المسارعة إلى الخيرات

المسارعة إلى الخيرات

عبدالله بن عبدالرحمن الرحيلي

ألقيت في جامع حمراء الأسد – المدينة المنورة

 14/ 7/ 1442

 

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله قدوة الخلق أجمعين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه الغر الميامين، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فاتقوا الله ـ عبادَ الله، واستقيموا على أعمالِ الخير والطاعة، إلى أن تقومَ السّاعة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102].

 

أيها المسلمون: لقد دعاكم ربكم إلى المسارعة إلى الطاعات، وأمركم باستباق الخيرات واغتنام الباقيات الصالحات .

 

قال الله -تعالى-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران:133-134].

 

إن المؤمنين في سباق بل أعظم سباق، سباق إلى طاعة  الكريم الخلاق، سباق في ميادين الصلاة والصدقة والبر وكريم الأخلاق.

 

إنها مسارعة ومبادرة ومسابقة، تعلقت في النصوص بأسباب دخول الجنة وأسباب المغفرة، وهي الأعمال الصالحة، فالمسابقة والمنافسة إنما تكون فيها، والمبادرة والمسارعة لا تكون إلا إليها.

 

لقد سارع الأنبياء الكرام عليهم السلام  إلى ربهم بما يرضيه، قال الله تعالى عن نبيه الله زكريا -عليه السلام- وبقية أهله الصالحين (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء:90].

 

وعن صفات المؤمنين المتقين المسارعين المبادرين قال عز وجل (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[المؤمنون:61]. إذا سمعوا بفضيلة فعلوها وسارعوا إليها، وكلما سنحت لهم فرصة في الطاعة تنافسوا عليها.

 

أيها المؤمنون: إن المؤمنين في مسابقتهم في الأعمال الصالحة يتفاوتون تفاوتًا عظيمًا  (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)[الواقعة: 10 - 12]؛ ففي الجنةِ تَتَفَاضَلُ الدرجات بَحَسَبِ السَّبْقِ والمسارعةِ، فَالسابق في الدُّنْيا إلى الخيرات هُوُ السابقُ في الآخرةِ إلى الجنات: 

قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنْ الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ؛ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ" قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ: "بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِالله وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ".

 

ينال المسارع ما هو أكبر من الجنة ونعيمها وظلالها، وهو رضوان الله الذي هو أكبر من كل شيء، (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)[طه: 84] ولا يُدرِكُ المفاخِرَ مَن رضِيَ بالصفِّ الآخر.

 

 عباد الله: تأملوا هذه النماذِج العجِيبة مِن صحابةِ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -: فقد سألَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أصحابَه يوما: "مَن أصبح منكم اليوم صائمًا؟"، قال أبو بكر: أنا، قال: "فمَن تَبِعَ منكم اليوم جنازة؟"، قال أبو بكر: أنا، قال: "فمَن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟"، قال أبو بكر: أنا، قال: "فمَن عاد منكم اليوم مريضًا؟"، قال أبو بكر: أنا، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمعْنَ في امرئ إلا دخل الجنَّة" فلم يكن أبو بكر -رضي الله عنه- مستعدًا لذلك السؤال، ولكنه كان معتادًا أن يبادر أيامه بالاستكثار من الباقيات الصالحات.

 

إنها نفوس زاكيات وهمم عاليات.. سمت إلى رفيع الدرجات وعالي المقامات ..

 

جاء فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ يوما إلى رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟" قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ" قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: "تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً".

 

الله أكبر.. إنها مسارعة لا روية معها، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلا فِي عَمَلِ الآخِرَةِ".

 

والصحبةُ الصالحةُ هي التي يَغْلِبُ على أفْرَادِها التنافسُ في الصالحات، يَأْلَفُون الجِدِّيِّةَ والعمل، ويَنْبِذُونَ الدَّعَةَ والكَسَل، يَتَنافَسون في حِفْظِ القران، وطَلَبِ العِلمِ، ومشاريع الخير والعطاء، والسعيِّ في حاجةِ المساكين والضعفاء.

 

عبد الله: إذا حضرت لك فرصة الطاعة، فبادر إليها؛ فإن العزائم سريعة الانتقاض قلما تثبت، والله سبحانه يعاقب من فتح له بابا من الخير فلم ينتهزه، بأن يحول بين قلبه وإرادته، ..

قال خالد بن معدان رحمه الله: "إذا فتح لأحدكم باب خير فليسرع إليه، فإنه لا يدري متى يغلق عنه".

 

فاتقوا الله -عباد الله-، وبادروا أعماركم بأعمالكم، واغتنموا الأوقات بالأعمال الصالحات؛ فإن حقيقة العمر ما أمضاه العبد بطاعة الله، وما سوى ذلك فذاهب خسارا.

 

بارك الله لي ولكم...

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

عباد الله: لقد يسر لكم المولى الكريم سبل الخيرات، وفتح أبوابها، ودعاكم لدخولها، وبين لكم ثوابها.

فهذه الصلوات الخمس آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، هي خمس في الفعل وخمسون في الميزان.

و"لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ -أي التبكير- لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا"، و"من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح"، و"كل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى"، و"إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها".

 

فبادر عبدالله وسارع وسابق "اغتَنِم خَمسًا قبلَ خَمسٍ: شَبابَك قبلَ هَرَمِك، وصِحَّتَك قبلَ سَقَمِك، وغِناكَ قبلَ فَقرِك، وفَراغَكَ قبلَ شُغلِك، وحياتَك قبلَ مَوتِك".

 

أمركم نبيكم صلى الله عليه وسلم بالمبادرة إلى الصالحات قبل وقوع الفتن والمشغلات فقال: "بادِرُوا بالأعمالِ فِتنًا كقِطَع الليلِ المُظلِم، يُصبِحُ الرجُلُ مُؤمنًا ويُمسِي كافِرًا، ويُمسِي مُؤمنًا ويُصبِحُ كافِرًا، يَبِيعُ أحدُهم دينَه بعَرَضٍ مِن الدنيا"، وفي الحديث الآخر "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا: هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوْ الدَّجَّالَ؛ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ؛ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ".

 

فلله أقوامٌ يُبادِرُون الأوقات، ويُلازِمُون الطاعات، ويُسارِعُون في الخيرات؛ قال وهيب بن الورد: "إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحدٌ فافعل"، وقال عبد الرحمن بن مهدي: لو قيل لحماد بن سلمة: إنك تموت غدا، ما قدر أن يزيد في العمل شيئا.

 

فاستَكثِروا عباد الله من فعْل الخيرات، وسابقوا إلى عمل الطاعات، واملأوا صحائفكم بالباقيات الصالحات. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الحج:77].

 

اللهم ارزُقنا الاستِقامة على الطاعات، والمُسارعةَ إلى الخيرات، والثبات على الحقِّ حتى الممات.

 

ثم صلوا وسلموا عباد الله على من سارع إلى طاعة ربه وما تأخر، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

 

اللهم صل وسلم على نبينا محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم.

المرفقات

1615725109_خطبة المسارعة إلى الخيرات.docx

1615725110_خطبة المسارعة إلى الخيرات.pdf

المشاهدات 894 | التعليقات 0