المساجد عمارة و تلاوة (تعميم) 1444/9/2ه

يوسف العوض
1444/09/01 - 2023/03/23 10:23AM

الخطبة الأولى

عِبَادَ اللهِ: المَسَاجِدُ بُيُوتُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَطْهَرُ سَاحَاتِ الدُّنْيَا، وَأَنْقَى بِقَاعِ الأَرْضِ، فِيهَا تَتَآلَفُ القُلُوبُ، وَتَنْزِلُ رَحَمَاتُ الرَّبِّ جَلَّ وَعَلَا، وَتَهْبِطُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَنِ، وَتَحُلُّ السَّكِينَةُ وَالخُشُوعُ.

المَسَاجِدُ أَسْوَاقُ تُجَّارِ الآخِرَةِ، هِيَ أَسْوَاقُ الآخِرَةِ، بَلْ هِيَ أَسْوَاقُ الجَنَّةِ، وَمَيَادِينُ التِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ مَعَ اللهِ تعالى، أَسْوَاقُ الأَرْوَاحِ المُؤْمِنَةِ وَالقُلُوبِ المُطْمَئِنَّةِ.

المَسَاجِدُ أَمَاكِنُ لِتَرْبِيَةِ النُّفُوسِ وَتَهْذِيبِهَا، هِيَ بُيُوتُ مَلِكِ المُلُوكِ وَمَالِكِ المُلُوكِ، المَسَاجِدُ هِيَ الرُّكْنُ الرَّكِينُ، وَالحِصْنُ الحَصِينُ، وَالأَصْلُ الأَصِيلُ في حَيَاةِ المُؤْمِنِ، لِذَلِكَ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهَا.

المَسَاجِدُ أَضَافَهَا اللهُ تعالى إلى ذَاتِهِ العَلِيَّةِ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ وَإِجْلَالٍ، قَالَ تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ﴾.

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ القُلُوبَ التي تَعَلَّقَتْ بِالمَسَاجِدِ لَهِيَ قُلُوبٌ مِلْؤُهَا الإِيمَانُ وَالتَّقْوَى، وَحُبُ المُسَارَعَةِ إلى الخَيْرَاتِ، سَارَعَتْ إلى مَحْوِ الخَطَايَا وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، سَارَعَتْ إلى ظِلِّ اللهِ تعالى، سَارَعَتْ إلى النُّورِ التَّامِّ يَوْمَ القِيَامَةِ، سَارَعَتْ إلى الصَّلَاةِ فَانْتَظَرَتِ الصَّلَاةِ، فَلَمْ تَزَلِ المَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَصْحَابِهَا.

القُلُوبُ المُتَعَلِّقَةُ بِالمَسَاجِدِ قُلُوبٌ حَكَتْ سُنَّةَ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِهِ في الصَّلَاةِ، وَالذي كَانَ هَمُّهُ وَهُوَ يُعَانِي شِدَّةَ سَكَرَاتِ المَوْتِ الصَّلَاةَ بِالمَسْجِدِ.

روى الشيخان عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ لَهَا: أَلَا تُحَدِّثِينِي عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟قَالَتْ: بَلَى، ثَقُلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ (فَأٌغْمِيَ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَكُلَّمَا أَفَاقَ، يَقُولُ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟») فَقُلْنَا: لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَتْ: وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ قَالَتْ: فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا: يَا عُمَرُ، صَلِّ بِالنَّاسِ قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ قَالَتْ: فَصَلَّى بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الْأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ، لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ وَقَالَ لَهُمَا: «أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ» فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ قَائِمٌ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ.

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ للإِيمَانِ خِلَالًا، وَللمُؤْمِنِينَ خِصَالًا، أَثْنَى عَلَيْهِمْ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِهَا، فَالمُؤْمِنُونَ عُمَّارُ بُيُوتُ اللهِ تعالى، أَهْلُ ذِكْرِ اللهِ تعالى وَطَاعَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾.

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَى المُسْلِمِينَ صَلَاةُ الجَمَاعَةِ، إِذْ فِيهَا مِنَ المَصَالِحِ وَالعِبَرِ مَا لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا مَنْ أَدَّاهَا كَمَا أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَدَائِهَا، وَفِيهَا يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صَلاَةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» رواه الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا هَذِهِ النِّعْمَةَ، نِعْمَةَ السُّجُودِ في بَيْتِكَ، مَا دَامَتْ أَرْوَاحُنَا في أَجْسَادِنَا. آمين.

الخطبة الثاني

عِبادَ اللهِ: مَنْ عَرَفَ رَبَّهُ أحَبَّهُ، ومَنْ أحبَّ ربَّهُ تباركَ وتَعالَى أكثَرَ مِنْ قِراءةِ كَلامِهِ، وتأمُّلِ آياتِ كِتابِهِ، إلاّ أنَّ تلاوةَ كلامِ اللهِ تستلزِمُ العنايةَ بِما يُحْفَظُ به القرآنُ مِنْ المَصاحِفِ والصُّدورِ ، القرآنُ هوَ كلامُ اللهِ، مِنه بَدأَ، وإليهِ يَعودُ ، وهوَ أعْظَمُ مَا في الوجودِ ، وتعظيمُ المُصحفِ مِنْ تعظيمِ اللهِ.

قالَ ابنُ القيِّمِ:

هَجْرُ القرآنِ أنواعٌ:

أحَدُهَا: هَجْرُ سَمَاعِهِ والإيمانِ به والإصْغَاءِ إليهِ.

والثانيِ: هَجْرُ العَمَلِ به والوقوفِ عندَ حلالِه وحرامِه، وإنْ قرأَهُ وآمَنَ به

والثالثُ: هَجْرُ تَحْكيمِهِ والتَّحاكُمِ إليهِ في أصولِ الدِّينِ وفُروعِهِ.

والرابعُ: هَجْرُ تَدَبُّرِهِ وتَفَهُّمِهِ ومَعْرفَةِ ما أرادَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ منْهُ.

والخامسُ: هَجْرُ الاستشفاءِ والتداوي بِهِ في جميعِ أمراضِ القَلْبِ وأدوائها، فيَطلبُ شِفاءَ دائِهِ مِنْ غَيرِهِ ويَهْجُرُ التداوي به ، وإنْ كانَ بعضُ الهجْرِ أهْونَ مِنْ بعْضٍ.

عبادَ الله: كانَ السَّلفُ رضيَ اللهُ عنهُم لهُمْ عاداتٌ مختلفةٌ في قَدْرِ ما يختمونَ فيهِ؛ فَرَوى ابنُ أبي داودَ عنْ بعضِ السلفِ رضي الله عنهم أنهُم كانوا يختِمُونَ في كُلِّ شهرين ختمةً واحدةً، وعَنْ بعضِهِم في كُلِّ شهرٍ خَتمةً، وعنْ بعضِهِم في كُلِّ عَشْرِ ليالٍ ختمةً، وعنْ بعضِهِم في كلِّ ثمانِ لَيالٍ، وعنِ الأكثرين في كلِّ سَبْعِ ليالٍ، وعنْ بعضِهِم في كلِّ ستٍّ، وعنْ بعْضِهِم في كلِّ خَمْسٍ، وعنْ بعضِهِم في كلِّ أرْبَعٍ، وعنْ كثيرين في كُلِّ ثلاثٍ.

جَعَلَنَا اللَّهُ مِمَّنْ يَرْعَاهُ حَقَّ رِعَايَتِهِ، وَيَتَدَبَّرُهُ حقَّ تَدَبُّرِه، ويقومُ بِقِسْطِهِ، ويَفِي بِشَرْطِهِ، وَلا يَلْتَمِسُ الْهُدَى فِي غَيْرِهِ، وَهَدَانَا لأَعْلَامِهِ الظَّاهِرَةِ، وَأَحْكَامِهِ الْقَاطِعَةِ الْبَاهِرَةِ، وَجَمَعَ لَنَا بِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَإِنَّهُ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ.
 



 

 

 

 

 

 

 

المشاهدات 1341 | التعليقات 0