المخدرات           

د. منصور الصقعوب
1444/06/10 - 2023/01/03 16:54PM

 

معشر الكرام: للعقل مكانةٌ عظيمة, وهو نعمةٌ على بني آدم جليلة, وبه يتمايزُ الناس, وبِفقده يُصبح المرءُ كالبهائم والجمادات, بل وينحطُّ عن ذلك, ولذا فأيُ أمرٍ يؤثِّرُ على العقلِ فإن الشريعة تُحرِّمُه, إذ العقلُ من الضروراتِ الخمسِ التي جاءت الشريعةُ بِحفظِها.

ومِن أجل ذلك حُرِّمت الخمور وكلُّ أنواع المسكرات والمخدرات, لمِا تطمس من أنوار العقول, وتهوي بالإنسان إلى أسفل سافلين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) قال الغزالي: حرّم الشرعُ شُربَ الخمرِ لأنه يُزيل العقلَ، وبقاءُ العقلِ مقصودٌ في الشرع لأنه آلة الفهمِ وحَملِ الأمانة ومحلُ خطابِ التكليف, فالعقلُ مِلاك أمور الدينِ والدنيا. ا.هـ

ولعمرُ الحقّ إنّ غيابَ العقل لمفسدةٌ أيُ مفسدة, وما قيمةُ الإنسانِ إذا غاب عقلُه وانطفأت بصيرَتُه وتخلى عن إنسانيتِه, وأهلُ الجاهلية برغم جاهليتهم كان منهم رجالٌ حرّموا الخمر على أنفسهم لمَّا رأوا ما تفعلُه بالرجلِ العاقلِ الرشيد .

خرج النسائي وغيره، أن عثمان t قام خطيبا فقال: (أيها الناس، اتقوا الخمر؛ فإنها أم الخبائث، وإن رجلا ممن كان قبلكم، كان يختلف إلى المسجد، فلقيته امرأة سوء، فأمرت جاريتها فأدخلته المنزل, فأغلقت الباب، وعندها باطية من خمر، وعندها صبي، فقالت له: لا تفارقني حتى تشرب كأسا من هذا الخمر، أو تواقعني، أو تقتل الصبي، وإلا صحت، وصرخت، وقلت: دخل علي في بيتي، فمن الذي يصدقك؟ فضعف الرجل عند ذلك وقال: أما الفاحشة فلا آتيها، وأما النفس فلا أقتلها، فشرب كأسا من الخمر, فقال: زيديني. فزادته، فوالله ما برح، حتى واقع المرأة وقتل الصبي)

قال عثمان: (فاجتنبوها، فإنها أم الخبائث، وإنه ـ والله ـ لا يجتمع الإيمان والخمر في قلب رجل، إلا يوشك أحدهما أن يذهب بالآخر)

عباد الله: ومع تطوُّرِ الحضارةِ, تَطوَّر ما يَهدِمُ الحضارةَ كذلك, فتطورت صناعةُ المسكرات, حتى ظهرت المخدرات والتي هي أشدُها على الأفراد والأمم.

وعندما نتحدث عن المخدِّرات فإننا لا نتحدث عن أمرٍ هامشي, بل الحديثُ هو عن حربٍ, نعم عن حربٍ بالمعنى الحقيقي على هذه البلاد لتدمير الإنسان فيها.

هذه الحربُ استُخدِمَتْ في جهاتٍ عديدةٍ لضرب المجتمعات التي يُراد القضاءُ عليها, لقد استُخدِمتْ المخدرات كسلاحٍ سياسي قذرٍ يُخضِعُ الأُمَم ويدمّرُ المجتمعات, ويفعلُ فِعلَ الجيوشِ وأكثر.

وكانت ولا زالت هذه البلادُ المباركة هدفاً لأعداء الدين كي يوبقوا شبابها في أوحال هذه الشرور, وهي أمورٌ لم تَعُدْ خافيةً, بل في العلن, تظهر في الكميات المضبوطة وأعداد المروجين وحجمِ التجارة في العام الواحد, والأساليبِ المختلفة للتهريب والترويج, نسأل الله أن يرد كيدهم.

تشير التقارير إلى أن نحو 33% من كمية أقراص الكبتاغون في العالم يتم مصادرتها في السعودية, كما تُصادِرُ المملكةُ نحوَ 60 طناً من الحشيش سنوياً، وما بين 50 إلى 60 كيلو من الهيرويين.

بحسب تقارير حكومية تنظر محاكمُ المملكة ما معدله (161) مائةٌ وواحد وستين قضية مخدراتٍ يوميًا.

إنها حربٌ حقيقيةٌ إذن, يُراد منها تدميرُ الإنسان, ليعيش أسيرَ الإدمان, فلا يتعلم علمًا يَنفعُ به نفسَه وتَنهضُ به أمتُه, ولا يعمل عملاً يرتقي به وطنُه, ولا يستثمر ماله فيما ينهض به, بل يشتري بماله ما يدمِّرُ بهِ نفسَه ووطنَه, وكلُّ ذلك مما يغضب الله تعالى, ويسعى له الأعداء.

وليس بنا اليومَ أن نذكر أضرارَ المخدراتِ, الدينيةِ منها والنفسيةِ والبدنيةِ والاجتماعيةِ, فتلك أكثرُ من أن يُحاطَ بها في خطبة, وإنما حسبُنا أن نقول يا كرام:

مِشوارُ الإدمان غالباً ما يبدأه الشاب بدافع التخلص مِن الهمومِ والمشاكلِ المحيطة, ثم ما يلبثُ أن يَسقُطَ في وَحلِ الإدمان فيدمّر نفسه ويزدادُ غرقًا في همومه.

يؤزه للمخدرات ضعفُ الإيمان, وخواءُ الروحِ من تعظيم الرحمن, ويبقى رفقةُ السوءِ, وحُبُّ الاستطلاعِ, والسفرُ للخارجِ مرتعاً خصباً للوقوع في هذه السموم.

والإدمان لا يعرف عمرًا معينًا ولا جنسًا مخصوصًا, الإدمان يأتي للصغير والكبير, للشاب والطفل, للرجل والمرأة, فليحذر كلٌ منَّا من هذه الآفة الخطيرة, وليتعاهد من تحت يديه, بالتحصين، بالتوعية بخطورة المخدرات, وبضررها عليهم في العاجل والآجل.

المسؤوليةُ عليك أيها الأبُ ليست هيّنةً, تابِع ابنكَ وتواصل معه, وإن لاحظتَ عليه علامةً مِن علاماتِ الإدمان, فسارع بعلاجها, واحتواءِ المشكلة, وحتى لو استدعى الأمر الإبلاغَ عنه, فإنَّ الإبلاغَ عنه اليومَ أهونُ من الإبلاغ عن مصيبةٍ يرتكبها غدًا لا قدّر الله, احتووهم, اقتربوا منهم, وقبل كل هذا ادعوا الله أن يعصمهم ومِن طُرُقِ الشرِّ يحفظهم.

أما من ابتلاه الله بهذه البلية فليعلم أنه ما جعل الله داءً إلا جعل له دواء, وأن الرجوع إلى الحقّ خيرٌ من التمادي في الباطل, وليعلم كذلك أن الله تعالى أمهله ومن التوبة مكّنه, فليرجع إلى الله تعالى، وليتب قبل أن يُختَم له بخاتمةِ السوء.

ليفكّرْ بنفسه وبالمستقبل الذي ينتظره, ليفكرْ في والديه, وكم هي السعادةُ التي ستدخل عليهم عند توبته, ليفكرْ في أولاده, ليفَكرْ في فرح ربِّه بتوبته, ليفكر في كل ذلك .

ثم ليتخذ الخطوات العاجلة للفكاك من هذا الداء, ليراجع المختصين في مستشفيات الأمل, وجمعياتِ وعيادات مكافحة المخدِّرات وعلاجه.

ليتركْ تلك الصحبة التي تُعينه على الشرّ.

ليتب إلى الله, وليستعن بدعائه, وليلح عليه بصدق أن يعينه على الإقلاع عن هذا الطريق الفاسد, وليحسن الظن بالله, فالله عند حسن ظن عبده به.

 

الخطبة الثانية 

يا مؤمنون: طهارة المجتمع وسلامتُه وأمنُه ليست منوطةً بالأجهزة المختصة فحسب, إنّ أمن المجتمع منوطٌ بالمجتمع نفسِه بكل أفرادِه وفِئاته وشرائِحه, فرجالُ مكافحة المخدرات يقدّمون تضحياتٍ جسيمة, يُدافعون عن مُهَجِ أبنائِنا ودينِهِمْ وعُقولِهم ومُستقبلِهم, ولكنهم وحدهم لن يستطيعوا صَدَّ المعركةِ الشرسةِ وقد بلغت هذا المدى.

إن الأمنَ الشاملَ المُترابِطَ مطلوبٌ من الجميع, سواء كانوا دعاة أو معلمين أو إعلاميين أو آباء أو أجهزةً أمنية أو غيرَهم

إن الضحية ليست أموالاً هالكة يُستعاضُ عنها أو منازلَ متهدمةً يُعاد بناؤها, إن الضحية جيلٌ بأكمله وأمةٌ بأكملها

وبعدُ يا كرام: فأعظمُ سلاحين في وجه المخدرات هما: حُسن التربيةِ والاعتناءُ بالبيوت وتحصينها والمحافظة عليها.

والثاني: تقوية رقابة الله في القلب, وتعظيمُ الله في النفس.

إنَّ مُعضلة الخمور في المدينة لم تحتج في عهد النبوة إلا إلى آيةٍ واحدة يقول فيها الله( فهل أنتم منتهون) وإذا بالخمورِ تُتلَف, وإذا بالمدمنين ينتهون, وإذا بسكك المدينة تجري فيها الخمور المُراقة, فإذا تحقق هذان, فأمتنا وشبابنا إلى خير إن شاء الله.

اللهم اعصمنا والمسلمين من الشرور ما ظهر منها وما بطن

 

المشاهدات 1005 | التعليقات 0