المعاهدون والمستأمنون 21 ــ 1 ــ 1444هـ
عبدالعزيز بن محمد
أيها المسلمون: دِينٌ قويمٌ، وشريعةٌ تامَةٌ، وصِراطٌ مستقيم.. هو للبشريةِ رَحمةٌ وهو للعالمينَ هدايةٌ، وهو للثَقَلَينِ نور {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} رَحِمَ اللهُ البشريةَ.. فأَرسَلَ إليهم رَسولاً يُخْرِجُهُم بِهِ من الظلمات إلى النور، ومِن الضلال إلى الهُدى، ومن الكفر إلى الإيمان.
رسولٌ يُبَلِّغُ رسالةَ اللهِ إلى الناس.. فافتَرَقَ الناسُ بين مؤمنٍ وكافِر، وبَرٍّ وفاجر، وبين مُهْتدٍ وغَوِي، وسعيدٍ وشَقِي. وامتازَ أَهلُ الإيمانِ عن أَهلِ الكفرِ.. وسارَ كُلُّ فَرِيقٍ في السَبِيْلٍ الذي اختارَهُ لِنَفسِه {..فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فرِكابُ الإيمانِ يملؤُه النور {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وَركِاَبُ الكُفرِ يَغشاهُ الشقاءُ والثبور {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}
وأَهلُ الإيمانِ.. لَهُم شريعةٌ ربانِيةٌ، ومناجٌ إلهيٌ، ودستورٌ حَكِيْم. فَلَيْسَ لِلهَوى في شريعتهم تَحْكِيمٌ، وليسَ لهم بَيْنَ يَدَي اللهِ ورَسُوْلِهِ رأَيٌ أَو تَقْدِيم.
على مَنْهَجِ الوحي المُنَزَّلِ يَنْزِلُون.. وعلى وِفْقِ الشريعةِ الغَرَّاءِ يتحاكَمون. بالعدْلِ قامَ أَمرُهُم، وبالرحمةِ شَعَّتْ رسالَتُهُم، وبالإحسانِ علا سُلطانُهم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}
فلا جَورٌ ولا عُدوان، ولا ظُلْمٌ ولا طُغيان. يُوَالُوْنَ مَنْ لَهُ حَقُّ الولايةِ في الدين، ويُعادونَ مَن لهُ حق العداءِ في الدين. يُحبونَ مَن أُمِروا بِحُبِّه، ويُبغضونَ مَن أُمِروا بِبُغْضِهِ. فَلا الحُبُّ يَدْفَعُهُم للغلوِّ فيمَنْ أَحَبُّوا، ولا البُغضُ يَدْفَعُهُمْ لِلْجَوْرِ عَلَى مَن أَبْغَضوا {..وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فَأَهلُ الإيمانِ.. بأَمرِ اللهِ يأتَمِرون، هُمْ أَرْحَمُ الناسِ بالناسِ. وهُمْ أَحْرَصُ الناسِ على هِدَايةِ الناس، وهم أَصْدَقُ الناسِ سَعْياً في نجاةِ الناسِ {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ}
لَمَّا فَرَّقَ اللهُ بَيْنَ المؤمنينَ والكافِرِينَ.. وأَبانَ مَفاصِلَ عقيدةِ الولاءِ والبراءِ في آياتٍ مُحْكَمَات.. ووَعَظَ المؤْمِنِيْنَ في صَدْرِ سُوْرةِ المُمتَحِنَةِ.. وحذَّرَهُم مِن الإخلالِ بِهَذِهِ العَقِيْدَةِ أَو التَّرَاخِيْ في الأَخذِ بها {يا أَيها الذينَ آمنوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}
حتى إذا ما استقَرَّت هذا العقيدةُ في نفوسِ المؤمنين.. أَنزَلَ اللهُ قَولَه {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} قال السعدي رحمه الله: (لما نَزَلَتِ الآياتُ الكريماتُ، المُهَيِّجَةُ على عَدَاوةِ الكافِرِيْنَ، وَقَعَتْ هَذِهِ الآياتُ مِنَ المُؤْمِنِينَ كُلَّ مَوْقِعْ، وقَامُوا بِها أَتَمَّ القِيَامْ، وتَأَثَّمُوا مِنْ صِلَةِ بَعْضِ أَقَارِبِهِمْ المشْرِكِيْنَ، وَظَنُّوا أَنَّ ذلكَ دَاخِلٌ فِيما نَهَى اللهُ عَنْهُ. فأخْبَرَهُمُ اللهُ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَدْخُلُ في المُحَرَّمْ) ا.هـ
فالكافِرُ الذي أَوْجَبَ اللهُ على المؤمنِينَ بُغْضَهُ والبراءَةَ منه.. حَرَّمَ اللهُ على المؤْمِنِين ظُلْمَهُ والجورَ عليه.
وإذا كَفَّ الكافِرُ عن المسلمينَ يَدَهُ ولسانَه، ولم يُظهِر للدينِ عَدَاءَه، فإنَّ بِرَّهُ وصِلَتَهُ والإحسانَ إليهِ.. لا يُخِلُّ بِعَقِيدَةِ المؤمنِ ولا يُنقِصُ ديانَتَه. قَالتْ أَسماءُ بنتُ أَبي بكرٍ رضي الله عنها : (قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهْيَ مُشْرِكَةٌ في عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قُلتُ: وهي رَاغِبَةٌ، أفَأَصِلُ أُمِّي؟ قالَ: نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ) رواه البخاري ومسلم تَصِلُها بِهديةٍ أَو مالٍ أَو بما تُحسنُ به إليها.
والزكاةُ التي أَوْجَبَها اللهُ على المُسْلِمِينَ في أَموالِهم، فَصَّلَ لُهم في القُرآنِ مَصارِفَها: {إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلْفُقَرَاءِ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱلْعَٰمِلِينَ عَلَيْهَا وَٱلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى ٱلرِّقَابِ وَٱلْغَٰرِمِينَ وَفِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ومِنَ المُؤَلَفِةِ قُلُوبُهم.. كافِرٌ يُرجى إِسْلامُهُ، فيُتَألَفُ بهذا المالِ قلبُه.
وإِنَّ دِيناً.. يَتَأَلفُ الكافِرَ ويُحَبِبُهُ إلى الإسلامِ، لهو دِينٌ إِلهيٌ يَتَعَالى عَن أَنظمةِ البشريةِ وقوانينها. دِينُ رحمةٍ وهدايةٍ ورُقِيٍّ وكمال، يِسعى لإنقاذ الإنسانِ من العبودِيَّةِ لغير الله.
العَدلُ له شعارُ والرحمةُ لَه دثار.. ولولا الرحمةُ والعدْلُ لما امْتَدَّ للإسلامِ في الأَرضِ بِساط. ولما دَخَلَ الناسُ في دِينِ اللهِ أَفواجاً {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أَن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.. أما بعد: فاتقوا الله عباد الله لعلكم ترحمون.
أيها المسلمون: والمجتمعُ المسلمُ.. شُدَّ كِيَانُهُ على هَديِ الكتابِ والسُّنًّةِ. فما يَزَالُ المجتمعُ في ضَمَانِ وسَلامَةٍ وأَمانٍ ما كانَ على الوحيينِ قيامُه. فإِذا ما تَراخَتْ قَبْضَةُ المجتمعِ عن الاستمساكِ بالكتابِ والسُّنةِ.. تهاوَتْ أَعِمدَتُهُ وتداعَى بُنيانُه. وإِنَّ عَبداً شَرَحَ اللهُ صدرَه للإسلامِ، وأَنارَ قلبَهُ بالإيمانِ.. لَحَرِيٌّ بِه أَنْ يَكُوْنَ لِرَبِهِ شاكِراً، وأَن يكونَ لِدِيْنِ اللهِ دَاعِياً.. وأَنْ يكونَ لتوحيدِ اللهِ حادِياً.
والمجتمعُ المسلمُ.. يُحمى مِنْ دَنَسِ الكُفرِ والكافِرِين. وإذا ما أقامَ بين المسلمينِ مُقِيمٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ ملتهم، مِمن له عهدٌ وذمةٌ وأَمان. فإِنَّ عَهْدَهُ يُرْعى، وذِمَّتَهُ تُحْفَظْ، وأَمانَهُ يُحمى، ما قامَ بِما يَجِبُ عَلَيْهِ، ووَفَّى بما عاهد عليه.
يُعامَلُ بالقسطِ، ويُؤَلَّفُ قَلْبُهُ لِقَبولِ الدِّين. ومِن الحِكَمِ التي شَرَعَ اللهُ لنبيهِ لأجلها إجارَةَ مَنِ استجارَ بِهِ مِنَ لكافِرِينَ.. (حتى يَسْمعَ كلامَ اللهِ) {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ} لما قَدِمَ جُبَيرُ بنُ مُطْعِمٍ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليفاوِضَهُ في شأَنِ أسارى بدرٍ، وكان جبيرٌ يومئذٍ مشركاً. قال جبيرٌ: (فَسَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ في المَغْرِبِ بالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هذِه الآيَةَ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} قالَ: كَادَ قَلْبِي أنْ يَطِيرَ) رواه البخاري فَكانَ سَماعُهُ لتلكَ الآياتِ.. مِنْ جُملةِ ما حَمَلَه على الدخولِ في الإسلامِ بعد ذلك.
عبادَ الله: وكَمْ بينَ أَظْهُرِ المسلمينَ اليومَ من عمالَةٍ كافِرَةٍ نَشَأَتْ على الكُفْرِ وتَرَبَّتْ عليه. تَعْمَلُ بين أَظْهُرِنا ــ سائقٌ أو خادِمَةٌ، أو عامِلٌ أو صانِع ــ يَمْكُثُ أَحدُهُم في البلادِ طَويلاً، ثم يعودُ إلى وطَنِهِ.. لَم يَسْمَعَ للهدايةِ داعياً، ولم يَرَ للرَّشادِ مُرْشِداً. قِدِمَ بِكُفرِهِ وعادَ بالكُفْرِ كما قَدِم. لَم يُدْعَ إلى الإسلامِ يوماً كما يَجِبْ، لَمْ تُشْرَحْ لَهُ فضائلُ الدينِ، ولَمْ يُتَعَاهَد بِوسائلِ الدعوةِ التي تُخاطِبُهُ بِلِسانٍ يتحدَّثُ به. يُحاجُّنا بَينَ يديِ اللهِ يومَ القيامةِ.
وأَعظمُ تجارةٍ يَرْبَحُها المُسْلِمُ.. أَن يُهدى كافِرٌ على يَدَيه، حَسَناتٌ تجري لَه مِنْ بَعْدِهْ. أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرايةَ لعليٍّ يَوْمَ خَيْبَرٍ وقال له: (..ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليهم مِن حَقِّ اللَّهِ فِيهِ؛ فو اللَّهِ لأنْ يهْدِيَ اللَّه بِكَ رجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النَّعَم) متفق عليه {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ}
اللهم اشرح صدورنا للإسلام.. وطهر بلاد الإسلامِ مِن كُلِّ رجسٍ ودَنَسٍ يا رب العالمين
المرفقات
1660886820_المعاهدون والمستأمنون 21ـ 1ـ 1444هـ.docx