المسارعةُ في الخيراتِ-16-9-1444هـ-مستفادة من خطبة الشيخ راكان المغربي(خط كبير)
محمد بن سامر
المسارعةُ في الخيراتِ-16-9-1444هـ-مستفادة من خطبة الشيخ راكان المغربي
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
وبعدُ: فيا إخواني الكرامُ:
أثنى اللهُ-سبحانه-على أنبيائِه ورسلِه-عليهم الصلاةُ والسلامُ-فقالَ: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ).
وأثنى على صالحي الأممِ قبلَنا، فقالَ-سبحانه-: (مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ) إلى أن قال: (وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ).
وذكرَ اللهُ لنا أقسامَ هذهِ الأمةِ، وأعلى هذه الأقسامِ فقالَ-سبحانَه-: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) إلى أنْ قالَ: (وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ).
إذًا فالمسارعةُ إلى الخيراتِ هي الصفةُ المشتركةُ بين الأنبياءِ والرسلِ-عليهم الصلاةُ والسلامُ-والصالحينَ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.
فهل لنا أن ندخلَ مضمارَ السباقِ، ونزاحمَ المتسابقين، ونسعى لِلَّحاقِ بهم؟
أولُ ما يجبُ الانتباه له في مضمارِ السباقِ هو وجهةُ المتسابقينَ، فإلى أينَ يتجهونَ؟ وإلامَ يتسابقونَ؟
إنهم يسارعونَ إلى ما أمرهم اللهُ بالمسارعةِ إليه: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) لأنهم يتعثرونَ في السباقِ، وتُرْهقُهم الذنوبُ، فهم يسارعونَ إلى التوبةِ ليغفرَ اللهُ لهم ذنوبَهم، ويقومونَ إلى السباقِ كأنهم لم يتعثروا من قبلُ، إنهم يرون بأمِ أعينِهم عاقبةَ ذنوبِهم حين تحرمُهم الطاعاتِ، وتجلبُ لهم المصائبَ، وتُغْرِقهم في الهمومِ والغمومِ في الدنيا، وتعرضَّهم للعذابِ في الآخرةِ، فيسارعونَ إلى التوبةِ ومغفرةِ اللهِ ليخففَ عنهم الأحمالَ، ويرفعَ عنهم الأثقالَ، فتصفوَ قلوبُهم، وتَطْهُرَ نفوسُهم.
ويسارعون إلى جنةٍ عرضُها السماواتُ والأرضُ، ليسمعوا أجملَ نداءٍ: "يا أهلَ الجنةِ: إنَّ لَكُمْ أنْ تَصِحُّوا فلا تَسْقَمُوا أبَدًا، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَحْيَوْا فلا تَمُوتُوا أبَدًا، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَشِبُّوا فلا تَهْرَمُوا أبَدًا، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَنْعَمُوا فلا تَبْأَسُوا أبَدًا (وَنُودُوا أنْ تِلْكُمُ الجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)".
أخي الحبيب: هل أعجبتْك مباهي الدنيا وزينتُها التي يتهافتُ الناسُ عليها سِراعًا؟!
أموالهُا الثمينةُ، وبساتينُها الجميلةُ، وثمارُها اللذيذةُ، وشلالاتُها المنهمرةُ، وقصورُها الفاخرةُ، ومجوهراتُها اللامعةُ.
كلُّ ذلك وغيرُه من نعيمِ الدنيا، إذا قارَنْتَه بمكانِ سوطٍ-عصا-في الجنةِ، سيكونُ ذلك المكانُ أحلى وأجملَ، وأروعَ وأبهى، قالَ رسولُ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلمَ: "لموضعُ سوطٍ في الجنةِ خيرٌ مِن الدنيا وما فيها".
فأيُّ الوجهتينِ أحقُ بالسباقِ الدنيا أم الآخرةُ؟!
قالَ العليمُ-سبحانه-يعلمنا: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ*سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
وحين تتأملُ في مضمارِ السباقِ، تجدُ أنَّ القومَ لا يتسابقونَ بأقدامِهم، ولا بمراكبِهم، وإنما يتسابقونَ بقلوبِهم، فهي التي تقودُ أرواحَهم وأجسادَهم إلى رضوانِ اللهِ، يتجهون إلى الله حُبًا ورَغَبًا ورَهَبًا، زينتُهم الإخلاصُ، وزادُهم التقوى، قالَ يحيى بنُ معاذٍ-رحمه اللهُ تعالى-: "مَفَاوِزُ الدنيا تُقْطَعُ بِالْأَقْدَامِ، وَمَفَاوِزُ الآخرة تُقْطَعُ بِالقلوبِ".
في مضمارِ سباقِ القلوبِ لن تستغربَ أنْ تجدَ متسابقَينِ اثنينِ وصلا إلى المنزلةِ نفسِها، أحدُهما جاهدَ في سبيلِ اللهِ، وواجَه المخاوفَ، وتَعَرَّضَ للأخطارِ حتى كُتبتْ له الشهادةُ، والآخرُ ماتَ على فراشِه بين أهلِه وأحبابِه وأموالِه، وذلك لأنهما سابقا بقلبيهما إلى اللهِ، قالَ النبيُ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلمَ-: "مَن سَأَلَ اللَّهَ الشَّهادَةَ بصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنازِلَ الشُّهَداءِ، وإنْ ماتَ علَى فِراشِهِ".
ولن تستغربَ أن ترى في جموعِ المنحرفينَ عن السباقِ، رجلًا أمضى حياتَه في كتابِ اللهِ حفظًا وتعلمًا وتعليمًا، ورجلًا جاهدَ حتى قُتلَ، ورجلًا أنفقَ مالَه حتى أفناه في الخيرِ، ستراهم في خارجِ السباقِ لأنهم لم يسابقوا بقلوبِهم إلى اللهِ، وانحرفَ بهم المسارُ، فلم يصلوا إلى مغفرةِ اللهِ وجنتِه، وإنما وصلوا إلى ما أرادوا من الرياءِ والسمعةِ، سابقوا إلى حيثُ يُقالُ لهم: فلانٌ قارئٌ، فلانٌ شجاعٌ، فلانٌ جوادُ، أولئك الذينَ قالَ عنهم النبي-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلمَ-: "يا أبا هريرةَ أولئِك الثَّلاثةُ أوَّلُ خلقِ اللهِ تُسعَّرُ بِهمُ النَّارُ يومَ القيامةِ".
وفي ذلك المضمارِ ستجدُ مساراتٍ متعددةً للخيراتِ، فهم لا يسارعونَ في خيرٍ واحدٍ، وإنما يسارعونَ في أنواعٍ من الخيرِ: فمنهم من يسارعُ في الصلاةِ، ومنهم يسارعُ في الصيامِ، ومنهم من يسارعُ في الإنفاقِ، ومنهم من يسارعُ في الدعوةِ إلى اللهِ، ومنهم من يسارعُ في الإحسانِ، ومنهم من يسارعُ في البِرِّ والصِلةِ، ومنهم يسابقُ في هذه المساراتِ جميعًا، قالَ النبيُ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلمَ-عن أبوابِ الجنةِ: "فمَن كانَ مِن أهْلِ الصَّلاةِ، دُعِيَ مِن بابِ الصَّلاةِ، ومَن كانَ مِن أهْلِ الجِهادِ، دُعِيَ مِن بابِ الجِهادِ، ومَن كانَ مِن أهْلِ الصَّدَقَةِ، دُعِيَ مِن بابِ الصَّدَقَةِ، ومَن كانَ مِن أهْلِ الصِّيامِ، دُعِيَ مِن بابِ الرَّيّانِ، فقالَ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يا رَسولَ اللهِ، ما علَى أحَدٍ يُدْعَى مِن تِلكَ الأبْوابِ مِن ضَرُورَةٍ، فَهلْ يُدْعَى أحَدٌ مِن تِلكَ الأبْوابِ كُلِّها؟ قالَ رَسولُ اللهِ-صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-: نَعَمْ، وأَرْجُو أنْ تَكُونَ منهمْ".
وفي ذلكَ المضمارِ ستجدُ أنَّ السيرَ مستمرٌ لا يتوقفُ، دائمٌ لا ينقطعُ، في رمضانَ وفي غيرِ رمضانَ، قد يتباطَأُ حينًا ولكنه لا يتوقفُ، فالسائرونَ يداومونَ على العملِ كما كانَ حالُ النبيِّ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلمَ-الذي "كانَ عَمَلُهُ دِيمَةً-دائمًا لا ينقطعُ-"، والذي كان يقول: "إنَّ أحَبَّ الأعْمَالِ إلى اللَّهِ ما دَامَ وإنْ قَلَّ".
تلك هي بعضُ معالمِ المضمارِ، فإن توقدتْ عزيمتُك، واشتعلتْ همتُك لتكونَ من المتسابقينَ فيه، فأنصتْ إلى كلامِ ربِّك يصفُ لكَ حالَ المسارعينَ وصفاتِهم، التي تحلّوا بها فسبقوا وفازوا، قال-سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ*وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ*وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ*وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ*أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ).
فهؤلاءِ هم الـمُسارِعُونَ في مضمارِ الخيراتِ، وهؤلاء هم السابقون إلى الجناتِ، جعلنا الله وإياكم والمسلمينَ منهم، أستغفر اللهَ لي ولكم وللمسلمين...
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:
فإنَّ حياةَ الصالحينَ كلَّها سباقٌ ومسارعةٌ إلى مغفرةِ اللهِ وجناتِه، وفي المواسمِ الفاضلةِ يحمى السباقُ، ويشتدُ السيرُ، وتتضاعفُ السرعةُ.
في مثلِ هذهِ الأيامِ من العشرِ الأواخرِ من رمضانَ كانَ سيدُ السابقينِ نبينُا محمدٌ-صلى اللهُ عليهِ وآلِه وسلمَ-يضاعفُ السرعةَ إلى الدرجةِ القُصوى، تقولُ أمُنا عائشةُ-رضي اللهُ عنها-: "كانَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلِه وسلمَ-يجتهِدُ في العشْرِ الأواخِرِ ما لا يجتَهِدُ في غيرِها"، لأنه كانَ يعلمُ أنَّ فيها ليلةَ القدرِ التي هي خيرٌ من ألفِ شهرٍ.
ليلةٌ ما هي إلا عشرُ ساعاتٍ تقريبًا في زماننا ومكاننِا هذا، عشرُ ساعاتٍ تساوي أكثرَ من ثلاثٍ وثمانينَ سنةً. الساعةُ الواحدةُ منها تساوي أكثرَ من ثمانِ سنواتٍ، والدقيقةُ الواحدةُ تساوي أكثرَ من تسعةٍ وأربعين يومًا، فمنْ يسبقُ بدقيقةٍ واحدةٍ فقد قطعَ مسافةً شاسعةً، فكيف بمنْ يسبقُ بساعةٍ، وكيفَ بمن يسبقُ بالليلةِ كلِّها؟!
إنَّ هذا لهو الفوزُ العظيمُ، وإنَّ فواتَه لهو الحرمانُ الكبيرُ.
يا حيُّ يا قيومُ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ، أسألكَ بأسمائِك الحُسْنَى، وصفاتِك العُلَى، اللهم أصلحْ وُلاةَ أُمورِنا وأُمورِ المسلمينِ وبطانتَهم، ووفقهمْ لما تحبُ وترضى، وانصرْ جنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالمينَ غانمينَ، اللهم اهدنا والمسلمينَ لأحسنِ الأخلاقِ والأعمالِ، واصرفْ عنا وعنهم سيِئها، اللهم اغفرْ لوالدينا وارحمْهم واجعلْهم في الفردوسِ الأعلى من الجنةِ وإيانا والمسلمينَ، اللهم إنَّي أسألك لي وللمسلمينَ من كلِّ خيرٍ، وأعوذُ وأعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، وأَسْأَلُكَ لي ولهم العفوَ والْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، والدينِ والأهلِ والمالِ، اللهم اشفنا واشفِ مرضانا ومرضى المسلمينَ، اللهم اجعلنا والمسلمينَ ممن نصرَك فنصرْته، وحفظَك فحفظتْه، حسبيَ اللهُ ونعمَ الوكيلُ لا إلهَ إلَّا هوَ عليهِ توكلتُ وهو ربُّ العرشِ العظيمِ، اللهُمَّ عليك بأعداءِ الإسلامِ والظالمينَ فإنهم لا يعجزونَك، اكفنا واكفِ المسلمين شرَّهم بما شئتَ، اللهُمَّ إنَّا نجعلُكَ في نـُحورِهم، ونعوذُ بكَ مِنْ شرورِهم.
اللهم صلِ وسلمْ وباركْ على نبيِنا محمدٍ وآلِهِ وصحبِهِ، والحمدُ للهِ ربِ العالمينَ.
المرفقات
1680768798_المسارعةُ في الخيراتِ-16-9-1444هـ-مستفادة من خطبة الشيخ راكان المغربي.docx
1680768798_المسارعةُ في الخيراتِ-16-9-1444هـ-مستفادة من خطبة الشيخ راكان المغربي.pdf