المسجد الأقصى بين الأمس واليوم

الحمد لله .. الحمد لله الذي في السماء تعالى وتقدس واصطفى من البقاع الحرمين الشريفين والبيت المقدس، الحمد لله الذي يبلغ حمده حامد، وأشكره على نعمه التي لا يعدها عاد ولا يحيط بها راصد، الله الذي جعل الأيام دولاً والأمم بعضها لبعض آيات ومثلا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
فاتقوا الله – عباد الله - وراقبوه وأطيعوا أمره ولا تعصوه ، وما استجلبت الخيرات إلا بالطاعة وما محقت الأحوال إلا بالمعاصي والذنوب ، وإن العبد ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ).
إخوة الإيمان والعقيدة ... هذه حكاية مكان قدَّسه الله وشرَّفه وعظَّمه وكرَّمه .. إنه (المسجد الأقصى) وقدسه المقدس وإرث الأمة الخاتمة الذي يسكن قلب كل مسلم. ذكره الله في القرآن العظيم بلفظ التقديس والأرض المقدسة والمسجد الأقصى، وباركه الله وبارك ما حوله ففاضت بركته الدينية والدنيوية حتى بورك الذي حوله لبركته. أقسم الله تعالى بثمرته فقال ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ) إشارة إلى (المسجد الأقصى).
عباد الله .. جاءت شريعة الإسلام بأعظم فروضها بعد التوحيد وهي (الصلاة) متوجهاً بها إلى بيت المقدس؛ فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس بمكة ثلاثة عشر عامًا، وبعد الهجرة في المدينة سبعة عشر شهرًا، حتى نزل القرآن آمرًا نبيه بالتوجه في الصلاة إلى المسجد الحرام. والذي ارتبط ارتباطًا أزليا بالمسجد الأقصى ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) بدأ الخلق والأمر من مكة المكرمة ، وجعل الله بيت المقدس وما حوله محشر خلقه ؛ فإلى بيت المقدس يعود جميع الخلق وهناك يحشر الخلق ؛ ولذا جاء في الحديث أنها (أرض المحشر والمنشر) فهو البيت الذي عظمته الملل وأكرمته الرسل وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة من الله عز وجل: الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن.
وللمسجد الأقصى أسماء متعددة ، تدل كثرتها على شرف وعلو مكانة المسمى وقد جمع للمسجد الأقصى وبيت المقدس أسماء تقرب من العشرين أشهرها كما جاء في الكتاب والسنة المسجد الأقصى ، وبيت المقدس ، وإيلياء .
وقيل في تسميـته الأقصى لأنه أبعد المساجد التي تُزار، ويُبتغى بها الأجر من المسجد الحرام، وقيل لأنه ليس وراءه موضع عبادة، وقيل لِبعده عن الأقذار والخبائث.
وجاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه! أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا تُشدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجِد : المسجدِ الحرام والمسجِدِ الأقصَى ومَسْجِدِي هذا ). وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : " قلت : يا رسول الله : أيُّ مسجدٍ وُضِعَ في الأرضِ أوَّل ؟ قال ( المسجدُ الحرَام ) قلت: ثم أي ؟ قال ( المسْجِد الأقْصَى ) قلت : كَمْ بينهما ؟ قال ( أربعُونَ سنة ) فبَيْن بناء البيت الحرام والمسجد الأقصى أربعين عاما ، ومن المعلوم أن إبراهيم عليه السلام باني الكعبة فبينه وبين سليمان عليه السلام ما يقارب الألف عام ؛ مما يؤكد قطعا أن المسجد الأقصى بُنِي قبل سليمان بمئات السنين، وإنما كان له شرف إعادة البناء والتجديد كما فعل ذلك أولياء الله من رسله وأنبيائه بمساجد الله ومواضع عبادته ، وكما فعل عمر بن الخطاب ومن بعده من خلفاء الإسلام .
عباد الله .. إن دين الأنبياء واحد وإن اختلفت تفاصيل الشريعة ؛ فكلهم يدعو إلى التوحيد وإلى إفراد الله تعالى بالعبادة وطاعته في شرعه وأحكامه. لذا فإن كل نبي يرث أرض الله بكلمته ورسالته .. فهذا إبراهيم ولوط - عليهما السلام - وهما قبل يعقوب وإسحاق وسليمان .. يقول الله عنهما ( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِين ) وهي الشام.
ثم إنه بعد مئات من السنين أنجى الله بني إسرائيل من ظلم فرعون مصر، وهاجر بهم موسى عليه السلام من مصر إلى سيناء، وأمرهم بدخول الأرض المقدسة لكنهم أبوا وقالوا ( فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ولم يجب موسى منهم إلا رجلان فقط ، وكتب الله تعالى عليهم التيه في الأرض أربعين عاما. توفي فيها موسى عليه السلام حتى خرج جيلٌ آخر أكثر صدقًا من آبائهم فدخلوا الأرض المقدسة.
وكتب الله عليهم الإخراج إذا أفسدوا في الأرض وطغوا .. فكان ما كتبه الله ، وتوالى منهم الكفران والطغيان حتى أُخرِجُوا وتشرذموا في الأرض بعد ثلاثة قرون فقط.
ثم إنه بعد سنين أورث الله الأرض المؤمنين أتباع عيسى عليه السلام لأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده. فكما كانت للمؤمنين قبل بني إسرائيل فقد كانت للمؤمنين بعدهم ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ).
حتى أذن الله - تعالى - ببعثة سيد الثقلين وخاتم النبيين وبشارتهم محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي صلى الله عليه وسلم وكان فتح بيت المقدس إحدى بشارته - كما في صحيح البخاري - وكانت وراثته ووراثة أمته للأرض المباركة هي سنة الله الممتدة على مر العصور ومنذ عهد إبراهيم عليه السلام. وإن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في (بيت المقدس) ليلة الإسراء كانت إعلانًا بأن الإسلام هو كلمة الله الأخيرة إلى البشر .. أخذت تمامها على يد محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وأن آخر صبغة لـ (المسجد الأقصى) هي الصبغة الإسلامية .. فالتصق نسب المسجد الأقصى بهذه الأمة الوارثة .
نسأل الله تعالى أن يطهر المسجد الأقصى من أدران وأنجاس أعداء الدين، كما نسأله أن يرزقنا الصلاة فيه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
معاشر المؤمنين .. بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستقرار الخلافة للصديق أبي بكر رضي الله عنه، وكان قد سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بشر بفتح بيت المقدس. حرص أبو بكر الصديق رضي الله عنه - بعد الانتهاء من حرب الردة - أن تكون ديار المسجد الأقصى من أول البلاد المفتوحة، فوجّه لها أربعة جيوش ، وأمر خالد بن الوليد – وكان بالعراق – أن يلحق بالجيوش ، المتجة إلى بلاد الشام، فقد كان أبو بكر الصديق حريصًا كل الحرص على فتح الشام.
وفي السنة الخامسة عشر للهجرة تحققت النبوية ودخل المسلمون (بيت المقدس) ، وقال البطارقة لا نُسلِّم مفاتيح بيت المقدس إلا للخليفة عمر بن الخطاب ؛ فإنا نجد صفته في الكتب المقدسة. وجاء عمر رضي الله عنه من المدينة المنورة إلى فلسطين وتسلم مفاتيح (بيت المقدس) تسلما شريفا في قصة تكتب تفاصيلها بمداد النور ، وأشرف على مدينة القدس من (جبل المكبِّر) حيث كبَّر وكبر معه المسلمون ..
جاء على جملٍ أحمر يتعاقبه هو وغلامه، وأقبل وغلامه هو الراكب وعمر آخذٌ بخطام البعير ، ومر على مخاضةٍ من ماءٍ وطين فخلع خُفَّيه فأمسكهما بيد وأمسك خطام البعير باليد الأخرى، فاستقبله أبو عبيدة معاتبًا يقول: لقد فعلت شيئًا عظيمًا أمام أهل الأرض. فدفعه عمر بيده في صدره وقال: لو غيرك قالها ياأبا عبيدة ! فقد كنتم أذل الناس فأعزكم الله بالإسلام .. فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.
هذا هو الطريق إلى فلسطين .. دخل عمر بعزة الإسلام في يومٍ من أيام الله ، وصلى في صدر المسجد مما يلي القبلة ، وسأل عن (الصخرة) وكانت مدفونة تحت القمامة والزبل .. فأزال عنها القذر بعباءته وتبعه الناس حتى طهر المكان .
ولقد كتب التاريخ - بما لا مراء فيه - : أنه لم يهدم صومعةً ولا كنيسةً ولا معبدًا ولا دارا ، بل ترك للناس دور عبادتهم ، وكتب لأهل البلد عهدا وأمانا وأشهد عليه ..
وعلى هذا النهج سار المسلمون إلى يومنا هذا ، وشهد التاريخ أن اليهود والنصارى عاشوا أسعد فترة في ظل حكم المسلمين لفلسطين ، ومارسوا عبادتهم بحرية لم يجدوها في ظل أي حكم قبله أو بعده ؛ لأنه لا تفاضل في الإسلام إلا بالتقوى ، وليس لأحد أن يدَّعِي أنه عِرْقٌ مفضل وأن يحتقر الآخرين أو يظلمهم حتى ولو خالفوه في الدين .
أما اليوم، فبيت المقدس يجري فيه ما لم يحدث على أيدي أي غزاة في تأريخ البشرية كلها، ولم يجري ذلك في تاريخ المقدس الممتد آلاف السنين، لم يفعل غازٍ أو محتل مثل ما فعله ويفعله اليهود اليوم، وليس بعد شهادة التأريخ شهادة، وليس من رأى كمن سمع، على ما تشاهدون هذه الأيام بل في هذه الساعات.
وفي هذه الأيام يصدر تصرف استفزازي يوصف بأنه شاذ، مع أنه مدعوم من جهاتهم الرسمية! تصرف أسال الدماء وفجّر الحرب وأزهق الأرواح، اقتحام لحرمة المقدسات محاط بحراسة آلاف الجنود مسلحين بالعتاد والحراب والقنابل، تصرفات عدوانية أسالت الدماء، ورسّخت الكراهية، وبعثت الأحقاد، وأعادت أجواء الحرب، زرعٌ للحقد الأسود في مدينة الإيمان والإسلام والأرض المباركة، اعتداءات وانتهاكات في صور فضيعة تجعل من حق المظلوم أن يستخدم كل سلاح ممكن لحماية نفسه، مظلوم احتلت أرضه يقابل جيش مدجج بكل أنواع الأسلحة والآليات الفتاكة، يقابله أطفال وشباب أحداث ليس لهم حيلة إلا العصي والحجارة والصراخ!! ليدافعوا عن أنفسهم ومقدساتهم وأرضهم ومنازلهم.
أين العدل؟ وأين الإنصاف؟! وأين حقوق الإنسان؟!! من شعب يعيش منذ سبعين عاماً في احتلال، في مخيمات، وفي ملاجئ، والملايين منه يعيشون في التشريد والشتات. شعب فلسطين حياته كلها خوف، وتعذيب، واعتقال، وطرد، تهدم البيوت، وتغلق المدارس، بل تغلق المخازن والمتاجر لتسد عنهم أبواب الرزق القليلة!! تجويع وبطالة، استيلاء على الأرض، وتحكم في مصادر المياه بل تحكم في فرص الحياة.
محتل يلاحق من يشاء! ويتهم من يشاء! ويقتل من يشاء! ويعتقل من يشاء! ينشئ المستوطنات، ويقيم الحواجز، ويبني الأسوار! ويغلق المدن والقرى! ثم يزعم أنه يريد السلام.
إن مشاهد ة هذه المناظر ومتابعة الأحداث تقطع الأمل في الرغبة الجادة في السلام، إن من بديهيات الأمور وأبجديات التفكير أن السلام الذي يبنى على أساليب القهر والإذلال والتعسف والإملاء والابتزاز غير السلام الذي يبنى على الحق والعدل والمساواة والتكافؤ والندية.
أيها المسلمون ... إن ما يجري في بيت المقدس وفي فلسطين المحتلة امتحان شديد لأمة الإسلام، أمة الإسلام أمة معطاء تجود ولا تبخل، في تاريخها المشرق الطويل قدمت ما يشبه المعجزات، أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أمة الإسلام، وأمة الجهاد، وأمة العزة، لا تعجز بإذن الله أن تجد لنفسها بتوفيق الله وعونه مخرجاً من أزمتها وعطلها الحضاري، والقدس والأرض المباركة أغلا وأثمن وأكبر.
فيجب أن يعي المسلمون ويعلنوا أنه لا سبيل لاستخلاص الحقوق، واستنقاذ المغتصبات، بأي مكان وعلى أي أرض، إلا حينما يعتصمون بحبل الله، ويكونون جميعاً ولا يتفرقون، ويصطفون عباداً لله إخوانا، يجمعهم نداء واحد. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرحٌ مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس، وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين، وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين.
اللهم انصر عبادك المؤمنين .. وامحق أهل الكفر والشرك يا رب العالمين.
المشاهدات 1815 | التعليقات 0