المعايشة الإيمانية لاسم الله الرزاق
Sheikh Sayed2019
المعايشة الإيمانية لاسم الله الرَّزَّاق
إعداد:
الشيخ : السيد طه أحمد
الحمد لله رب العالمين ... خلق الأرض وبارك فيها،وقدر فيها أقواتها ،واحد لا شريك له،ولا شيء مثله ، ولاشيء يعجزه،ولا إله غيره ،فقال تعالي }قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ۚ ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10){فصلت.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير... يُطعِم ولا يُطعَم ،خالق بلا حاجة، رازق بلا مؤنة .. قال تعالي }قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ..(14){ [الأنعام].
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ)...ربي الأمة علي الثقة فيما عند الله تعالي من فضل ورزق ...فعن أبي أُمامةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبيَّ (ﷺ) قال: "إِنَّ رُوحَ القُدسِ نَفَثَ فِي رُوعي أَنَّ نفسًا لنْ تموتَ حتى تستكمِلَ أَجلَها وتستوعبَ رِزْقَها، فاتقوا اللهَ وأجْمِلُوا فِي الطلبِ، ولا يحمِلَنَّ أحدَكُم استبطاءُ الرِّزقِ أَنْ يطلبَهُ بمعصيةِ اللهِ، فإنَّ الله تعالى لا يُنالُ ما عندَهُ إلا بطاعتِهِ"[ رواه أبو نعيم في حلية الأولياء وصححه الألباني.].
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً إلي يوم الدين ....
أما بعد .. فيا أيها المؤمنون ..
إن العلمَ بالله أحَدُ أركانِ الإيمان، بل هو أصلُها وما بعدَها تبَعٌ لها، ومعرِفَةُ أسماء الله وصفاتِه أفضلُ وأوجَب ما اكتسبَته القلوب وحصَّلته النفوسُ وأدركته العقول.
قال ابن القيّم رحمه الله:أطيَبُ ما في الدنيا معرفتُه سبحانه ومحبَّته.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي (ﷺ) قال: « إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ » رواه البخاري ومسلم
قال أهل العلم: أحصاها يعني: علمها وآمن بها وعمل بمدلولها.
وأسماء الله سبحانَه أحسَنُ الأسماء، وصفاته أكمَلُ الصفاتِ، قال تعالي}لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ(11) {[الشورى].
وحقيقٌ بكلِّ مسلمٍ معرفتُها وفهم معانيها، والعمل وفقها، والدعاء بها.
إن معرفة أسماء الله جل جلاله الواردة في الكتاب والسنة ،وما تتضمنه من معاني جليلة ،وأسرار بديعة ،لهي من أعظم الأسباب التي تعين على زيادة إيمان العبد ، وتقوية يقينه بالله تبارك وتعالى.
فمن أسماء الله الحسني اسم الله الرزاق، فإن تعرفتَ على اسم الله الرزاق ستحبه وتعيش معه ،وتدعو به فيحقق لكَ الرزاق مطلبك ، لذلك كان موضوعنا (المعايشة الإيمانية لاسم الله الرزاق) وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ....
1ـ الرزاق في القرآن الكريم والسنة النبوية.
2ـ من معاني الرزاق.
3ـ الحقائق الإيمانية لقضية الرزق
4ـ الأسباب التي تستجلب الرزق.
5ـ آثار الإيمان باسم الله الرزاق .
6ـ الخاتمة .
============================
العنصر الأول : الرزاق في القرآن الكريم والسنة النبوية :ـ
ورد اسم الله الرزاق مفردًا مرة واحدة في قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات]
وورد بصيغة الجمع خمس مرات منها قول الله تعالى{وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(114)} [المائدة] .
وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ۚ قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ۚ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(11)} [الجمعة] .
وقال تعالي } قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(39){ سبأ
وورد قول النبي (ﷺ) لإثبات هذا الاسم في الحديث أنه قال: (إن اللهَ هو المسعر القابض الباسط الرازق) [صححه الألباني].
العنصر الثاني : من معاني الرزاق:ـ
الرَّزَّاقُ في اللغة مِنْ صيغِ المبالغةِ على وزن فعَّال منِ اسم الفاعل الرازِق، فعلُه رَزَقَ يَرْزقُ رِزْقًا، والمصدر الرِّزْقُ وهو ما يُنتَفعُ به والجمع أرزاق.
وحقيقةُ الرِّزْقِ هو العطاءُ المتجدّدُ الذي يأخذُهُ صاحبُه في كلِّ تقديرٍ يوميٍّ أو سَنويٍّ أو عُمُريٍّ فينال ما قُسِم له في التقديرِ الأزلي والميثاقي.
وقال تعالى: } يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ(3){ [فاطر].
فالله سبحانه قَدَّرَ خلْقَهم ورِزْقَهُم معًا قبلَ وجودِهم، وكتبَ أرزَاقَهُمْ فِي الدُّنيا والآخرِة قبل إنشائِهم، فالرّزقُ وصفٌ عامٌّ يتعلقُ بعمومِ الكونِ فِي عالمِ الملكِ والملكوتِ.
وقال ابنُ تيميةَ: "والرِّزق اسمٌ لكل ما يَغتذِى به الإنسانُ، وذلك يعمُّ رزقَ الدُّنيا ورزقَ الآخِرَةِ، فلا بُدَّ لكل مخلوقٍ من الرِّزقِ، قال اللهُ تعالى:} وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6){[هود].
وقال ابن جرير: هو المتكفل بأقواتهم قال تعالي{وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80)} [الشعراء]
وقال القرطبيُّ: "والفَرْق بين القُوتِ والرِّزق، أَنَّ القُوتَ ما به قَوامُ البنْيةِ مما يُؤكلُ ويَقعُ به الاغتذاءُ.
والرِّزقُ كلُّ ما يَدْخُل تحت مِلْكِ العبدِ: مما يُؤكلُ ومما لا يُؤكلُ، وهو مراتبُ أعلاها ما يُغذي.
وقد حَصَر رسولُ الله (ﷺ):وجوهَ الانتفاعِ في الرِّزق في قوله (ﷺ): }يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ{[رواه مسلم].
وفي معنى اللِّباسِ يَدخُلُ المركوبُ وغيرُ ذلك مما يَنْتَفعُ به الإنسانُ، والقوتُ رِزْقٌ مخصوصٌ، وهو المضمونُ من الرِّزقِ الذي لا يَقطعُه عجزٌ، ولا يجلبُه كيْسٌ، فلا ينقطعُ هذا الرزقُ إلا بانقطاعِ الحياةِ"
قال الخطابي: "هو المُتكفِّلُ بالرِّزقِ، والقائمُ على كلِّ نفسٍ بما يُقيمُها مِنْ قُوتِها، وَسِعَ الخَلْقَ كلَّهم رزقُهُ ورحمتُهُ، فلم يختصَّ بذلك مؤمنًا دون كافرٍ، ولا وليًّا دُونَ عدُوٍّ.
فالرَّزَّاقُ سبحانه هو الذي يتولى تنفيذَ العطاء الذي قدَّرَهُ لأرزاقِ الخلائق لحظةً بلحظةٍ فهو كثيرُ الإنفاقِ، وهو المفيضُ بالأرزاق رِزْقًا بعد رزقٍ، مبالغةً في الإرْزاقِ وما يتعلَّقُ بقسْمَةِ الأرزاق وترتيبِ أسبابها في المخلوقاتِ.
الفرق بين اسم الله الرازق واسم الله الرزاق !!
الرازق سبحانه هو الذي يرزق الخلائق أجمعين وهو الذي قدر أرزاقهم قبل خلق العالمين وهو الذي تكفل باستكمالها ولو بعد حين فلن تموت نفس إلا باستكمال رزقها .
إذن فالرازقُ فيه معنى الرزق المطلق، فهو يفيد ثبوت صفة الرزق لله عز وجل.
أما الرزَّاق فتفيد التكثير، أنه يرزق رزقا بعد رزق.
سُئل احد السلف: لما سمي الله خير الرْازقين؟
فأجاب: لأنه إذا كفر به عبده لم يقطع رزقه عنه، وهو كافر به.
سبحان الله عطائه ورزقه مستمر حتى لمن يكفر به ويعطيه نعيمه في الدنيا، بعكس ابن آدم لو كان الرزق بيده لقطعه إذا لم يرق مزاجه له أو كرهه أو إذا نسيه والله سبحانه وتعالى لايغفل ولاينسى ولاتأخذه سِنة (وهي غفوه صغيره) عن الخلق فأمور الكون كلها بيده سبحانه وتعالي.
روي عن نبي الله سليمان عليه السلام أنه رأى نملة تجر حبة قمح وبجهد إلى بيتها فقال لها سليمان عليه السلام: كم يكيفيك من حبوب القمح لمدة سنة ؟
قالت النملة: حبيتن .
قال سليمان عليه السلام: سوف أضعك في صندوق وأجعل لك حبتين لمدة سنة بدل بحثك عن حبوب القمح، وأغلق عليها الصندوق وجعل لها حبتين وجاء لها بعد سنة فوجد النملة أكلت حبة وتركت الحبة الثانية فاستغرب وغضب نبي الله سليمان عليه السلام وقال للنملة: لماذا تكذبين علي؟
تقولين تكفيني حبتين في السنة وأنتِ خلال سنة أكلتي حبة واحده فقط، قالت النملة: كانت تكفيني حبتين وكان الله لا ينساني ويرزقني، أما عندما أقفلت علي الصندوق ولم استطع أن أخرج فأكلت حبة وأدخرت حبة ثانية لأعيش بها قدر المستطاع حتى لا أموت، وخشيت أن تنساني.
العنصر الثالث : الحقائق الإيمانية لقضية الرزق :ـ
لقد وضع الله تعالي سننا وقوانينا تحكم حياة الناس،وتنظم حركة الكون ، وهناك قوانين تخص قضية الرزق والتي تجعل الإنسان منضبطا ومنسجما ومنتظما مع الكون ،وهذه القوانين تسمي حقائق إيمانية ....فمن هذه الحقائق ..
الحقيقة الأولي : الرزق مكتوب ومضمون ومحدد:ـ
فالرزقُ مكتوبٌ في السماءِ وهو وَعْدُ اللهِ وحُكمُه في القضاءِ قبل أن يكونَ واقعًا مقدورًا في
الأرضِ. وهو سبحانه وتعالي يتولى تنفيذَ المقدَّرِ في عطاءِ الرِّزْقِ المَقسومِ، والذي يخرجُه في السماواتِ والأرضِ، فإخراجُه في السماواتِ يعني: أنه مقضيٌّ مكتوبٌ، وإخراجه في الأرض يعني أنه سَينفُذُ لا محالةَ؛ ولذلك قال الله تعالى في شأن الهدهد الموحد ومخاطبته سيدنا سليمان عليه السلام قال تعالي{أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ(25)} [النمل] الخبء: أي الشيء الخفي المخبوء.
فهنا أدرك الهدهد أن الرزق مكتوبٌ في السماء قبل أن يكون واقعًا مقدرًا في الأرض.
قال تعالي } هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا ۚ وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13){ غافر .
ويقول تعالى: }وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) { [الذاريات].
وحول هذه الآيات قصة عجيبة مع الأصمعي رحمه الله تعالي ..
روى البيهقي في (شُعب الإيمان) وأورد ابن قدامة في كتابه (التوابين) عن الأصمعي قال: أقبلت ذات يوم من المسجد الجامع بالبصرة، فبينا أنا في بعض سككها إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلد سيفه وبيده قوس، فدنا وسلم وقال لي: ممن الرجل؟
قلت: من بني الأصمع، قال: أنت الأصمعي؟
قلت: نعم، قال: ومن أين أقبلت؟
قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟
قلت: نعم، قال: اتلُ علي شيئاً منه، فقلت له: انزل عن قعودك، فنزل وابتدأت بسورة الذاريات، فلما انتهيت إلى قوله تعالى: (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) .
قال: يا أصمعي هذا كلام الرحمن؟!
قلت: إي والذي بعث محمداً بالحق إنه لكلامه أنزله على نبيه محمد (ﷺ)، فقال لي: حسبك، ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها، وقال: أعني على تفريقها، ففرقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وجعلهما تحت الرحل، وولى مدبراً نحو البادية، وهو يقول:
(وفي السماء رزقكم وما توعدون) فأقبلت على نفسي باللوم، وقلت: لم تنتبه لما انتبه له الأعرابي فلما حججت مع الرشيد دخلت مكة، فبينا أنا أطوف بالكعبة إذ هتف بي هاتف بصوت دقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي نحيلاً مصفاراً! فسلم علي وأخذ بيدي وأجلسني من وراء المقام وقال لي: اتل كلام الرحمن، فأخذت في سورة الذاريات فلما انتهيت إلى قوله تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) صاح الأعرابي: وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، ثم قال: وهل غير هذا؟
قلت: نعم يقول الله عز وجل: { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) { [الذاريات].
فصاح الأعرابي وقال: يا سبحان الله من الذي أغضب الجليل حتى حلف!
ألم يصدقوه حتى ألجؤوه إلى اليمين؟! قالها ثلاثاً وخرجت فيها روحه.
فالرزق أولا مكتوب في اللوح المحفوظ ثم بعد ذلك ينزل في السموات لتعرفه الملائكة وتنزل به إلى صاحب الرزق في الأرض فينفذ على صاحبه.
فالرزق معلوم ومحدد عند الله تعالي ، قال تعالي}وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21){ الحجر .
فالرزق يسوقُه اله تعالي إلى الضَّعيفِ الذي لا حيلة له، ولا مُتَكَسَّبَ فيه، كما يسوقُه إلى الجَلْدِ القويِّ ذي المِرَّةِ السَّويِّ، قال سُبْحانَهُ:}وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ (60){[العنكبوت].
وقد أكد النبي (ﷺ) أن الرزق مكتوب ومضمون ومحدد ، فعن أبي عبدالرحمن عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله (ﷺ) وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة ، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلماتٍ: بكَتْبِ رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيدٌ، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) رواه البخاري ومسلم.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبيَّ (ﷺ) قال:(كَتب اللهُ مقاديرَ الخلائق قبل أن يَخلق السماواتِ والأرضَ بخمسين ألف سَنة قال: وعرشه على الماء))[مسلم].
وبين أيضا أنه ما كُتب للعبد مِن رِزق وأجل،لا بد أن يستكمله قبل أن يموت؛ عن جابر رضي الله عنه؛ أن النبي (ﷺ) قال: (لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ فَرَّ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَفِرُّ مِنَ المَوْتِ، لأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كما يُدْرِكُهُ المَوْتُ)[ حلية الأولياء وصححه الألباني [
الحقيقة الثانية : الرزق مقسوم وفق حكمته سبحانه وتعالي :ـ
الأرزاقُ مقسُومةٌ وفق حكمته تعالي، ولَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ أَو يُؤخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ.
فعن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه؛ أنه قال: "قَالَتْ أُمُّ حَبيبَةَ زَوْجُ النبيِّ (ﷺ): اللَّهُمَّ أَمْتعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ الله (ﷺ) ، وَبأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبأَخي مُعَاوْيَةَ، فَقَالَ النبيُّ (ﷺ): "قَدْ سَألْتِ اللَه لآجَالٍ مَضْرُوبَة، وأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ، أَوْ يُؤَخِّرَ شيْئًا عَنْ حِلِّهِ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَّابٍ في النَّارِ أَوْ عَذَابٍ في الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا وأَفْضَلَ" رواه مسلم
وقد قسم الله الأرزاق علي عباده بالعدل حسب حكمته تعالي، وتفضل علىهم بنعم لا تعد ولا تحصى، ثم فاوت بينهم في الرزق ، فمثلاً الأستاذ في الجامعة نصابه ثلاث ساعات، ومعلم ابتدائي بقرية كاد يُسحق من الفقر والقهر والجهد والاثنين تابعون إلى مؤسسة واحدة ؛ هذا أستاذ جامعة وهذا معلم ابتدائي .
وأيضا في مجال الطب هذا أكبر جراح في العالم دخله اليومي بمئات الألوف؛ وهذا ممرض يومي في مستشفى معاشه لا يكفيه يومين؛ كلاهما يعمل في حقل الطب.
وأيضا في مجال التجارة ، نجد بائع متجول يقضي يومه تحت حر الشمس أو برودة الجو ، ويرجع إلي بيته آخر النهار بجنيهات معدودة، وفي نفس المجال نجد أكبر مستورد كل صفقة عنده بخمس ستة ملايين أرباحها؛ كلاهما يعمل في حقل التجارة .
ونجد أيضا : امرأة جميلة جداً وامرأة دميمة جداً هذه يأتيها آلاف الخطاب وهذه لا يطرق بابها أحد.
يوجد تفاوت في الجمال والمال وتفاوت في الذكاء، تفاوت في العمر، تفاوت في الغنى، طفل يولد ابن ملك ،الدنيا كلها له وطفل لا يأكل قطعة لحم ولايجد شيئا، بل يخرج للعمل الشاق وهو في طفولته .
قال تعالي }كُلًّا نُمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21){الإسراء.
وهذا التفاوت لحكم عظيمة، جهلها كثير ممن لم تتنور بصائرهم بنور الوحي، ومن هذه الحكم ما يلي:
أولاً: لو كان الناس على مستوى واحد في رزقهم وإمكاناتهم لما قامت الحياة ،ولتعطلت كثيرمن الأعمال، وقد أشار الله سبحانه إلى هذه الحكمة بقوله تعالى}أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32){ الزخرف .
قال السدي وابن زيد: يسخر الأغنياء الفقراء فيكون بعضهم سبباً لمعاش بعض.
ثانياً: الابتلاء والاختبار، ليظهر الشاكر من الكافر، والصادق من الكاذب، فالغني مبتلى بالغنى، والفقير مبتلى بالفقر.
أما الغني فهل يؤدي شكر نعمة الله عليه وينفق المال وفق أمر الله له؟
وأما الفقير فهل يصبر ويحمد الله على ما هو فيه دون حسد لغيره وتضجر من قدر الله وحكمته؟ وبذلك ترفع درجتهما إن صبرا، ويعذب من سخط منهما ولم يرض بقسمة الله.
ثالثاً: أن الله تعالى يعطي ويمنع بما يصلح عباده، قال تعالى:}وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ(27){ [الشورى].
وقد استشهد الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية بالحديث الذي أخرجه الطبراني والديلمي في الفردوس وأبو نعيم في الحلية من حديث أنس وعمر رضي الله عنهما أن رسول الله (ﷺ) قال: "أتاني جبريل، فقال: يا محمد، ربك يقرأ عليك السلام، ويقول: إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالغنى ولو أفقرته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا القلة ولو أغنيته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالسقم ولو أصححته لكفر، وإن من عبادي من لا يصح إيمانه إلا بالصحة ولو أسقمته لكفر".
الحقيقة الثالثة : الرزق مكفول فلم الهم؟
هناك أصل مهم من أصول الإيمان وهو أن يعلم الجميع أن رزق الله تعالى الذي قدره لا يفوت العبد، بل لا بد من تحصيله، وقد قال في ذلك رسول الله (ﷺ)}:ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا شيئا مما نهاكم عنه إلا وقد نهيتكم عنه، وإن الروح الأمين قد ألقى في رُوعي أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي رزقَها {.
فلو أن الناس عملوا بذلك وآمنوا به لما كان هناك سرقة ولا نهب، ولا غصب ولا اختلاس، ولا تحايل على قضية الرزق، فما قدر الله تعالى لعباده آتٍ لا محالة، وما لم يقدر فلن يستطيعَه العبدُ ولو بذل في سبيل ذلك الدنيا وما فيها.
لذلك نهي الله تعالي أولائك الذين يقتلون أولادهم بغير حق لا لشيء إلا الخوف أن يأكلوا من طعامهم فيقللوا عليهم أرزاقهم، فقال سبحانه وتعالي: } وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً (31){ [الإسراء].
ويحكي أنه جلس إبراهيم بن ادهم رحمه الله يوما ووضع بين يديه بعضا من قطع اللحم المشوي فجاءت قطة فخطفت قطعة من اللحم وهربت،فقام وراءها وأخذ يراقبها فوجد القطة قد وضعت قطعة اللحم في مكان مهجور أمام جحر في باطن الأرض وانصرفت فازداد عجبه وظل يراقب الموقف باهتمام وفجأة خرج ثعبان أعمى ، يخرج من الجحر في باطن الأرض ويجر قطعة اللحم إلى داخل الجحر مرة أخرى،فرفع الرجل رأسه إلى السماء وقال سبحانك يا من سخرت الأعداء يرزق بعضهم بعضا.
ورأى إبراهيم بن أدهم رجلا مهموماً: فقال له: أيها الرجل إني أسألك عن ثلاث تجيبني قال الرجل: نعم. فقال له إبراهيم: هل يجري في هذا الكون شيء لا يريده الله؟ قال: لا.
قال إبراهيم: أينقص من رزقك شيء قدره الله لك؟ قال: لا.
قال إبراهيم: أينقص من أجلك لحظة كتبها الله في الحياة؟ قال: لا .
فقال له إبراهيم: فعلام الهم إذن؟
ولذا قال ابن عطاء الله السكندري : إياك والهم بعد التدبير فما قام به غيرك عنك لا تنشغل به أنت.
فينبغي علي الإنسان أن لا يهتم للشيء أكثر مما ينبغي.
الحقيقة الرابعة: الأصل في الرزق أنه لا يأتي وحده ولكن يُسعي إليه :ـ
إن الله تعالي جعل من السنن الكونية ، الأخذ بالأسباب ،وطلب الرزق من عند الله سبحانه وتعالى بأسبابه المباحة قال تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ۖ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17){ العنكبوت.
قال تعالى: }لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ۚ (198){ البقرة .
أي أن تطلبوا الرزق والفضل من الله سبحانه وتعالى، فعلى المسلم أن يجدَّ ويجتهد في طلب الرزق ليغني نفسه عن الناس وليغني من تلزمه نفقته، وليتصدق ولينفق في وجوه الخير إذا رزقه الله مالاً فنعم المال الطيب للرجل الطيب، ووجوه طلب الرزق كثيرة والحمد لله وميسرة:
ومنها: البيع والشراء والمتاجرات والمؤجرات في حدود ما شرع الله سبحانه وتعالى، فالتجارة النزيهة هي خير المكاسب، والحمد لله الأصل في المعاملات الحلَّ والإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه: قال تعالي } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ۚ (29){ النساء.
فالتجارة هي خير المكاسب بأن يبيع الإنسان ويشتري طلباً للربح، وكذلك من وجوه الكسب المباحة أن يتعلم الإنسان المهن والحرف التي يكتسب من وراءها من الصناعة وغير ذلك من المهن التي يستفيد منها أموال مباحة، وكان نبي الله داوود عليه السلام يصنع الدروع ويبيعها ويأكل من ثمنها ولهذا جاء في الحديث:" إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده ".
إن أطيب ما يأكل المؤمن من كسب يده، وإن داود عليه السلام كان يأكل من كسب يده مع أنه نبي وملك لكنه لا يأكل إلا من كده ومن عمل يده فكذلك المؤمن يطلب الحرف والصناعات والمهارات التي يعيش من وراءها ويستغني من مردودها، فيتعلم ما يدر عليه من الرزق مما أباح الله سبحانه وتعالى، يتعلم الهندسة، يتعلم الطب، يتعلم الحدادة ،يتعلم كل ما فيه نفعٌ وفيه مردود حلال ليحصل على الرزق، وكذلك من وجوه الاكتساب الاحتراف ،والكد باليد .
ولقد قطع الإسلام كل الطرق أمام المتسول والبطال حتي لا يركن لشيئ مثل أن يركن بحجة العبادة ، أو يركن معتمدا علي مال الزكاة .
فعن أنس رضي الله عنه ( أنَّ رجلاً من الأنصار أتى النبي (ﷺ) يسأله فقال صلَّى الله عليه وسلَّم أَمَا في بيتك شيء؟ قال الرَّجل: بلى، حِلْسٌ[كساء يلبس، ويفرش على الأرض، ويجلس عليه.]
نلبس بعضَه، ونبسط بعضه، وقَعْبٌ[الإناء] نشربُ فيه من الماء، قال (ﷺ) (ائتني بهما) ، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله (ﷺ) بيده، وقال: مَن يشتري هذين؟، فقال رجل: أنا آخذهما بدِرهم، قال (ﷺ) مَن يَزيد على درهم؟ مرَّتين أو ثلاثًا، قال رجل: أنا آخذهما بدِرهمين، فأعطاهما إيَّاه وأخذ الدِّرهمين، وأعطاهما الأنصاريَّ، وقال: (اشترِ بأحدهما طعامًا، فانبذه إلى أهلك، واشترِ بالآخرِ قَدُومًا فأتِني به).
فأتاه به، فشدَّ فيه رسولُ (ﷺ) عودًا بيده، ثم قال له: (اذهبْ فاحتطب وبِعْ، ولا أرينَّك خمسةَ عشرَ يومًا) ، فذهَبَ الرجل يحتطبُ ويبيع، فجاء وقد أصاب عَشرةَ دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا، فقال رسول الله (ﷺ) هذا خيرٌ لك مِن أن تجيءَ المسألةُ نُكتةً في وجهك يومَ القيامة؛ إنَّ المسألة لا تصلح إلاَّ لثلاثة: لذي فَقر مُدقِع، أو لذي غُرْم مُفظِع، أو لذي دمٍ مُوجِع.
رواه أبو داود برقم ، واللفظ له، ، وابن ماجه ، والنسائي ، وأحمد .
وقال عليه الصلاة والسلام: لئن يذهب أحدكم بأحبله إلى الجبل فيحتطب ويبيع خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه .
ولقد رأى الفاروقُ عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قومًا قابعين في رُكن المسجد بعدَ صلاة الجمعة، فسألهم: من أنتم؟
قالوا: نحن المُتوَكِّلون على الله، فعَلاهم عمر رضي الله عنه بدِرَّته ونَهَرَهم، وقال: لا يَقعُدنَّ أحدُكم عن طلب الرزق
،ويقول: اللهم ارزقني، وقد علِمَ أن السماءَ لا تُمطِرُ ذهبًا ولا فضّة، وإن الله يقول:}فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10){ الجمعة.
وروى ابن أبي الدنيا في "التوكل" بسنده عن معاوية بن قرة، أن عمر بن الخطاب، لقي ناسا من أهل اليمن، فقال : من أنتم؟ قالوا : نحن المتوكلون. قال : بل أنتم المتكلون، إنما « المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض، ويتوكل على الله ».
وكان سفيانُ الثوريّ رحمه الله يمُرُّ ببعض الناس وهم جلوسٌ بالمسجدِ الحرام، فيقول: ما يُجلِسُكم؟ قالوا: فما نصنَع؟!
قال: اطلُبوا من فضلِ الله، ولا تكونوا عيالاً على المسلمين.
ويُروى عن" شقيق البلخي" وهو من أهل العبادة والزهد أنه ودَّع أستاذه " الشيخ إبراهيم بن أدهم" لسفره في تجارة عزم عليها.
وأثناء سيره في الطريق رأى طائراً أعمى كسير الجناح، فوقف يتأمل الطائر ويفكر كيف يجد رزقه في هذا المكان المنقطع.
فلم يمضِ وقت طويل حتى جاء طائر آخر فأطعم الطائر كسير الجناح. تعجب شقيق من هذا المشهد وأثر فيه ،فقال في نفسه: إذا كان الله تعالى يرزق هذا الطائر من غير حول منه ولا قوة ولم يهمله فلماذا أذهب إلى التجارة و لماذا العناء و السفر وأنا في هذا السن؟!
سأرجع وحتماً سيرزقني الله ، وفعلاً عاد إلى بيته ولم يكمل السفر ،وحين وصل زار شيخه فقال له الشيخ : لماذا عدت يا شقيق.. الم تذهب للتجارة ؟
فقص عليه القصة بأنه رأى في طريقه طائرا أعمى وكسيح و أخذ يفكر كيف يأكل هذا الطائر ويشرب؟
وبعد قليل جاء طائر آخر يحمل حباً وأطعم الطائر الأعمى ثم سقاه، فقلت طالما ربنا عز وجل رزق الطائر الأعمى الكسيح سأرجع إلى بيتي وسط أولادي وارجع لأهلي وبلدي وربي سيرزقني.
هنا قال له الشيخ إبراهيم: سبحان الله يا شقيق! ولماذا رضيت لنفسك أن تكون الطائر الأعمى العاجز الذي ينتظر عون غيره ولا تكن أنت الطائر الآخر الذي يسعى ويكدح ويعود بثمرة ذلك على من حوله ؟!
أما علمت أن النبي (ﷺ) قال: (اليد العليا خير من اليد السفلى) .
إنتبه شقيق إلى خطأه فقَبل يد الشيخ وقال: أنت أستاذنا يا أبا إسحاق، ثم تركه ليذهب مجدداً لطلب الرزق.
فالمؤمنين ليسوا عالة على غيرهم تشغلهم عبادتهم عن العمل والكسب ، وليسوا طلاب دنيا وعبيد مال تحجزهم مصالحهم وتلهيهم تجارتهم عن أداء حقوق الله تعالى قال تعالي } ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك{القصص.
ودخل عبد الله بن عمر رضي الله عنه السوق ، فأقيمت الصلاة فأغلق التجار حوانيتهم ودخلوا المسجد فقال : فيهم نزلت : }رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله .. {.النور
وقال مطرف الوراق : " كانوا يبيعون ويشترون ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة ".
وأيضا لم يجعل النبي (ﷺ) لمتبطل كسول حقا في الصدقات ، فيحكي أنه جاء رجلان إلى النبي (ﷺ) يسألانه من الزكاة فنظر إليهما فوجد أنهما قويان فقال عليه الصلاة والسلام: إن شئتما أعطيتكما غير أنه لا حظ فيها لغني ولا لذي مرة قوي ، لا حظ فيها لغني (يعني الزكاة) ولا حظ فيها لذي مرة (يعني قوة) لذي مرة قوي لأن الأول غنيٌ بماله والثاني غنيٌ بقوته.
فقال رسول الله (ﷺ):" لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي" أخرجه أبو داود والترمذي.
فالإسلام الحنيف ليس فيه عطالة ، فالإسلام دين الجد والاجتهاد ، حيث يأمرنا بالضرب في الأرض ، قال تعالي (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ) يعني يسافرون (يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) يطلبون الرزق.
الحقيقة الخامسة: الرزق ليس مقصورا علي المال والأعراض المادية :ــ
الكثير من الناس ينظرون إلى الرزق نظرة ضيقة قاصرة فهم يتصورون أنه المال فحسب!! كلا !
فالرزق ليس هو المال فقط ، ورِزْقُ الله لعبادِهِ نوعانِ:
1- رزقٌ عامٌّ شملَ البرَّ والفاجِرَ، والأولينَ والآخرينَ؛ وهو رِزْقُ الأبدان.
2- ورزقٌ خاصٌّ؛ وهو (رِزْقُ) القلوبِ، وتغذيتُها بالعِلمِ والإيمانِ.
وقال ابن منظور في لسان العرب الرزق: هو ما تقوم به حياة كل كائن حي مادي كان أو معنوي.
فالإيمان رزق ،وحب النبي رزق ،وحب الصحابة رزق ،والعلم رزق ،والخُلقُ رزق ،والزوجة الصالحة رزق، والحب في الله رزق ، والمال رزق ، وما أنت فيه الآن رزق، وصيامك للنهار رزق ، وقيامك الليل رزق ، إلى غير ذلك......
والرّزاق بكل هذه الأرزاق هو الله سبحانه وتعالي ..
جاء رجل إلى يونس بن عبيد رحمه الله: فشكى إليه ضيقاً من حاله ومعاشه واغتمامه بذلك.
فقال: أيسرك أن تفقد بصرك بمائة ألف؟ قال: لا.
قال: فبسمعك؟ قال: لا.
قال: فبلسانك؟ قال: لا.
قال: فبعقلك؟ قال: لا.
وذكره نعم الله عليه، ثم قال يونس: أرى أن عندك مئات الآلاف وأنت تشكو الحاجة؟!.
ومن أعظم الرزق في الدنيا رزق الأخلاق، يقول النبي (ﷺ): (إن الله قسم بينكُم أخلاقكُم كما قسم بينكُم أرزاقكُم وإن الله عز وجل يعُطى الدنيا من يُحب ومن لايُحب ولا يُعطى الإيمان إلا من أحب) [صححه الألباني]
وأعظمُ رزقٍ يَرْزُقُ اللهُ به عِبادَهُ هو (الجَنَّةُ) التي أَعدَّها اللهُ لعبادِهِ الصالحين، وخلق فيها ما لا عينٌ رأَتْ، ولا أُذنٌ سمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قلبِ بشرٍ.
وكلُّ رزقٍ يَعِدُ اللهُ به عبادَهُ الصالحين فِي القرآن فغالبًا ما يُراد به الجَنَّةُ كقوله تعالى:} لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4){ [سبأ].
وقوله تعالي: }وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(58){ [الحج].
وقوله سبحانه:}وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11){[الطلاق].
فهو أحسنُ الرِّزقِ وأكملُه وأفضلُه وأكرمهُ، لا ينقطعُ ولا يزولُ قال تعالي } إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54){ [ص].
الحقيقة السادسة: الرزق يبارك فيه بالطاعة ويمحق بالمعصية:ـ
الرزق يُبارك فيه بالطاعة ويُمحق بالمعصية.
الرزق يُبارك فيه بالطاعة، ويُمحق بالمعصية، فتذهب بركته وإن كان كثيرا ظاهرًا؛ لأن ما عند الله تعالى لا ينال إلا بطاعته؛ يقول النبي (ﷺ) ( أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم) [صححه الألباني].
وكما أن تقوى الله مجلبة للرزق، فترك التقوى مجلبة للفقر، فما استجلب رزق بمثل ترك المعاصي، وقد ضرب الله الأمثال لذلك في القرآن؛ قال تعالى:}وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112){ [النحل].
فمن استعجل الرزقَ بالحرام مُنِع الحلالَ .
ذكر صاحب المستطرف وعبارته: ودخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه المسجد وقال لرجل كان واقفا على باب المسجد: أمسك عليّ بغلتي، فأخذ الرجل لجامها، ومضى وترك البغلة، فخرج علي وفي يده درهمان ليكافىء بها الرجل على إمساكه بغلته فوجد البغلة واقفة بغير لجام، فركبها ومضى، ودفع لغلامه درهمين يشتري بهما لجاما، فوجد الغلام اللجام في السوق قد باعه السارق بدرهمين، فقال علي رضي الله عنه: إن العبد ليحرم نفسه الرزق الحلال بترك الصبر، ولا يزداد على ما قدر له. انتهى.
لقد تساهل الكثير في الكسب وتحصيل المال، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ﷺ) قال:(يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم الحرام)؛ رواه البخاري.
فتساهلوا في الغش والخداع، وفرحوا بالرشوة والغلول وأكل مال اليتيم والسرقة، ونشطوا في بيع المحرمات والإعانة عليها ونشرها، وتسابقوا في الأعمال المحرمة،حتي رأينا الرجل يبيع ذمته ودينه بعرض من الدنيا ،ورأينا المرأة تعرض جسدها لإغراء الشباب ، كل ذلك بحجة طلب الرزق، وكأن الرزق لا يكون إلا بطريق الحرام، وضعف يقينهم في أن الرزق من الله، وأنه لن يبارك في مال ورزق جاء من الحرام.
ومن ظنّ أن الرزق يأتي بحيلةٍ فقد كذّبته نفسه وهو آثم
قال رسول الله (ﷺ) مبينًا قاعدة عظيمة من قواعد الكسب وطلب الرزق: فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ): " مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ " رواه الترمذي .
الحقيقة السابعة: من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه :ـ
من ترك المال الحرام من أجل الله تعالي عوضه الله خيرا منه ، قال: رسول الله (ﷺ) : (إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا للهِ إلاَّ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ))[ مسند الإمام أحمد].
ذكر الحافظ ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة في ترجمة القاضي أبي بكر محمد بن عبد الباقي البزاز المتوفى في سنة (535 هـ):
((قال الشيخ الصالح أبو القاسم الخزاز البغدادي: سمعت القاضي أبا بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد البزاز
الأنصاري يقول: كنت مجاورا بمكة حرسها الله تعالى فأصابني يوما من الأيام جوع شديد لم أجد شيئا أدفع به عني الجوع، فوجدت كيسا من إبريسم مشدودا بشُرّابة من إبريسم أيضا (الإبْرَيْسَم : أحسن الحرير)، فأخذته وجئت به إلى بيتي، فحللته فوجدت فيه عقدا من لؤلؤ لم أر مثله.
فخرجت فإذا بشيخ ينادي عليه، ومعه خرقة فيها خمس مئة دينار وهو يقول: هذا لمن يردّ علينا الكيس الذي فيه اللؤلؤ، فقلت: أنا محتاج، وأنا جائع، فآخذ هذا الذهب فأنتفع به، وأردّ عليه الكيس.
فقلت له: تعال إليّ فأخذته وجئت به إلى بيتي، فأعطاني علامة الكيس، وعلامة الشرّابة، وعلامة اللؤلؤ وعدده، والخيط الذي هو مشدود به، فأخرجته ودفعته إليه، فسلّم إليّ خمس مئة دينار، فما أخذتها، وقلت: يجب علي أن أعيده إليك، ولا آخذ له جزاء، فقال لي: لا بدّ أن تأخذ وألحّ عليّ كثيرا، فلم أقبل ذلك منه، فتركني ومضى.
وأما ما كان مني، فإني خرجت من مكة وركبت البحر، فانكسر المركب وغرق الناس، وهلكت أموالهم، وسلمت أنا على قطعة من المركب، فبقيت مدة في البحر لا أدري أين أذهب، فوصلت إلى جزيرة فيها قوم، فقعدت في بعض المساجد، فسمعوني أقرأ، فلم يبق في تلك الجزيرة أحد إلا جاء إليّ وقال: علمني القرآن، فحصل لي من أولائك القوم الشيء الكثير من المال.
ثم إني رأيت في ذلك المسجد أوراقا من مصحف، فأخذتها أقرأ فيها، فقالوا لي: تحسن تكتب؟ فقلت: نعم. فقالوا: علمنا الخط، فجاءوا بأولادهم من الصبيان والشباب، فكنت أعلمهم، فحصل لي أيضا من ذلك شيء كثير، فقالوا لي بعد ذلك: عندنا صبية يتيمة ولها شيء من الدنيا نريد أن تتزوج بها، فامتنعت، فقالوا: لابدّ وألزموني فأجبتهم إلى ذلك.
فلما زفوها إليّ مددت عيني أنظر إليها، فوجدت ذلك العقد بعينه معلقا في عنقها، فما كان لي حينئذ شغل إلا النظر إليه، فقالوا: يا شيخ! كسرت قلب هذه اليتيمة من نظرك إلى هذا العقد، ولم تنظر إليها، فقصصت عليهم قصة العقد، فصاحوا وصرخوا بالتهليل والتكبير حتى بلغ إلى جميع أهل الجزيرة، فقلت: ما بكم؟
فقالوا: ذلك الشيخ الذي أخذ منك العقد أبو هذه الصبية، وكان يقول: ما وجدت في الدنيا مسلما [المراد أمينا وعفيفا يعرف أحكام اللقطة] إلا هذا الذي ردّ عليّ هذا العقد، وكان يدعو ويقول: اللهم اجمع بيني وبينه حتى أزوجه ابنتي، والآن قد حصلتْ، فبقيت معها مدة ورزقت منها بولدين، ثم إنها ماتت فورثت العقد أنا وولداي، ثم مات الولدان، فحصل العقد لي، فبعته بمئة ألف دينار، وهذا المال الذي ترونه معي من بقايا ذلك المال)).
الحقيقة الثامنة : المالك الحقيقي للمال هو الله تعالي ونحن مستخلفون فيه :ـ
المالك الحقيقي للمال والأرض هو الله تعالي ،والإنسان ما هو إلا مستخلف فيه ،لذلك ينبغي علي الإنسان أن يحسن استخدامه وتوظيفه فلا يتصرف وفق رغبات وشهواتها فيسرف في الإنفاق ليرضي متطلبات نفسه ونزواتها ويبخل بالمال حرصا عليه عندما تستلزمه الضرورات التي ليس لمفسه إليها حاجة أو حظ ونسي أن هذا المال ليس ماله وأنه فقط مستخلف فيه وأن المستخلف في شيئ ملزم التصرف فيه وفق ضوابط وأوامر من استخلفه ولا يجوز له أن يجتهد خارج هذه الأوامر والضوابط وإلا أصبح خائنا للأمانه فيقع تحت طائلة الآية الكريمة } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28){ الأنفال .
فيؤكد المولي عز وجل هذه الحقيقة بكلمات واضحة مباشرة فيقول سبحانه وتعالي}آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7){الحديد
ويقول تعالي }وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ۚ(33){ النور.
ومن هنا جاءت النصوص توضح المنهج الوسط في التعامل مع المال بما يحقق الاستخلاف ويؤدي إلي مرضاة الله تعالي وفي نفس الوقت تحذر من الخروج علي هذا المنهج فيقول تعالي مبيحاَ لعباده الزينة والطيبات من الرزق ولكن في غير سرف ولا تقتير } يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32){ الأعراف.
ويقول تعالي }وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29){ الإسراء.
ويقول تعالي أيضا : }وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا(67){ الفرقان .
ويقول تعالي في معرض أداء الحقوق } وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27){ الإسراء.
والتبذير هو الإنفاق في غير المشروع ،أما الإسراف فهو الإنفاق في المشروع ولكن بزياة كبيرة عن الحد المعقول وكلاهما حرام .
وَقَالَ النَّبِى (ﷺ): (كُلُوا وَاشْرَبُوا، وَالْبَسُوا، وَتَصَدَّقُوا فِى غَيْرِ إِسْرَافٍ، وَلا مَخِيلَةٍ) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ، وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ.
ورغم ذلك نجد البعض من أصحاب الثراء الفاحش ينفقون المال علي موائد القمار وعلي حفلات المُجون والرقص،
وهناك من المسلمين من يكاد يموت جوعا أو مرضا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
وفي هؤلاء وأمثالهم يقول النبي (ﷺ) فعن خولة الأنصارية رضي الله عنها، قالت : قال رسول الله (ﷺ):(إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق ،فلهم النار يوم القيامة ( . رواه البخاري .
وليعلم المسلم أيضا أن نعم الله عز وجل لا يمتلكها أحد ، وإنما هي بمثابة الجوار، ليتمتع بها بما يرض الله عز وجل ، فإذا أحسن الإنسان جوار النعم لازمته، وبارك الله له فيها ، وإذا أساء جوارها فارقته ،وأثم إثما كبيرا .
فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول دخلَ عليَّ رسولُ اللهِ (ﷺ) فَرأى كِسْرَةً مُلْقَاةً فَمَشَى إليها فأخذَها ثُمَّ مسحَها فَأكلَها ثُمَّ قال لي يا عائشةُ أَحْسِنِي جِوَارَ نِعَمِ اللهِ تَعالَى فإنَّها قَلَّ ما نَفَرَتْ من أهلِ بَيْتٍ فَكَادَتْ أنْ تَرْجِعَ إليهِمْ"[أخرجه ابن ماجه ، وابن أبي الدنيا في الشكر والطبراني في المعجم الأوسط].
ويقول الله تعالي}وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7){إبراهيم
ولابد أن نعلم أنَّ صلاح الأمة بالتزام هذه التعاليم وهلاكها في انحرافها عن هذه التعاليم
فعن عبد الله بن عمرو في الحديث المرفوع }صَلاحُ أَوَّلِ هَذِهِ الأُمَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ ، وَيَهْلِكُ آخِرُهَا بِالْبُخْلِ وَالأَمَلِ { .رواه الطبراني في الأوسط.
ومن أهم الأشياء التي يوقن بها المسلم أن كل هذه النعم لا تصحبه في رحلته إلي الدار الآخرة ، وهي أهم رحلة لأنه من خلالها يتحدد مصير الإنسان إما نعيم مقيم ، وإما عذاب أليم ، وقدأخبرالنبي (ﷺ) بذلك فعن أنس رضي الله عنه عن رسولِ اللَّهِ (ﷺ) قَالَ: يتْبعُ الميْتَ ثلاثَةٌ: أهلُهُ ومالُه وعمَلُه، فيرْجِع اثنانِ ويبْقَى واحِدٌ: يرجعُ أهلُهُ ومالُهُ، ويبقَى عملُهُ" متفقٌ عَلَيهِ. الحقيقة التاسعة : كثرة المال أو قلته ليس دليلا علي رضا الله تعالي أو سخطه :ـ
كثرة الرزق لا تدل على محبة الله، ولا قلته دليل علي سخطه تعالي.
فالله سبحانه يرزق الجميع، ولكنه قد يزيد أهل الضلال والجهل في الرزق، ويوسع عليهم في الدنيا، وقد يقتر على أهل الإيمان، فلا يظن أن العطاء والزيادة دليل المحبة والاصطفاء!.
بل إنه بين أنه لولا أن يكفر الناس جميعًا لأراهم الله تعالى عطاياه لأهل الكفر، فقال جل ذكره: قال تعالي }وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ(33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا ۚ وَإِنْ كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) }[الزخرف].
وقال الله تعالي: }أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ (56){ [المؤمنون].
وقال تعالى: }قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَداًّ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ سَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً (75){ [مريم].
وقد حكى لنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حال النبي (ﷺ) ، وقد دخل عليه في غرفته، وهو على حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، وإن عند رجليه قَرَظًا مصبوبًا، وعند رأسه أهب معلقة، فرأ<