المعجزة الخالدة
د. محمود بن أحمد الدوسري
1439/02/18 - 2017/11/07 11:43AM
المعجزة الخالدة
د. محمود بن أحمد الدوسري
27/5/1438
الحمد لله ... فضَّل الله تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وأكرمه بمعجزات(1) وآياتٍ كثيرة, تتناسب والمهمة التي أُرسل لها, فكونه صلى الله عليه وسلم سيِّدَ ولد آدم في الدنيا والآخرة, وخاتم النبيين والمبعوث رحمة للعالمين؛ فقد جاءت معجزاته متناسبة مع العظمة التي تميِّز بها عن سائر الخلق.
عباد الله .. ولا ريب أنَّ معجزة القرآن الكريم هي أمُّ المُعجزات وأهمُّها وأعظمُها على الإطلاق؛ من جهة تَواتُرِ أمر إعجازه, ومن جهة أنَّ الله تعالى تحدَّى به الإنسَ والجنَّ إلى يوم القيامة أن يأتوا بمثله, وتحدَّى الله تعالى العرب خاصة - أرباب البلاغة والفصاحة واللسان - أن يأتوا بمثل القرآن, أو بعشر سور مثله, أو حتى بسورة واحدة, فلم يستطيعوا وأُفحِموا؛ ولذا قال ابن تيمية - رحمه الله: (نَفْسُ نظمِ القرآن وأسلوبِه عجيبٌ بديع, ليس من جنس أساليب الكلام المعروفة, ولم يأتِ أحدٌ بنظير هذا الأسلوب؛ فإنه ليس من جنس الشِّعر, ولا الرَّجز, ولا الخطابة, ولا الرسائل, ولا نَظْمُه نَظْمُ شيءٍ من كلام الناس عربِهم وعجمِهم, ونفسُ فصاحة القرآن وبلاغته, هذا عجيب خارق للعادة, ليس له نظير في كلام جميع الخلق)(2). والسؤال هنا: ما الذي تتميِّز به معجزة القرآن عن معجزات الأنبياء؟
تميَّزت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم عن معجزات سائر الأنبياء والمرسلين - عليهم الصلاة والسلام - بأمور كثيرة, من أهمِّها:
1- أن معجزة القرآن تُتلى وتُقرأ؛ لذا مَنْ يتَّبعها أكثر من المعجزات الحسِّية ذات التأثير المؤقت, كمعجزة باقي الأنبياء التي انقضت وذهبت؛ لأنها لا تؤثر إلاَّ على مَنْ يُشاهدها في وقتها, ويؤيده:
أ- قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ [أي: كما أُنزِلَ على الأنبياء مِنْ قَبْلُ] قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ [وهو القادر على إرسالها إذا شاء أرْسَلَها] وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [أُنذِرُ أهلَ المعصية بالنار, وليس إنزالُ الآيات بِيَدِي] * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [هذا هو الجواب: أَوَلَمْ يكفهم من الآيات القرآن يُتلى عليهم] إِنَّ فِي ذَلِكَ [في إنزال القرآن] لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 50, 51]. فالقرآن الكريم قائم مقام معجزات الأنبياء السابقين, بل هو أبلغ منها؛ لأنه معجزة معنوية وليست حسِّية, فهو {يُتْلَى عَلَيْهِمْ}, وهو باقٍ إلى يوم القيامة.
ب- وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنَ الأََنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إلاَّ أُعْطِيَ ما مِثْلهُ آمَنَ عليه الْبَشَرُ, وَإِنَّمَا كَانَ الذي أُوتِيْتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إليَّ, فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يوم الْقِيَامَةِ)(3). قال ابن حجر - رحمه الله: (أي: أنَّ معجزتي التي تحدَّيتُ بها هو الوحيُ الذي أُنزل عليَّ وهو القرآن... والمراد أنَّ معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم, فلم يُشاهدها إلاَّ مَنْ حَضَرَها, ومعجزه القرآن مستمرة إلى يوم القيامة, وهو خارق للعادة في أسلوبِه وبَلاغتِه, وأخبارِه بالمُغيَّبات فلا يمرُّ عصر من الأعصار إلاَّ ويظهر فيه شيء مما أخبر به... ولأنَّ المعجزات الماضية كانت حسية تُشاهد بالأبصار؛ كناقة صالح, وعصا موسى. ومعجزة القرآن تُشاهد بالبصيرة, فيكون مَنْ يتَّبعه لأجلها أكثر؛ لأنَّ الذي يُشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مُشاهِدِه, والذي يُشاهد بعين العقل باقٍ, يُشاهده كلُّ مَنْ جاء بعد الأوَّلِ مُستمراً)(4).
ومما تتميَّز به معجزة القرآن عن معجزات الأنبياء:
2- أن معجزة القرآن باقيةٌ ومُستمِرَّةٌ إلى يوم القيامة؛ مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: ٩], بخلاف كتب الأنبياء السابقة فإنها لم تكن مُعجِزَةً, لذا وقعت فيها الأيدي الآثمة بالتحريف واندثرت.
وبقاء القرآن العظيم إلى يومنا هذا مَصُوناً عن التحريف, مع تَوَفُّرِ الدَّواعي على إبطاله وإفسادِه من أعظم المعجزات(5).
ومن نعمة الله تعالى على أُمَّة الإسلام أنْ حَفِظَ لها هذه المعجزة الخالدة "القرآن" لأنَّ الله سبحانه (نزَّلَه محفوظاً من الشياطين, وقد حَفِظَه في كلِّ وقت من الزيادة والنقصان, والتحريف والتبديل, بخلاف الكتب المُتقدِّمة, فإنه لم يتولَّ حِفْظَها, وإنما استحفَظَها الربانيين والأحبارَ فاختلفوا فيما بينهم بغياً, فوقع التحريف فيها)(6).
3- المعجزات السابقة هي فِعْلٌ من أفعال الله تعالى, وفِعْلُه تبارك وتعالى من الممكن أن ينتهي بعد أن يفعله الله سبحانه, فالبحر انشق لموسى - عليه السلام ثم عاد إلى طبيعته, والنار لم تحرق إبراهيم - عليه السلام, ولكنها عادت إلى خاصِّيَّتِها في الإحراق, ولكن معجزة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن هي صفة من صفات الله سبحانه, وهي كلامه أنزله على رسوله, وتكفل بحفظه(7).
4- المعجزة العقلية تتعدَّد مناهجُها وتختلف طُرقها في الإقناع, وفي الدَّلالة, فقد تكون أدلَّتها بيانية, أو غَيبية, أو عِلمية..., أمَّا المعجزات الحِسِّية فليس لها من ذلك نصيب. قال ابن تيمية - رحمه الله: (وكون القرآن معجزةً ليس هو من جهة فصاحته وبلاغته فقط، أو نَظْمِه وأسلوبه، أو إخباره بالغيب والمغيبات، ولا مِنْ صرف الدواعي والمعارضات، بل هو آيةٌ ومعجزة ظاهرة، ودلالةٌ باهرة, وحُجَّة قاهرة من وجوه متعددة؛ من جهة اللفظ, ومن جهة النَّظم, ومن جهة البلاغة في دلالة اللفظ على المعنى، ومن جهة معانيه التي أمر بها، ومعانيه التي أخبر بها عن الله تعالى, وأسمائه وصفاته, وملائكته وغير ذلك، ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الغيب الماضي، والغيب المستقبل، ومن جهة ما أخبر به عن المعاد، ومن جهة ما بيَّن فيه من الدلائل اليقينية والأقيسة العقلية التي هي الأمثال المضروبة)(8).
الخطبة الثانية
الحمد لله ... إخوتي الكرام .. وهنا ملحظ مهم: كل رسول كانت له معجزة وكتاب, فمعجزة موسى - عليه السلام - هي العصا, وكتابه التوراة, ومعجزة عيسى - عليه السلام - إحياء الموتى, وإبراء المرضى, وكتابه الإنجيل, لكن النبي صلى الله عليه وسلم معجزته هي عين كتابه, ليظلَّ الكتاب محروساً بالمعجزة, وتظل المعجزة محروسةً بالكتاب(9). ونستخلص ممَّا مضى عدة أمور(10):
1- أن القرآن العظيم معجزة باقية خالدة, مصدره من الله تعالى المُتَّصِف بجميع صفات الكمال والجلال, تكلَّم الله تعالى به حقيقة, وحَفِظَه من الزيادة والنقص والتحريف الواقع في الكتب السابقة.
2- رحمة الله تعالى بالبشرية كلها؛ إذ منحها هذا المنهج الرباني المعجز المحفوظ, ولم يتركها للنقص والهوى البشري.
3- كلما تطوَّرت علوم البشر؛ كلما أدركوا انسجام المعجزة القرآنية مع التقدم العلمي والتقني؛ لأنه كلام خالق البشر سبحانه وتعالى.
4- عظيم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربِّه الذي اصطفاه وأنزل عليه هذه المعجزة الخالدة إلى يوم الدِّين, وعظيم منزلة أُمَّته وارثة هذا الكتاب العظيم من دون الأُمم.
5- في حِفظ الله تعالى للمعجزة القرآنية خَتْمٌ للنبوات والرسالات؛ ولو كره الملحدون. وفيه أيضاً إثبات عالمية الرسالة المحمدية وبقائها إلى يوم الدِّين؛ ولو كره الكافرون. وفيه أيضاً هيمنة القرآن العظيم على جميع الكتب السابقة؛ ولو كره اليهود والنصارى.
أيها المسلمون .. ينبغي علينا أن نُعْنَى بالقرآن العظيم "هذه المعجزة الخالدة" تلاوةً, وحفظاً, وتدبُّراً, واستماعاً, واستشفاءً, وتعليماً ودعوةً, وتحاكماً إليه, وعملاً به.
الدعاء ...
ــــــــــ
(1) المعجزة: أصل المُعْجِزة في اللغة: مأخوذة من العَجْز, وهو زوال القدرة عن الإتيان بالشيء؛ من عملٍ, أو رأيٍ, أو تدبيرٍ, أو نحوه. واصطلاحاً: هي أمرٌ خارق للعادة, من تركٍ أو فعلٍ, مقرونٌ بالتَّحدِّي, مع عدم المُعارضة. انظر: مفردات القرآن, (ص 540)؛ بصائر ذوي التمييز, (1/70)؛ أعلام النبوة, للماوردي (ص 80).
(2) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح, (5/433).
(3) رواه البخاري, (4/1905), (ح 4696)؛ ومسلم, (1/134), (ح 152).
(4) فتح الباري, (9/6, 7).
(5) انظر: التفسير الكبير, (19/128).
(6) تفسير النسفي, (2/238).
(7) انظر: معجزة القرآن, محمد متولي الشعراوي (1/18).
(8) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح, (5/428, 429).
(9) انظر: العقيدة الإسلامية وأسسها, للميداني (ص 318).
(10) انظر: خصائص النبي محمد صلى الله عليه وسلم التي انفرد بها عن سائر الأنبياء, خالد عوفان الخطيب (ص 96 ).
المرفقات
الخالدة-2
الخالدة-2