المذنبون في زمن النُبوَّة
إبراهيم بن صالح العجلان
1435/05/26 - 2014/03/27 15:08PM
إخوة الإيمان:
المعصية والتقصير ، والذنب والتفريط ، قَدَرٌ مع كلِّ بشر ، قلَّ ذلك الخطأ أم كثر ، صَغُرَ أم كَبُرَ ، ( كل بني آدم خطاء )
ومن رحمة الله الرحيم أن فتح لعباده التوبة والاستغفار بعد المعاصي والأوزار.
لذا فإن التذكير بالتوبة حديث يحتاجه كل أحد .
فجميل أن نتواصى ونتذاكر بها ، بين كل حين وحين ، ولكن أجمل من ذلك وأبلغ في التذكير ، أن نرى التوبة رجالاً ، والندم فعالاً .
نرى ذلك في صورة عظيمة مؤثرة، من أناس أزَّدتهم أنفسهم الأمارة نحو الحرام أزاً ، فعاقروا المنكرات ، وانغمسوا في الشهوات ،
ولكن بعدها ذكروا الله تعالى ، فأسفوا وندموا، واستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله .
نقف مع مشاهد من أخبار خير جيل ، مع العصاة المذنبين في زمن النبوة ، وكيف كان حالهم بعد ارتكاب الذنب واقتراف المعصية .
عباد الله .
ها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلس في مسجده في حلقة بين أصحابه والآذان تسمع لحديثه الشيق العذب ، والأعناق مشرئبَّه نحوه صلى الله عليه وسلم ، فلم يفجأهم إلا رجل ينادي : يا رسول الله ، فالتفتوا إليه ، فإذ هو رجل في أوجِ شبابه ، قصير القامة، مفتول الساعدين ، من بني أسلم، يقال له : ماعز بن مالك ، فتقدم هذا الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعلامات الندم تعلو قسمات وجهه ، فقال : يا رسول الله إني زنيت فطهرني .
فماذا فعل نبينا صلى الله عليه وسلم؟ هل أشهد عليه من حضره ؟
هل شتمه وعنفه واغلظ له في القول؟
هل أمر به فأخذ حتى لا يفِر ؟
كلا ... كلا .
بل أعرض عنه صلى الله عليه وسلم حتى كأنه لم يسمع شيئاً ، والتفت إلى الجهة الأخرى .
فلم يكفَّ الرجل وحرقة الذنب تلسعه، حتى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قِبَل وجهه مرة أخرى ، فقال : يا رسول الله إني زنيت فطهرني .
فيعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجهة الأخرى ، فيبتدر الرجلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مرة ثالثة ويقول : يا رسول الله إني زنيت فطهرني .
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ، الرؤوف بأصحابه الرحيم بهم: (ويحك ارجع فاستغفر الله وتبت إليه ).
فذهب الرجل غير بعيد ثم عاد وسياط الذنب تحرق فؤاده فقال : يا رسول إني زنيت فطهرني .
حتى إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل لا يرجع عما قال .
دعاه فسأله : لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت ؟ فقال الرجل : لا يا رسول الله .
وفي رواية عند ابي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله : هل تدري ما الزنى : قال: نعم أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً .
فقال له : ماذا تريد بهذا القول ؛ قال : أريد أن تطهرني .
ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم قومه فسألهم أبه جنون، أو لعله قد شرب.
كل ذلك حتى يجد له من العذر ما يدرأ به الحد.
فلم يكن نبينا صلى الله عليه وسلم حريصاً على معاقبة الناس والبطش بهم
بل هو صلى الله عليه وسلم كما قال عنه ربه : (عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)
حتى إذا أعيت السبل لدرء الحد عن هذا الذنب واستبان الحق وحصحص اليقين لم يكن بُدٌ من إقامة حد الله عليه .
ثم أقيم عليه الحد (حد الرجم) الرمي بالحجارة حتى الموت.
فاختلف الناس فيه وهم ما بين مادح وقادح ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالاستغفار له وقال : لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم .
وفي رواية أنه قال عليه الصلاة والسلام (لقد رأيته يتخصخص في أنهار الجنة) أي يسبح . رواه ابن حبان.
وإن تعجب من خبر ماعز رضي الله عنه : فأعجب منه خبرٌ تلك المرأة الغامدية، التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والحياء يَلُفُّها.
جاءت إليه بخطوات متئدة، مهمومة مغموسة مكسوفة ،.
جاءت لتقر على نفسها بالزنى وتطلب من أن يطهرها .
وهي تعلم أن هذا التطهير ليس له كلاماً قاسياً تعنَّف به ، ولا بضع سياط يعلو جسدها ثم ينتهي الأمر .
لقد علمت وهي تتخيل خبر ماعز أنه حجارة تمزق جسدها وتنهي حياتهم ،
فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالها زجرها، واعرض عنها.
فجأءت في اليوم الثاني ، وحرقة المعصية تجري في عروقها ، فقالت : يا رسول الله لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزا ، فو الله إني لحبلى من الزنى .
فلما نطقت المرأة بما نطقت ، لم يكن من بد من إقامة الحد عليها .
لكن... يأبى بني الرحمة عليه الصلاة والسلام ، أن يقيم عليها الحد، لأن بين أحشائها نفساً بريئة لم تحمل وزراً ، ولم ترتكب إثما .
فقال لها : اذهبي حتى تضعيه .
فذهبت تلك المرأة المؤمنة إلى حالها .
لم يرسل معها النبي صلى الله عليه وسلم الشرط ، ولم يطلب منها الكفلاء ، ولم يبعث الرقباء والعيون لمتابعتها .
نعم ذهبت المرأة من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تحمل بين أحشائها آثار جريمتها ، فعاشت تلك الأشهر حياة عصيبة تصارع معها حرق المعصية
وتتغصص فيها ألم الذنب الذي يراه بين جنبيها .
حتى إذا أتمت أشهر حملها وعالجت الألم وضع صبيها ، أسرعت فمهدته بلفافه ، وعجلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تريد أن يطهرها .
لم يشغلها هذا الصبي المسكين، لم تتمهل حتى ترضعه لبنها، لم تتريث حتى تعهد به إلى من يكفله ،كل همها أن تتطهر من ذنبها .
فتأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يقودها الجند ولا يسقوها العسكر ، إنما تأتي طائعة مختارة تحمل طفلها بين يديها .
فتقول للنبي صلى الله عليه وسلم: ها قد ولدته يا رسول الله.
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : اذهبي حتى ترضعيه.
فترجع المرأة عائدة أدراجها ، ولا يزال المعصية يحرق فؤادها ويدمع عينها، لم يخمد مع مر الأيام وكر الليالي، فتمكث في أهلها تعد الأيام والليالي وهي تراقب طفلها وهو ينمو ويكبر .
حتى إذا فطمته أسرعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحمل كسرة خبز برهاناً على فطامه.
أسرعت به وهي أشد ما تكون تعلقاً به.
أسرعت به وهي تعلم أنها لن تراه بعد اليوم أبداً.
أسرعته به وهي تعلم المصير الذي ينتظرها.
فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم طفلها ، وكأنه سلَّهُ من فؤادها ، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصبي الذي لم يجنْ ذنباً حتى نظر الصحابة إليه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (من يكفل هذا ؟) فلم يتقدم إليه أحد .
ثم قال : (من يكفل هذا وهو رفيقي في الجنة)
فقام رجل من الأنصار ، فقال : أنا أكفله يا رسول الله .
ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمرأة فشدت عليها ثيابها ، ووضعت في حفرة إلى صدرها ، وأمر الناس برجمها ، فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها ، فانتضح الدم على وجهه ، فسبها ، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله ، فقال : مهلاً يا خالد فو الذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له.
ثم صلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر : يا رسول الله أتصلي عليها وقد زنت ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى .
وهذا مشهد آخر مع يهود بني قريظة لما خانوا ونقضوا عهودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم :
خرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وحاصرهم حصاراً شديداً ، فملئت قلوبهم فزعاً وجاءهم الخوف من كل مكان
فطلب اليهود من النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا من ديارهم ليس لهم إلا ما حملت الأبل فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكمه .
فلما أيقن اليهود أن النبي صلى الله عليه وسلم غير متصرف عنهم حتى يناجزهم أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أحد أصحابك وهو أبو لبابة
لنستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، فلما رأوه قام إليه الرجال ، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق قلبه لهم ، وقالو له : يا أبا لبابه أترى أن ننزل على حكم محمد ، فأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح، يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقتلكم.
قال ابو لبابة : فعرفت أني بهذه الإشارة قد خنت الله ورسوله.
ثم انطلق أبو لبابه يبكي على وجهه ، حتى ربط نفسه في عمود من أعمدة المسجد وقال : لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت.
نعم .. لقد احترقت نفس أبي لبابة وتلجلجت الحسرة بين جنبيه، لا لأنه وقف مع يهود، ولا لأنه بارك بشيء من أفعالهم، وإنما بسبب إشارة فقط ، غيَّرت حاله.
فأين هذا ممن يصطف مع يهود في مشاريعهم في فتنة المسلمين، أو يبرر لهم إرهابهم، وكيدهم ومكرهم الكُبَّار.
جلس في وثاقه سبعة أيام في حر شديد وقال : لا أزال هكذا حتى أفارق الدنيا أو يتوب الله علي .
ثم نزلت توبة الله عليه ، فقام الناس إليه ، ليفكوا رباطه ، فقال : لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يطلقني بيده ، فجاء إليه النبي صلى الله عليه وسلم وأطلق وثاقه .
هكذا عباد الله كان حال عصاة ذلك الجيل ، فإذا كان هذا حال العصاة فقل لي بربك كيف هو حال الاتقياء الصالحين؟ لقد كان وا بحق جيلا لا يتكرر أبداً .
فرضي الله تعالى عنهم وارضاهم وجمعنا بهم في دار كرامته ، إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول قولي هذا . واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه ربي غفور رحيم.
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عبده المصطفى وعلى آله وصحبه ومن اجتبى أما بعد : فيا أيها الناس
إن الخطأ والتفريط في حق الله عز وجل لم يسلم منه أحد إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
فهذه النماذج التي سمعناها وقعت في خير العصور ، ومن أفضل الناس، من الصحابة الذين تشرفوا بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم.
فهم بشر يخطئون كما نخطئ ، ويذنبون كما نذنب ، ويغفلون ويقصرون كما نغفل ونقصر، لكن الفارق بيننا وبينهم أن نفوسهم تحرقها ألم المعصية إذا ارتكبوها
لأن قلوبهم ملئت تعظيماً وإجلالاً وخوفاً من الله تعالى .
لذا من المهم يا أهل الإيمان ... أنْ نسعى ونتواصى بملئ القلوب بالإيمان ، ومعاني الخشية، ومراقبة الله تعالى، حتى إذا طاشت النفسُ نحو الحرام والشهوات كان لها واعظ داخلي يلومها ويُقرِّعها ويذكرها بمقام الله تعالى واطِّلاعه ، كما قال سبحانه عن عباده المتقين: ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا لله فاستغفروا لذنوبهم ، ومن يغفر الذنوب إلا الله ، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولئك جزاءهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين)
اللهم يا حي يا قيوم، يا تواب يا رحيم ، اللهم إنا نسألك العفو عن التقصير والخطيئات،والصفح عن الهفوات والزلات ، والتجاوز عن العثرات والسقطات،
ونسألك أن تحفظ جوارحنا في كل ما هو آت ،وأن تبثنا على دينك حتى الممات .
هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداه ....
فقد أمركم الله تعالى بذلك في كتابه فقال .......
المعصية والتقصير ، والذنب والتفريط ، قَدَرٌ مع كلِّ بشر ، قلَّ ذلك الخطأ أم كثر ، صَغُرَ أم كَبُرَ ، ( كل بني آدم خطاء )
ومن رحمة الله الرحيم أن فتح لعباده التوبة والاستغفار بعد المعاصي والأوزار.
لذا فإن التذكير بالتوبة حديث يحتاجه كل أحد .
فجميل أن نتواصى ونتذاكر بها ، بين كل حين وحين ، ولكن أجمل من ذلك وأبلغ في التذكير ، أن نرى التوبة رجالاً ، والندم فعالاً .
نرى ذلك في صورة عظيمة مؤثرة، من أناس أزَّدتهم أنفسهم الأمارة نحو الحرام أزاً ، فعاقروا المنكرات ، وانغمسوا في الشهوات ،
ولكن بعدها ذكروا الله تعالى ، فأسفوا وندموا، واستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله .
نقف مع مشاهد من أخبار خير جيل ، مع العصاة المذنبين في زمن النبوة ، وكيف كان حالهم بعد ارتكاب الذنب واقتراف المعصية .
عباد الله .
ها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلس في مسجده في حلقة بين أصحابه والآذان تسمع لحديثه الشيق العذب ، والأعناق مشرئبَّه نحوه صلى الله عليه وسلم ، فلم يفجأهم إلا رجل ينادي : يا رسول الله ، فالتفتوا إليه ، فإذ هو رجل في أوجِ شبابه ، قصير القامة، مفتول الساعدين ، من بني أسلم، يقال له : ماعز بن مالك ، فتقدم هذا الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعلامات الندم تعلو قسمات وجهه ، فقال : يا رسول الله إني زنيت فطهرني .
فماذا فعل نبينا صلى الله عليه وسلم؟ هل أشهد عليه من حضره ؟
هل شتمه وعنفه واغلظ له في القول؟
هل أمر به فأخذ حتى لا يفِر ؟
كلا ... كلا .
بل أعرض عنه صلى الله عليه وسلم حتى كأنه لم يسمع شيئاً ، والتفت إلى الجهة الأخرى .
فلم يكفَّ الرجل وحرقة الذنب تلسعه، حتى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قِبَل وجهه مرة أخرى ، فقال : يا رسول الله إني زنيت فطهرني .
فيعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجهة الأخرى ، فيبتدر الرجلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مرة ثالثة ويقول : يا رسول الله إني زنيت فطهرني .
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ، الرؤوف بأصحابه الرحيم بهم: (ويحك ارجع فاستغفر الله وتبت إليه ).
فذهب الرجل غير بعيد ثم عاد وسياط الذنب تحرق فؤاده فقال : يا رسول إني زنيت فطهرني .
حتى إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل لا يرجع عما قال .
دعاه فسأله : لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت ؟ فقال الرجل : لا يا رسول الله .
وفي رواية عند ابي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله : هل تدري ما الزنى : قال: نعم أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً .
فقال له : ماذا تريد بهذا القول ؛ قال : أريد أن تطهرني .
ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم قومه فسألهم أبه جنون، أو لعله قد شرب.
كل ذلك حتى يجد له من العذر ما يدرأ به الحد.
فلم يكن نبينا صلى الله عليه وسلم حريصاً على معاقبة الناس والبطش بهم
بل هو صلى الله عليه وسلم كما قال عنه ربه : (عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)
حتى إذا أعيت السبل لدرء الحد عن هذا الذنب واستبان الحق وحصحص اليقين لم يكن بُدٌ من إقامة حد الله عليه .
ثم أقيم عليه الحد (حد الرجم) الرمي بالحجارة حتى الموت.
فاختلف الناس فيه وهم ما بين مادح وقادح ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالاستغفار له وقال : لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم .
وفي رواية أنه قال عليه الصلاة والسلام (لقد رأيته يتخصخص في أنهار الجنة) أي يسبح . رواه ابن حبان.
وإن تعجب من خبر ماعز رضي الله عنه : فأعجب منه خبرٌ تلك المرأة الغامدية، التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والحياء يَلُفُّها.
جاءت إليه بخطوات متئدة، مهمومة مغموسة مكسوفة ،.
جاءت لتقر على نفسها بالزنى وتطلب من أن يطهرها .
وهي تعلم أن هذا التطهير ليس له كلاماً قاسياً تعنَّف به ، ولا بضع سياط يعلو جسدها ثم ينتهي الأمر .
لقد علمت وهي تتخيل خبر ماعز أنه حجارة تمزق جسدها وتنهي حياتهم ،
فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالها زجرها، واعرض عنها.
فجأءت في اليوم الثاني ، وحرقة المعصية تجري في عروقها ، فقالت : يا رسول الله لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزا ، فو الله إني لحبلى من الزنى .
فلما نطقت المرأة بما نطقت ، لم يكن من بد من إقامة الحد عليها .
لكن... يأبى بني الرحمة عليه الصلاة والسلام ، أن يقيم عليها الحد، لأن بين أحشائها نفساً بريئة لم تحمل وزراً ، ولم ترتكب إثما .
فقال لها : اذهبي حتى تضعيه .
فذهبت تلك المرأة المؤمنة إلى حالها .
لم يرسل معها النبي صلى الله عليه وسلم الشرط ، ولم يطلب منها الكفلاء ، ولم يبعث الرقباء والعيون لمتابعتها .
نعم ذهبت المرأة من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تحمل بين أحشائها آثار جريمتها ، فعاشت تلك الأشهر حياة عصيبة تصارع معها حرق المعصية
وتتغصص فيها ألم الذنب الذي يراه بين جنبيها .
حتى إذا أتمت أشهر حملها وعالجت الألم وضع صبيها ، أسرعت فمهدته بلفافه ، وعجلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تريد أن يطهرها .
لم يشغلها هذا الصبي المسكين، لم تتمهل حتى ترضعه لبنها، لم تتريث حتى تعهد به إلى من يكفله ،كل همها أن تتطهر من ذنبها .
فتأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يقودها الجند ولا يسقوها العسكر ، إنما تأتي طائعة مختارة تحمل طفلها بين يديها .
فتقول للنبي صلى الله عليه وسلم: ها قد ولدته يا رسول الله.
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : اذهبي حتى ترضعيه.
فترجع المرأة عائدة أدراجها ، ولا يزال المعصية يحرق فؤادها ويدمع عينها، لم يخمد مع مر الأيام وكر الليالي، فتمكث في أهلها تعد الأيام والليالي وهي تراقب طفلها وهو ينمو ويكبر .
حتى إذا فطمته أسرعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحمل كسرة خبز برهاناً على فطامه.
أسرعت به وهي أشد ما تكون تعلقاً به.
أسرعت به وهي تعلم أنها لن تراه بعد اليوم أبداً.
أسرعته به وهي تعلم المصير الذي ينتظرها.
فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم طفلها ، وكأنه سلَّهُ من فؤادها ، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصبي الذي لم يجنْ ذنباً حتى نظر الصحابة إليه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (من يكفل هذا ؟) فلم يتقدم إليه أحد .
ثم قال : (من يكفل هذا وهو رفيقي في الجنة)
فقام رجل من الأنصار ، فقال : أنا أكفله يا رسول الله .
ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمرأة فشدت عليها ثيابها ، ووضعت في حفرة إلى صدرها ، وأمر الناس برجمها ، فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها ، فانتضح الدم على وجهه ، فسبها ، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله ، فقال : مهلاً يا خالد فو الذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له.
ثم صلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر : يا رسول الله أتصلي عليها وقد زنت ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى .
وهذا مشهد آخر مع يهود بني قريظة لما خانوا ونقضوا عهودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم :
خرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وحاصرهم حصاراً شديداً ، فملئت قلوبهم فزعاً وجاءهم الخوف من كل مكان
فطلب اليهود من النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا من ديارهم ليس لهم إلا ما حملت الأبل فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكمه .
فلما أيقن اليهود أن النبي صلى الله عليه وسلم غير متصرف عنهم حتى يناجزهم أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أحد أصحابك وهو أبو لبابة
لنستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، فلما رأوه قام إليه الرجال ، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق قلبه لهم ، وقالو له : يا أبا لبابه أترى أن ننزل على حكم محمد ، فأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح، يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقتلكم.
قال ابو لبابة : فعرفت أني بهذه الإشارة قد خنت الله ورسوله.
ثم انطلق أبو لبابه يبكي على وجهه ، حتى ربط نفسه في عمود من أعمدة المسجد وقال : لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت.
نعم .. لقد احترقت نفس أبي لبابة وتلجلجت الحسرة بين جنبيه، لا لأنه وقف مع يهود، ولا لأنه بارك بشيء من أفعالهم، وإنما بسبب إشارة فقط ، غيَّرت حاله.
فأين هذا ممن يصطف مع يهود في مشاريعهم في فتنة المسلمين، أو يبرر لهم إرهابهم، وكيدهم ومكرهم الكُبَّار.
جلس في وثاقه سبعة أيام في حر شديد وقال : لا أزال هكذا حتى أفارق الدنيا أو يتوب الله علي .
ثم نزلت توبة الله عليه ، فقام الناس إليه ، ليفكوا رباطه ، فقال : لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يطلقني بيده ، فجاء إليه النبي صلى الله عليه وسلم وأطلق وثاقه .
هكذا عباد الله كان حال عصاة ذلك الجيل ، فإذا كان هذا حال العصاة فقل لي بربك كيف هو حال الاتقياء الصالحين؟ لقد كان وا بحق جيلا لا يتكرر أبداً .
فرضي الله تعالى عنهم وارضاهم وجمعنا بهم في دار كرامته ، إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول قولي هذا . واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه ربي غفور رحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عبده المصطفى وعلى آله وصحبه ومن اجتبى أما بعد : فيا أيها الناس
إن الخطأ والتفريط في حق الله عز وجل لم يسلم منه أحد إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
فهذه النماذج التي سمعناها وقعت في خير العصور ، ومن أفضل الناس، من الصحابة الذين تشرفوا بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم.
فهم بشر يخطئون كما نخطئ ، ويذنبون كما نذنب ، ويغفلون ويقصرون كما نغفل ونقصر، لكن الفارق بيننا وبينهم أن نفوسهم تحرقها ألم المعصية إذا ارتكبوها
لأن قلوبهم ملئت تعظيماً وإجلالاً وخوفاً من الله تعالى .
لذا من المهم يا أهل الإيمان ... أنْ نسعى ونتواصى بملئ القلوب بالإيمان ، ومعاني الخشية، ومراقبة الله تعالى، حتى إذا طاشت النفسُ نحو الحرام والشهوات كان لها واعظ داخلي يلومها ويُقرِّعها ويذكرها بمقام الله تعالى واطِّلاعه ، كما قال سبحانه عن عباده المتقين: ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا لله فاستغفروا لذنوبهم ، ومن يغفر الذنوب إلا الله ، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولئك جزاءهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين)
اللهم يا حي يا قيوم، يا تواب يا رحيم ، اللهم إنا نسألك العفو عن التقصير والخطيئات،والصفح عن الهفوات والزلات ، والتجاوز عن العثرات والسقطات،
ونسألك أن تحفظ جوارحنا في كل ما هو آت ،وأن تبثنا على دينك حتى الممات .
هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداه ....
فقد أمركم الله تعالى بذلك في كتابه فقال .......
المرفقات
المذنبون في زمن النبوة.doc
المذنبون في زمن النبوة.doc
المشاهدات 3980 | التعليقات 3
نفع الله بكم وبارك فيكم شيخنا ..
ومن جميل ما صنعته أن اختصرت الخطبة الثانية، فإني وجدت الناس لا ينشطون للانصات بعد جلسة الاستراحة .
سلمت يمينك ياشيخنا , ولتعلم أنني أرتقب
بشغف كل جديد منك فلاتحرمنا من دررك
كل أسبوع .
زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية
بورك فيك شيخنا يا ليتك شيخنا تعلم أن ثغرتك لا يمكن لأحد أن يسدها فلتقم عليها بنفسك كل أسبوع مرة ولا تغب عنا كثيرا كتب ربي أجرك ونفع بك.
تعديل التعليق