المساجد فضائلها وآدابها
عبدالعزيز أبو يوسف
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين ، مجيب الداعين ، ومغيث المستغيثين ، رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما ، والصلاة والسلام على خير البرية وأزكى البشرية محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله تنالوا الخير العظيم في الدنيا والآخرة كما وعد ربكم جل وعلا بقوله: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) ، وقال سبحانه في وعده للمتقين: ( ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويُعظم له أجرا) .
أيها المسلمون: فاضَلَ الله تعالى بين خلقهِ واختارَ ما شاء بفضلِه، وتعَبَّدَنا جل وعلا بمعرفة ما جاء النصُّ بتفضيلِه والامتِثالُ بالمشروعِ فيه، وللمُسلم في هذا باعِثٌ على السبقِ إلى الفضائل، والتنافُس على أعلى المراتب فيما فُضل، ومنشَأُ التفاضُل بين الخلقِ التقوَى وتحقيق العبودية، والأرض منازلها على قَدر ذلك، فأحبُّها إلى الله تعالى مواطِن عبوديته، قال عليه الصلاة والسلام : «أحبُّ البلاد إلى الله مساجِدُها» رواه مسلم ؛ وذلك لما خُصَّت به من كونها موطناً لاجتماع المسلمين للعبادة والتقرب لله تعالى وذكره ، وإن من تعظيم الله تعالى تعظيم ما عظم وأعلى من شأنه جل وعلا ومن ذلك المساجد، وأشرفُها وأعظمُها المسجد الحرام، أولُ مسجدٍ وُضِعَ في الأرض، : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ)، أوجَبَ الله حجَّه مرة في العمر، وجعَلَه قبلةً للمسلمين، والصلاةُ فيه بمائة ألفِ صلاةٍ فيما سِواه.
وثاني المساجدِ فضلاً مسجِدُه عليه الصلاة والسلام ، صلاةُ فيه خيرٌ من ألف صلاةٍ فيما سِواه إلا المسجد الحرام، وهو آخرُ مسجِدٍ بنَاه نبيٌّ ، ثم المسجِدُ الأقصى أُولى القبلَتَين ومسرَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وُضِعَ في الأرض بعد المسجِدِ الحرام، صلاة فيه بخمسمائة صلاة، وإلى هذه المساجد الثلاثة تُشدُّ الرِّحالِ دون سِواها، ثم مسجِدُ قُباء ، كان عليه الصلاة والسلام يأتِيه كل سبتٍ ماشِيًا وراكِباً، فمن تطَهَّر في بيتهِ ثم أتى مسجِدَ قُباء فصلَّى فيه صلاةً كان له كأجر عمرة، رواه ابن ماجه.
وليس في الأرض مسجِدٌ له مزيدُ فضلٍ سِوى الثلاثة مساجِد ومسجِد قُباء، وما سِوى ذلك فلها حكم سائر المساجد.
عباد الله: المساجِد بيوتُ الله تعالى أضافها لنفسه تشريفًا وتكريمًا، فقال سبحانه: ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً)، من بنَاها يبتغي وجه الله تعالى وُعِد بالجنة، قال صلى الله عليه وسلم :" من بنَى لله مسجداً ليذكر الله عز وجل فيه بنى الله له بيتاً في الجنة " رواه الترمذي والنسائي.، و شهِدَ الله تعالى لمن سعى في عمارتها بالإيمانِ والهدايةِ، فقال سبحانه):إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ).
قاصِدُها والماشي لها أجرُه عظيم، له بكلِّ خطوةٍ يخطُوها حسنة، ويرفعُ بها درجة، ويحُطُّ عنه بها سيئة ، رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: " من غدَا إلى المسجد أو راحَ، أعدَّ الله له في الجنة نُزُلًا كلما غدَا أو راحَ"متفقٌ عليه.
لزُومُ المساجد والتعلق بها دليل صلاح وخير وفلاح للعبد، قال صلى الله عليه وسلم : " سبعة يضلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: رجلٌ قلبه مُعلَّقٌ بالمساجد"، رواه البخاري، قال النوويُّ رحمه الله: "معناه: شديدُ الحبِّ لها والملازمَة للجماعة فيها".
وإذا دخل المسلم المسجد كان في صلاةٍ ما كانَت الصلاةُ تحبِسُه، وتُصلِّي عليه الملائكةُ ما دامَ في مجلِسِه الذي يُصلِّي فيه، تقولُ: "اللهم اغفِر له، اللهم ارحَمه" ، رواه البخاري، وانتظار الصلاة بعد الصلاة في المسجد من أعظم أنواع الرباط ، وكذا لزومها للذكر ولو لأوقات يسيرة ونوى المسلم ذلك اعتكافاً فهو على خير عظيم.
أيها الفضلاء: أعلى الإسلامُ شأن المساجد، وعظَّم من يقوم بخدمَتِها والقيام عليها، فقد عليه الصلاة والسلام امرأة كانت تقُمُّ مسجِدَه فسأل عنها ، فقالوا: ماتَت، فقال: «دلُّونِي على قبرِها»، فدلُّوه فصلَّى عليها ، رواه البخاري، وحذر عليه الصلاة والسلام من إهمال نظافة المساجد والتهاون في ذلك فعن عَنْ أبي ذَرٍّ رضي اللهُ عنه قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «عُرِضتْ عليَّ أعمالُ أمَّتِي، حسَنُها وسَيِّئُها، فوجدتُ في محاسنِ أعمالِها الأذَى يُماطُ عنِ الطَّريقِ، ووجَدتُ في مساوِئ أعمالِها النُّخاعَةَ تكونُ في المسْجِدِ لا تُدْفَنُ» رواه مسلم، وتوعد الله تعالى من سعى بإفساد بيوته أو إلحاق الضرر بها بأي صورة فقال : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم).
ومن تعظيمها: لزُوم السكينَةِ والوَقارِ في الهيئة والمِشيَةِ إليها، قال صلى الله عليه وسلم : "إذا أُقيمت الصلاة فلا تأتُوها تسعَون وأْتُوها تمشُون عليكم السكينة، فما أدرَكتُم فصلُّوا، وما فاتَكم فأتِمُّوا "متفقٌ عليه.
ومن تعظيمها أخذ الزينة عند الإتيان لها استجابة لأمر الله تعالى القائل: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ).
وإذا أراد المصلي الدخول للمسجد قدِّم رِجلَه اليُمنَى عند دخوله تشريفاً لكونِه موطِنَ عبادةٍ، فإذ دخَلَ قال: «اللهم افتَح لي أبواب رحمتك»، وإذا خرَجَ قدم رجله اليسرى وقال: اللهمَّ إني أسألُك من فضلِك، رواه مسلم، وفي حديث آخر :" إذا دخل المسجد قال: بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وأفتح لي أبواب رحمتكـ، وإذا خرج قال: بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك" رواه الإمام أحمد.
ومن دخَلَ المسجد في غير وقت إقامة صلاة لا يجلس حتى يُصلِّي ركعتين تحيةً له كما ورد بذلك الحديث المتفق عليه .
والصف الأول في المسجد يتسابق إليه الموفقون، قال عليه الصلاة والسلام : "لو يعلَمُ النَّاسُ ما في النِّداءِ والصَّفِّ الأوَّلِ ثمَّ لم يجِدوا إلاَّ أن يستَهِمُوا عليهِ لاستَهَمُوا"رواه مسلم.
وتلقِّي العلمَ في المساجد خيرٌ من متاعِ الدنيا كله، قال عليه الصلاة والسلام" :أفلا يغدُو أحدُكم إلى المسجدِ فيعلَمُ أو يقرأُ آيتيْنِ من كتابِ اللهِ خيرٌ لهُ من ناقَتَيْنِ، وثلاثٌ خيرٌ لهُ من ثلاثٍ، وأربعٌ خيرٌ لهُ من أربع، ومن أعدادِهنَّ من الإبلِ " رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم :" ما اجتمَعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللَّهِ يتلونَ كتابَ اللَّهِ ، ويتدارسونَهُ فيما بينَهم إلَّا نزلَت عليهِم السَّكينةُ ، وغشِيَتهُمُ الرَّحمةُ ، وحفَّتهُمُ الملائكَةُ ، وذكرَهُمُ اللَّهُ فيمَن عندَهُ" رواه مسلم.
وقد اتَّخذَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من مسجِدِه موطِنًا للتعليم والتربية والتوجيه، فأثمَرَ جيلاً لا كان ولا يكون مثله، وكان صلى الله عليه وسلم يستقبل الوفود في مسجده وربما ربط الأسير في المسجد كما فعل بجبير بن مطعم رضي الله عنه، فلأهمية المسجد في حياة المسلمين كان أول عمل قام به صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة بناء المسجد، ثم توالت عصور أهل الإسلام على هذا المنهج القويم فكانت المساجد منابر لتلقي العلوم ومدارستها والاجتماع على الخير والصلاة .
أيها المباركون: المساجِدُ تهدأُ فيها الروحُ وتسكُنُ فلا يُرفع فيها صوتُ نزاعٍ أو خُصومةٍ أو لغَط، قال صلى الله عليه وسلم محذراً من رفع الصوت فيها وهو يسوي الصفوف للصلاة:«إياكم وهيشَات الأسواقِ» رواه مسلم.
وتعظيمًا لشأنِ المُتعبِّدِ فيها لا يُؤذَى ؛ فقد جاء رجلٌ يتخطَّى رقابَ الناس يوم الجمعة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "اجلِس فقد آذَيتَ " رواه أبو داود.
ونهت الشريعة عن اتيان المساجد لمن رائحته كريهة حفاظاً على خشوع المصلين وطمأنينتهم، فقال عليه الصلاة والسلام" : من أكل ثُومًا أو بصلاً فليَعتزِلنا، أو ليعتزِلَ مسجدَنا، وليقعد في بيتِه" متفقٌ عليه، قال ابنُ الأثير رحمه الله ":ليس ذلك من باب الأعذار، وإنما أمَرَهم بالاعتِزال عقوبةً لهم ونكالاً".
أيها المصلون: المساجد مواطِنُ تذكُّر الآخرة، وتقوِيَة الصِّلَة بالله تعالى، والبُعد عن الدنيا والتخفف من همومها وأحزانها؛ فنُهِيَ عن البيع والشراء فيها والسؤال عن المفقود، قال عليه الصلاة والسلام : "إذا رأيتُم من يبيعُ أو يبتاعُ في المسجدِ، فقولوا: لا أربَحَ اللهُ تجارتَك "رواه الترمذي، وقال عليه الصلاة والسلام: "من سمِعَ رجُلاً ينشُدُ ضالَّةً في المسجد فليقُل: لا ردَّها الله عليك، فإن المساجد لم تُبنَ لهذا"رواه مسلم.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا قدِمَ من سفرٍ بدأ بالمسجد فصلَّى فيه رواه البخاري.
والمعصيةُ قبيحةٌ في كل زمانٍ ومكانٍ، وتزدادُ قُبحًا وسوءً في بيوتِ الله تعالى؛ كالغِيبةِ، والنميمة ، والكذب ، والنظرِ إلى الحرام عبر أجهزة الهاتف المحمول، وتشغيل أصواتِ المعازِفِ في وسائل الاتصال مما قد تساهل فيه بعض المصلين هداهم الله.
فعظموا أيها المسلمون بيوت ربكم جل وعلا وأعرفوا آدابها وسننها تكونوا من الفائزين.
باركَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعَني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم ولجميعِ المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
عباد الله : المساجِدُ عزُّ المسلمين، وشرَفُهم وشعارُ دينهم، وفيها مغنم للأجور العظيمة، فهنيئاً لمن كان معلقاً قلبه بالمساجد ساعياً في بنائها وتطيب رائحتها وفرشها و تهيئتها للمصلين بالتنظيف والصيانة لها ولأماكن الوضوء وغير ذلك مما تحتاجه، فمن حُرِم من المساهمة في ذلك أو صدَّ عنه فقد فاتَهُ فضلٌ وخير عظيم، وإن من نعم الله تعالى ما تقوم به هذه البلاد المباركة وولاة الأمر حفظهم الله بعمارة المساجد والعناية بها ودعمها ورعايتها وتخصيص مكافآت للأئمة والمؤذنين والخطباء فجزاهم الله خيراً وبارك في جهودهم وبذلهم .
ومن كان مقصراً في التأدب بآداب المسجد فليراجع نفسه وليقلع عن هذا التقصير والخطأ وليتب إلى الله تعالى ، وليحفظ لبيوت الله تعالى حرمتها فلا يرفع فيها صوتاً ولا يُحدث فيها ما يفسدها ، وليتجنب إيذاء الملائكة والمصلين فيها بأي أمر من رائحةٍ كريهة أياً كان مصدرها أو يزعج المصلين بصوت هاتفه فيذهب خشوعهم أو غير ذلك من صور الإيذاء والإفساد لبيوت الله وقاصديها.
وما أجمل أن يُعلق الآباء أبنائهم بالمسجد ويصطحبوهم معهم للصلاة إذا بلغوا سن التمييز ويرشدوهم لآداب المسجد وسننه وفضائله حتى يشبوا على هذا الخير العظيم من التعلق ببيوت الله تعالى وتعظيمها .
اللهم اجعل قلوبنا معلقةً بالمساجد ، واجعلنا من المبادرين لعمارتها وخدمتها ابتغاءً للثواب العظيم والأجر الكبير.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمرنا المولى بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل عليماً: ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) ، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر ، وأرضى اللهم عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن سائر الصحب والآل ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعدائك أعداء الدين ، وانصر عبادك الموحدين ، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال ، اللهم مدهما بعونك ونصرك وتوفيقك ، اللهم انصر جنودنا المرابطين على حدودنا ، وأحفظهم بحفظك وسدد رميهم ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا وحرم على النار أجسادنا ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.