المسابقة للخيرات همة الصفوة

عبد الله بن علي الطريف
1446/02/05 - 2024/08/09 09:48AM

المسابقة للخيرات همة الصفوة 1446/2/5هـ

الحمد لله الذي هدانا للإسلام وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما تعاقبت الليالي والأيام وسلم تسليمًا كثيرًا.. أما بعد أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن الله تعالى لم يخلقنا عبثًا ولم يتركنا هملًا، فقد خلقنا لعبادته، وأبان لنا طُرق طاعته لنسابق إليها، وأوضح لنا طرق معصيته لنتقيها، وحثنا على المبادرة والمسابقة للخيرات، ونهانا عن التكاسل في فعلها لما في ذلك من الآفات..  فقال عز من قائل: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة:148]

يقول الشيخ السعدي رحمه الله: "الأمر بالاستباق إلى الخيرات قَدْرٌ زائدٌ على الأمر بفعلِ الخيرات، فإن الاستباقَ إليها، يتضمنُ فعلُها، وتكميلُها، وإيقاعُها على أكملِ الأحوال، والمبادرةُ إليها.. ومن سبقَ في الدنيا إلى الخيرات، فهو السابقُ في الآخرةِ إلى الجنات، فالسابقون أعلى الخلقِ درجةً.. والخيرات تشملُ جميع الفرائض والنوافل، من صلاة، وصيام، وزكوات وحج، وعمرة، وجهاد، ونفع متعدٍّ وقاصر..

ولما كان أقوى ما يحث النفوس على المسارعة إلى الخير، ويُنَشِطها، ما رتب الله عليها من الثواب قال: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيجمعكم ليوم القيامة بقدرته، فيجازي كل عامل بعمله (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى). ويستدل بهذه الآية الشريفة على الإتيان بكل فضيلة يتصف بها العمل، كالصلاة في أول وقتها، والمبادرة إلى إبراء الذمة، من الصيام، والحج، والعمرة، وإخراج الزكاة، والإتيان بسنن العبادات وآدابها، فلله ما أجمعها وأنفعها من آية".

ويقول سبحانه: (...وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [المائدة:48] (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) أي: بادروا إليها وأكملوها، فإن الخيرات الشاملة لكل فرض ومستحب، من حقوق الله وحقوق عباده، لا يصير فاعلها سابقًا لغيره مستوليًا على الأمر، إلا بأمرين الأول: المبادرةُ إليها، وانتهازُ الفرصةِ حين يجيءُ وقْتُها ويعرضُ عارضُها.. الثاني: الاجتهاد في أدائِها كاملةً على الوجهِ المأمور به، ويُستدلُ بهذه الآية.. على أنه ينبغي ألا يقتصر العبد على مجردِ ما يُجْزِئُ في الصلاةِ وغيرِها من العبادات من الأمورِ الواجبة، بل ينبغي أن يأتي بالمستحبات، التي يقدر عليها لِتَتِمَ وتَكْمُلَ، ويحصلَ بها السبق.

أيها الإخوة: المسارعة إلى الخيرات والاستباق إلى فعلها هي من صفات فئة من المؤمنين بلغوا الذروة في الخيرية بما وفقوا له من أعمال صالحة وبما اعتلج في نفوسهم من يقين وخشية لله قال تعالى في وصفهم: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 57-61]

أي: في ميدان التسارع في أفعال الخير، هَمْهُم ما يقربهم إلى الله، وإرادتهم مصروفة فيما ينجي من عذابه، فكل خير سمعوا به، أو سنحت لهم الفرصة إليه انتهزوه وبادروه، قد نظروا إلى أولياء الله وأصفيائه، أمامهم ويمنة، ويسرة، يسارعون في كل خير، وينافسون في الزلفى عند ربهم، فنافسوهم..

ولما كان السابق لغيره المسارع قد يسبق لجده وتشميره، وقد لا يسبق لتقصيره، أخبر تعالى أن هؤلاء من القسم السابقين فقال: (وَهُمْ لَهَا) أي: للخيرات (سَابِقُونَ) قد بلغوا ذروتها، وتباروا هم والرعيل الأول، ومع هذا، قد سبقت لهم من الله سابقة السعادة، أنهم سابقون.

أيها الإخوة: وحث الرَسُولُ اللهِ ﷺ على المبادرة والمسارعة في عمل الخير قبل أن تتغيرَ النفوسُ وتَتَقَلَبَ القلوب، فَقَالَ: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِى كَافِرًا وَيُمْسِى مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ أَحَدُهُمْ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا». رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ومعنى الحديث الحث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل تعذرها والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة المتراكمة كتراكم ظلام الليل المظلم لا المقمر. ولعظم فتن الدنيا ينقلب الإنسان من الإيمان للكفر وعكسه في اليوم الواحد.! يبيع أحدهم دينه بقليل من حطام الدنيا عُرِضَ له.

أيها الإخوة: أهلُ اليقظة وعُمْالُ الآخرة، قلوبهم معمورة بذكر الله، ومعرفتِه ومحبتِه، وقد أشغلوا أوقاتهم بالأعمال التي تقربهم إلى الله، من النفع القاصر والمتعدي...

أيها الأخ المبارك: إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل.. فالمسابقة إلى الخيرات خُلقٌ لا يتصف به إلا المؤمن الصادق.. والمسارعة إلى أعمال البر طبع لا يتخلق به إلا من وهبه الله تعالى رجاحة في العقل وانشراحا في الصدر وسلامة في القلب..

والمسابقة إلى مغفرة الله ورضوانه وجنته، تكون بفعل أسباب المغفرة، من التوبة النصوح، والاستغفار النافع، والبعد عن الذنوب ومظانها، والمسابقة إلى رضوان الله بالعمل الصالح، والحرص على ما يرضي الله على الدوام، من الإحسان في عبادة الخالق، والإحسان إلى الخلق بجميع وجوه النفع.. اللهم وفقنا للمسارعة إلى الخيرات واجعلنا من السابقين إليها.. بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات...

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: يقول الله تعالى حاثًا على المسابقة إلى الخيرات: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد:20-21] وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» رواه الحاكم في مستدركه قال هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وقال الذهبي على شرط البخاري ومسلم وصححه الألباني.

ولقد وفق الله تعالى السابقين من هذه الأمة للمسابقة إلى الخيرات، فحققوا مراتب عالية وحازوا على الدرجات العلا في الجنة.. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ، إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ» رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟» فَقُلْتُ: مِثْلَهُ، وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ ﷺ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟» فَقَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ عُمَرُ فَقُلْتُ: لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا" رواه الترمذي وحسنه الألباني والحاكم وصححه.

وبعد أحبتي: لنسارِعْ في الخيراتِ كما سارَع أسلافُنَا، ولنبادرْ إلى الطاعاتِ كما بادَروا، ولنقدِّمْ لأنفسِنا كما قدَّموا؛ (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المزمل:20]. وَ«التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ [أي محمودة] إِلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ» رواه أبو داود عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ الْأَعْمَشُ وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وصححه الألباني..

فطُرقُ الخيرِ والنفعِ كثيرةٌ متاحةٌ للجميع، ولكن أين السالِكون؟ وأينَ السائِرون؟ وأبوابُ البِرِّ متعدِّدةٌ، ولكن أينَ المسارِعون إليها؟ وأينَ الطارِقون لها؟ أسأل الله تعالى أن يجعلنا وذريتنا وأزواجنا ومن نحب منهم إنه جواد كريم وصلوا وسلموا على نبيكم...

 

 

 

 

 

المشاهدات 3166 | التعليقات 0