المفتونون بدنيا غيرهم

سامي بن محمد العمر
1445/12/29 - 2024/07/05 05:37AM

 المفتونون بدنيا غيرهم  

أما بعد: أسهلُ طريق في هذه الأيام للكدر والشقاء، وأسرعُ وسيلة لزوال السكينة والرضا، وأقربُ سبيل لتحصيل الألم والبلاء: أن ترفعَ رأسك ناظراً بعين الدنيا إلى ملذاتٍ لم يكتبها الله لك، ونعمٍ لم يسقها الله إليك. وأن تمدَّ عينيك إلى ما مُتِّع به غيرك، وتتطلعَ إلى أحوالٍ ابتلي بها سواك. وأن تقارنَ حياتك بحياة المترفين، وتنظرَ باستشراف إلى سلوكيات المتنعمين.

ومَن رضي بهذا المسلك الوضيع؛ فقد آذنَ لأرضِ حياته بالدمار، ولبنيان سعادته بالانهيار، وفتحَ أبوابه للندم والخسارة، وخيبة الأمل والمرارة.

قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "يا بُني لا تتبع بصرَك كل ما ترى في الناس، فإنه من يتبع بصره كل ما يرى في الناس، يَطُلْ تحزُّنُه ولا يُشْفَ غيظُه، ومَنْ لا يعرف نعمة اللَّه إلا في مطعمٍ أو مشربٍ فقد قلَّ علمُه، وحضر عذابُه"ا. ه([1]).

إن الذي يرفع رأسه أثناء مشيه: يقل تركيزه، ويعمى عن طريقه، وتؤلمه عنقه، ويفقد توازنه، ويتعرض للسقوط كل لحظة، ولا يصل بمجرد نظره إلى منزلة ما ينظر إليه؛ فلا هو الذي أمِنَ من الآفات، ولا هو الذي حقق الثروات. {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]

إن كثيراً من المُمتَّعين المترفين والمشاهيرِ المزيفين قد ابتَلَوا الخلق في هذه الأزمان بنشر رحلاتهم وسفرياتهم، ومشاربهم وأكلاتهم، وملابسهم وموضاتهم، ومساكنهم وأثاثهم، وتنزههم واستراحاتهم، وأظهروا جوانبَ السعادة من حياتهم، والسرور في أوقاتهم، والنعيمَ الذي يرفلون فيه، والرفاهَ الذي يتقلبون به - سواءً أكان ذلك حقاً وصدقاً أم كذباً وتزويراً؟ - فأمرهم إلى الله تعالى.

ولكن العتب كلَّ العتب على مَن ربط سعادته بسعادتهم، وقارن نفسه بهم، وتمنى أن يكون نسخةً مكررةً منهم، وأشغل نفسه باقتفاءِ آثارهم، ومتابعةِ مقاطعهم وأحوالهم.

ووجه العتب على أولئك: أن الطريق الذي يسلكونه يوجب الهم والغم، ويلحق الضرر النفسي والمادي بالفرد والأسرة، ويُحمِّل كثيراً من العوائل فوق طاقتها، ويؤخر أو يُعطل فيها المشاريع المهمة لكل أسرة: من امتلاك مسكن أو شراء مستلزمات ضرورية أو استثمار في مهنة أو تعليم، حين تضلهم أهواؤهم بأن يستدينوا لأجل سفرٍ وغثاء، ومظاهرَ جوفاء.

ويزداد الأمر سوءاً عندما تصل الحال بأولئك المنبهرين بدُنيا غيرهم إلى احتقارِ ما هم فيه من الحال، والغفلةِ عما عندهم من النعم الظاهرة والباطنة، والاعتراضِ على تقدير الله وحكمته! عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا - أي: تحقروا - نعمة الله عليكم»([2]).

قال عون بن عبد الله: كنت أجالس الأغنياء فلا أزال مغموماً، أرى ثوباً أحسن من ثوبي، ودابة أفْرَهَ من دابتي، فجالست الفقراء فاسترحت([3]).

لقد أخبرنا الله تعالى أنه جعل زهرة الحياة الدنيا لبعض الخلق فتنةً، ثم جعلهم فتنةً للمنبهرين بهم فقال تعالى {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون} [الفرقان: 20] أي: امتحنا بعضكم ببعض، وجعلنا الغني فتنة للفقير والفقير فتنة للغني، فهل تصبرون على ما ترون من هذه الحال الشديدة والابتلاء العظيم؟([4]). اللهم وفقنا لذلك يا أرحم الراحمين بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....  

الخطبة الثانية

أما بعد: فيا أيها الأزواج والزوجات، ويا أيها الأبناء والبنات المنبهرون بالمظاهر والمناظر، والمنجرفون خلف دنيا أناسٍ يصعدون على أكتافكم، ويزدادون خبالاً من متابعاتكم.. أفيقوا: قبل أن تُدمِّروا حياتكم، وتَهدموا بيوتكم، وتُفككوا أسركم، وتُشْقوا نفوسكم.

أفيقوا: فليس في أخذ الديون للتباهي سعادةٌ، ولا في طلب الطلاق من زوج غير مقتدر نعيمٌ وهناء، ولا في الإثقال على رب البيت إنجازٌ وغبطة.

أفيقوا: فإن الله قد فاوت بين خلقه فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والعقول والفهوم، فقال تعالى {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] فابحثوا عن رحمة الله في طاعته ومرضاته، والرضا بقدره وعطائه، فليست المآكل والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المزخرفة، والنساء المجملة إلا زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوس المغترين، وتأخذ إعجاباً بأبصار المعرضين، ثم تذهب سريعاً وتمضي جميعاً([5]).

وعلى المقتدر أن يأخذ من هذه الدنيا بقَدَر، ويدبر أمرَ نفقاته خوفَ أن يفتَقِر([6])، ويكتم أحوالَه عن الناسِ لئلا يصاب منهم بِشَرّ، ولئلا تَلحق بحياتهم فتنةٌ وضرر. والله حسبنا ونعم الوكيل على كل مَن قصد فتنة الناس، وتخريب بيوتهم، وتخبيب أزواجهم، وإضلال أولادهم، وتنكيد عيشهم، وزعزعة أمنهم وسكينتهم، وهو تعالى نعم المولى ونعم النصير.      

 

([1]) "الزهد" للإمام أحمد ص 110، الزهد لهناد بن السري (1/ 328)

([2]) مسلم (2963)، وعند البخاري (6490) ومسلم (2963) بلفظ: «إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه»

([3]) العزلة للخطابي (ص28).

([4]) انظر: تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (19/ 252)، فتح القدير للشوكاني (4/ 80).

([5]) انظر: تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 516)

([6]) صيد الخاطر ص498

المشاهدات 122 | التعليقات 0