المشاكل الأسريّة: أسباب وعلاج (1)- وجوب صلة الرحم 8-5-1436

أحمد بن ناصر الطيار
1436/05/06 - 2015/02/25 14:01PM
الحمد لله الذي أَمَرَ بالتآلفِ والاجتماع, ونهى عن التَّنافر والافتراق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق عباده وأعلمهم أسباب فلاحهِم ، وأخبرهم أنَّ القوة والتوفيق في اجْتِمَاعِهم, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، الذي جمع الله بِمَبْعَثِه القلوب على المحبة ، وألَّف برسالته الْمْتخاصمين فأصبحوا إخوة، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين, وسلّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله, واعلموا أنَّ الأُلفةَ وصفاءَ النُّفوس, مِنْ أهمّ مُقوِّماتِ الحياةِ السعيدة, ومِنْ آكد ما يحتاجه كلُّ فردٍ وأُسْرةٍ.
وإنَّ الناظر بعينِ البصيرةِ, والراصدَ بعين الواقعِ والحقيقة, يرى كثيرًا من البُيوت والأُسَرِ مملوءَةً بخلافاتٍ وسوءِ تفاهم, وقد وصل الأمر ببعضها إلى والتَّباغُظِ والتناحر, والتقاطعِ والتَّهاجُر.

إنَّ الأُسْرةَ هي الحاضنةُ لأفرادها, وهي الحصنُ المنيعُ - بعد الله تعالى- مِن انْحِرافهم, وهي المكان الآمن لهم من الضياع والتفرق, فإذا لم يَجِدِ الفردُ فيها الأمانَ والثقةَ والراحةَ, فأين يجدها؟.
فليس هناك ما يُغني عنها أبدًا.
ومن المعلوم أنَّ الخلاف بمجرده لا يخلو منه بيتٌ أبدًا, فهذا بيت الْمُصطفى صلى الله عليه وسلم, وهو أطهر وأفضل وأسْعدُ بيتٍ على وجه الأرض, حَصَلَ فيه من الخلافِ ورفعِ الصوتِ الشيءَ الكثير.
ولكنّ الُمصيبةَ في تلك الخلافات والمشاكل, التي تُؤثر على تماسك الأُسرة, وتُشتِّتُ شملها, وتُقْلقُ أفرادها.

ولا يخفى أنَّ بعضَ البيوت قد جثمتْ عليها هذه المشاكل, وأفسدتْ جمالَها الخلافاتُ والقلاقل, ولكنَّ بعضَها قليلةٌ لا تُذكر, وبعضَها كثيرةٌ فتُخبَر.

وإنّك لا تكاد تَلْتفِتُ يمنةً ويسرةً, إلا وترى وتلْمَسُ هذه المشاكل في بيوتِ الكثير من الناس.

ولقد وصل الأمر ببعض الأُسر, إلى اسْتدعاء الأب للشرطة لأجل أحد أبنائه, ليس لأنه مُدمن مُخدرات, ولا لأنَّه هدَّد بالقتل, ولكنْ لما وصلوا إليه من شدَّةِ الخلافات, وتصعيدِ المشاكلِ وتعقيدِها.

وبعضُها قد وصل الأمر إلى الضرب بين أفراد الأسرة, وبعضُها إلى أعظمَ وأشنع, كما نسمع كثيرًا في الصُّحف وغيرها, ولا حول ولا قوَّة إلا بالله.
فالأمر إذاً خطيرٌ جدًّا, ويحتاجُ منَّا إلى وقفةٍ مُتأنِّيةٍ وجادَّةٍ, لعلاجِ هذه الحالة الدخيلةِ على مُجتمعنا الإسلاميّ الأصيل.

معاشر المسلمين: المشاكلُ الأسريّة, إنما تنشأ من ذَوي الْقُرْبى والرَّحِمِ, الذين خرجوا من رحمٍ واحدة, فالرّحم: مُشتقٌّ من رحـم المرأة, فاسْتُعير الرحم للقـرابة؛ لكونهم خارجين من رحم واحدة.

فهذا يُؤكد على قبح قطيعة الرحم, حيث يقطع ويهجُر من خرج هو وإيّاه من رحمٍ واحدة, سواءٌ من جهة الأم والأب, أم من جهة الأجداد.
فالرحم: اسْمٌ شاملٌ لكافة الأقارب, من غير تفريقٍ بين المحارم وغيرهم.
قال ابن عثيمين رحمه الله تعالى: الأرحام الذين تجب صلتهم: مَن تجتمع بهم في الجد الرابع، هؤلاء هم الأرحام، حتى القرابةُ من جهة الأم تجب صلتهم, كما تجب صلة الأم، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم, مِنْ بِرِّ الوالدةِ أنْ تَصِلَ أقاربها. ا.ه

"وأما أقارب الزوجة, فهم أصهارٌ وليسوا بأرحام ، وكذلك أقارب الزوج بالنسبة للمرأة, أصهارٌ وليسوا بأرحام".

واعلموا معاشر المسلمين: أنه قد جاءتِ الآياتُ والأحاديثُ الكثيرة, في تعظيم صلةِ ذَوي الْقُرْبى والرَّحِمِ, وفضيلةِ ذلك:
فمنها: أنّ صلة الأرحام يزيد الله بها في العمر، ويبسط في الرزق، ويَصل من وصلها، وهي من أسباب المحبة بين الأهل والأقارب.
قال صلى الله عليه وسلم: ((من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه))( ).
وهي من أول الأمور المهمة, التي دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم في أول بعثته، ففي حديث أبي سفيان بن حرب: أنَّ هرقلَ عظيمَ الروم, قال له حينما سأله عن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم: ((ماذا يأمركم؟ قال أبو سفيان: قلت: يقول: ((اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة))( ).
وهي من أسباب دخول الجنة، فعن أبي أيوبَ الأنصاريِّ رضي الله عنه, أن رجلاً قال: يا رسول الله, أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم))( ).

وهي من أسباب النجاة من العقوبة؛ لأن قطيعة الرحم تسبب العقوبة، في الدنيا والآخرة.
فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من ذنبٍ أجدرُ أن يعجّل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا, مَعَ ما يَدَّخرُ له في الآخرة: من البغي, وقطيعة الرحم))( ).
وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يدخل الجنة قاطع))( )، يعني قاطعَ رحم.( )

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله خلق الخلق, حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذِ بك من القطيعة)). قال: ((نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟)) قالت: بلى يا رب، قال: ((فهو لك))، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقرؤوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)}.

فلْيتق الله تعالى, من كانت بينه وبين قربيه قطيعةٌ أو شحناء, ولْيعلم أنه قد ارْتكب كبيرةً من كبائر الذنوب.
وإذا ادّعى أنّ قريبه آذاه وبخسه حقّه, فليس فعلُ قريبه به, أعظمُ من فعل كفار قريشٍ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم, ومع ذلك, فعندما دخل صلى الله عليه وسلم مكةَ فاتحًا مُنْتصراً, وقفتْ أمامه جموعٌ من قريشٍ أذلةً صاغرين, وبعضهم قد كان آذى رسول الله أذىً شديداً, فمنهم من قد سبَّه وشتمه, ومنهم من اتهمه بالسحر والشعوذة, ومنهم من ضربه وضرب أصحابه, فقال لهم : ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا : أخٌ كريم وابن أخٍ كريم, فقال قولته الشهيرة : اذهبوا فأنتم الطلقاء.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: فإذا كان هذا خيرَ خلقِ الله وأكرمَهم على الله, لم يَنتقِمْ لنفسِه، مع أنَّ أذَاه أَذَى الله ، ويتعلّقُ به حقوق الدِّين، ونفسُه أشرف الأنفُس وأزكاها وأبرُّها، وأبعدُها من كلّ خُلُقٍ مذمومٍ ، وأحقُّها بكل خُلُقٍ جميلٍ ، ومع هذا فلم يكن يَنتقِم لها، فكيف يَنتقِمُ أحدُنا لنفسِه, التي هو أعلم بها وبما فيها من الشرور والعيوب؟، بل الرجلُ العارف, لا تُساوِي نفسُه عنده أن ينتقم لها، ولا قدْرَ لها عنده يُوجِبُ عليه انتصارَه لها. ا.ه

نسأل الله تعالى أنْ يُوفقنا لصلةِ أرحامنا, وأنْ يُجنّبنا قطيعتهم وهجرهم, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.

الحمد لله ذي الإفضال والإنعام، وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه والأئمة الأعلام, أما بعد:
أمة الإسلام: بعضُ الناس يصل مَن وصله, ولا يصل من قطعه أو جفاه, فوصلُه لمن وصله: ليس صلةً بل مُكافأةً على صنيعه, ولا فَضْلَ له في ذلك.
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا».
أي إنَّ الذي يصل غيره, مكافأةً له على ما قدّم من صلة, مقابلةً له بمثل ما فعل ليس بواصلٍ حقيقة؛ لأن صلته نوعُ معاوضةٍ ومبادلة, وَلَكِنَّ الوَاصِلَ حقًّا: الَّذِي إِذَا قَطعَه قريبُه وَصَلَه, وصبَرَ على جفائه وهَجْرِه.

نسأل الله تعالى أنْ يجمع شملنا, ويُزكّي نفوسنا, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.

هذا وللحديث بقيّةٌ بحول الله تعالى.
المشاهدات 2537 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا