائِهِمْ أَوْ أَعْرَاضِهِمْ أَوْ أَمْوَالِهِمْ سَبَبٌ لِنَفْيِ الْفَلَاحِ كَمَا قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَاوَدَتْهُ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23].
وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِتَحْلِيلِ الْمُحَرَّمَاتِ، أَوْ تَحْرِيمِ الْمُبَاحَاتِ، أَوْ إِسْقَاطِ الْوَاجِبَاتِ، أَوْ تَبْدِيلِ الشَّرِيعَةِ؛ لِهَوَى النَّفْسِ أَوْ لِإِرْضَاءِ الْغَيْرِ سَبَبٌ كَبِيرٌ لِنَفْيِ الْفَلَاحِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].
وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ نَفْيُ الْفَلَاحِ عَنِ السَّحَرَةِ: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69]. وَجَاءَ فِي السُّنَّةِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى الَّلُه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
فَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَعْرِفَ أَسْبَابَ الْفَلَاحِ فَيَأْتِيَهَا، وَأَسْبَابَ عَدَمِ الْفَلَاحِ فَيَجْتَنِبَهَا؛ فَإِنَّهُ فَلَاحٌ أَبَدِيٌّ فِي نَعِيمٍ مُقِيمٍ لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ.
وَكُلَّمَا ثَقُلَتِ الْمَوَازِينُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَخَفَّتْ مِنَ الْعَمَلِ السَّيِّئِ تَأَكَّدَ حُصُولُ الْفَلَاحِ، وَكَانَ فَلَاحًا كَثِيرًا بِأَعْظَمَ مِمَّا فِي الْمَوَازِينِ مِنْ صَالِحِ الْعَمَلِ: [فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] {المؤمنون:102}.
وَالنَّفْسُ الْبَشَرِيَّةُ يُصِيبُهَا الْمَلَلُ مِنَ الْعَمَلِ، وَقَدْ تُزَيِّنُ لِصَاحِبِهَا سُوءَ الْعَمَلِ، فَمَنْ أَرَادَ الْفَلَاحَ سَايَسَهَا، فَإِنْ رَأَى فِيهَا إِقْبَالًا تَزَوَّدَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَإِنْ رَأَى فِيهَا إِدْبَارًا قَصَرَهَا عَلَى الْفَرَائِضِ وَشَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ حَتَّى لَا تَسْأَمَ وَتَتْرُكَ كُلَّ الْعَمَلِ، وَهَذَا مَا وَجَّهَنَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى الَّلُه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً، فَمَنْ كَانَتْ شِرَّتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَيَعْلَمُ الْمَرْءُ بِفَلَاحِهِ حَالَ نَزْعِ رُوحِهِ حِينَ تُبَشِّرُهُ الْمَلَائِكَةُ بِالْفَلَاحِ، وَحِينَ يُوَسَّدُ قَبْرَهُ فَيَرَى شَيْئًا مِنْ فَلَاحِهِ فِيهِ، وَحِينَ يُبْعَثُ وَيَرِدُ الْحَوْضَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَمَنْ وَرَدَ أَفْلَحَ».
وَقَدْ يَعْلَمُ الْمَرْءُ طَرِيقَ الْفَلَاحِ لَكِنْ يَرُدُّهُ عَنْهُ شَهَوَاتٌ حَاضِرَةٌ، فَيَتْرُكَ فَلَاحَهُ الْأَبَدِيَّ لِأَجْلِ هَذِهِ الشَّهَوَاتِ الْفَانِيَةِ، وَلْنَعْتَبِرْ فِي ذَلِكَ بِحَالِ هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عَلِمَ صِدْقَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ أَجْوِبَةِ أَبِي سُفْيَانَ لَهُ، وَكَادَ الْإِيمَانُ أَنْ يَدْخُلَ قَلْبَهُ، فَجَمَعَ وُزَرَاءَهُ وَكُبَرَاءَهُ وَقَالَ لَهُمْ: «يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الفَلاَحِ وَالرُّشْدِ، وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ، فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وَأَيِسَ مِنَ الإِيمَانِ، قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ، وَقَالَ: إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ، فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
فَاسْتَبْدَلَ هِرَقْلُ مُلْكَهُ الزَّائِلَ بِفَلَاحِهِ الْأَبَدِيِّ، وَقَدْ زَالَ مُلْكُهُ، ثُمَّ مَاتَ.. أَلَا تَظُنُّونَ أَنَّهُ خَسِرَ الْفَلَاحَ الْأَبَدِيَّ وَقَدْ عَلِمَ طَرِيقَهُ، وَأَنَّهُ نَادِمٌ عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ النَّدَمِ، وَمَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ الْآنَ أَوْ بَعْدَ الْآنِ.
إِنَّهَا عِبْرَةٌ فِيمَنْ عَرَفَ طَرِيقَ الْفَلَاحِ الْأَبَدِيِّ فَقَدَّمَ عَلَيْهِ لَعَاعَةً مِنَ الدُّنْيَا قَدْ فَارَقَهَا وَبَقِيَ لَهُ خُسْرَانُهُ الْأَبَدِيُّ.
وَمِثْلُهُ قَارُونُ: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص: 82].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات

المفلحون.doc

المفلحون.doc

الْمُفْلِحُونَ.doc

الْمُفْلِحُونَ.doc

المشاهدات 2924 | التعليقات 2

جزاك الله خيرا


شكر الله تعالى لك شيخ شبيب مرورك وتعليقك ونفع بك.