المحجة في فضل عشر ذي الحجة

خالد علي أبا الخيل
1437/11/29 - 2016/09/01 05:46AM
المحجة في فضل عشر ذي الحجة
التاريخ: الجمعة: 23/ ذو القعدة /1437 هـ

الحمد لله الذي أظهر المحجة، وأبان الحجة، وفضّل عشر ذي الحجة، وأشهد أن لا إله إلا الله، فرض الحج، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أفضل من زار البيت وحجه، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، قوى إيمانهم بالبرهان والحُجة.
أما بعد،.
فاتقوا الله حق تقواه، واحرصوا على رضاه، تنالوا فوزه وعطاه.
أيها المسلمون: بين أيديكم مائدة مباركة، وتحفة كريمة فائضة، روضة من رياض الجنان، وموسم من مواسم المنان، يستنشق المؤمن شذى الإيمان، ويتقلب في ألوان وأصناف الإحسان.
إن من لطف الله وإحسانه، وهبته وكرمه وامتنانه، أن فضّل عشر ذي الحجة، وأقسم بها في القرآن إظهارًا للحُجة، السعيد –أيها الإخوة المباركون- من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب إلى مولاه فيها بوظائف الطاعات، فعسى وعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد سعادة في أخراه ودنياه، ويمنحه رضاه، ويجعل الفردوس مأواه.
إن المواسم والغنائم، وأوقات الفضائل والكرائم، أجل المواسم وأعلاها قدرًا، وأعظمها فضلًا وشرفًا؛ إذ يتسابق إليها المتسابقون، ويتنافس بها المتنافسون، فها هي ذي مواسم الخيرات، تنفحنا نسماتها، وتطوف بقلوبنا روائحها، ها هي العشر تحط رحالها، وتفتح أبوابها، وتنشر خيرها وثوابها، وتبعث في نفوس أهلها أشواقها، مواسم أقسم الله بلياليها وأيامها، تعظيمًا لشأنها، فقال فيها: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1، 2].
يقول ابن القيم -رحمه الله-: إن الفجر في الليالي العشر زمن يتضمن أفعالًا معظمة من المناسك، وأمكنة معظمة وهي محلها، وذلك من شعائر الله المتضمنة خضوع العبد لربه، فإن الحج والنسك عبودية محضة لله، وذل وخضوع لعظمته، فالزمان المتضمن لمثل هذه الأعمال أهلٌ أن يقسم الرب عز وجل به. انتهى.
حُق للمسلم أن يفرح، ويستبشر وينجح، فأصغِ سمعك لما يفرح قلبك، ويبعث همتك:
روى البخاري: عن ابن عباس –رضي الله عنهما-، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ما العمل في أيام أفضل منها في هذه؟)، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟. قال: (ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء)، فهذا خبر صحيح، ونص واضح صريح، نعم، حق للمؤمن أن يستبشر، ويفرح ويشكر على هذه النعمة التي يرتفع بها درجات، ويزداد حسنات، ويكفر عنه السيئات.
أيها المسلمون: كان سعيد بن جبير نعم العامل بعلمه، فهو الراوي عن ابن عباس الخبر، كان إذا دخلت العشر اجتهد اجتهادًا شديدًا، حتى ما يكاد يقدر عليه غيره، وجاء عنه: لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر. كناية عن القيام والقراءة.
وكان السلف يعظمون ثلاث عشرات: عشر رمضان الأخيرة، وعشر ذي الحجة، وعشر المحرم الأول.
ومن فضلها: ما أشاد الله بذكرها، {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]، هذه العشر جمعت أركان الإسلام، توحيدًا، وصيامًا، وصدقة، وصلاة، وحجًا، وعمرة، قال ابن حجر -رحمه الله-: والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة: لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، ولا يأتي ذلك في غيره.
ويقول ابن رجب -رحمه الله-: لما كان الله سبحانه قد وضع في نفوس عباده حنينًا إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادرًا على مشاهدته كل عام، فرض الله على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركًا بين السائرين والقاعدين. انتهى.
فالموفق من بادر الأوقات، وسارع إلى الطاعات، واغتنم الخيرات، ونافس في العبادات، في هذه العشر اجتمع فيها أفضل العبادات البدنية، وهي الصلاة، وأفضل العبادات المالية، وهي الذبح والأضحية.
تتميز هذه العشر –أمة الصلاح والخير- بمناسبتين عظيمتين:
أولاهما: الحج. فهو فريضة العمر، وغرة الدهر.
وعيد الأضحى: الذي هو أحد العيدين الذي يحتفل بهما المسلمون في جميع بقاع الأرض، وليس لهما سواهما، حين يقومون في عيد الأضحى بإحياء السنة الإبراهيمية في الفداء والأضحية.
ليالي العشر أوقات الإجابة
***
فبادر رغبة تلحق ثوابه

ألا لا وقت للعمال فيه
*** ثواب الخير أقرب إلى الإصابة


من أوقات الليالي العشر حقًا
***
فشمر واطلبن فيها الإنابة

من أعظم الأعمال في هذه العشر والليالي: حج بيت الله الحرام، فرضًا كان أو نفلًا. فعلى الإنسان أن يبادر ولا يسوف، ويسارع إلى أداء فرضه ولا يتخوف.
ومن الأعمال: صيامها، أو بعضها. فالصيام من خير الخصال.
ومن الأعمال: التكبير لله المتعال، والجهر به في الأسواق والبيوت. وليس له صفة محدودة، ومن أوصافه: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
ومن الأعمال: التضحية لمن قدر عليها. فهي من أفضل الأعمال في هذه الليالي، ولهذا تضاف إليها عيد الأضحى، فلا تبخل على نفسك بأضحية لك ولأولادك يرونها ويتأسون بها.
ومن الأعمال فيها: صيام يوم عرفة، لغير أهل عرفة. فهو يكفر السنتين الماضية والقادمة.
والأعمال الصالحة لا حصر لها، كالبر والصدقة، والصلاة والصلة، والذكر والقراءة، والإحسان، وكل معروف صدقة، والذكر بألوانه، والإحسان للغير، والعفو والتسامح، والتغاضي والتصافح، قال ابن رجب: وقد دل حديث ابن عباس على مضاعفة جميع الأعمال الصالحة في العشر من غير استثناء شيء منها. وقال: فكل عمل صالح يقع في هذه العشر، فهو أفضل من عمل في عشرة أيام سواها، من أي شهر كان.
احذروا المعاصي: فإنها تحرم المغفرة في مواسم الرحمة، ففي السنة: (أن العبد ليحرم الرزق من ذنب يصيبه)، فقد يحرم رزق الطاعات والخيرات، لأسباب الذنوب والسيئات، فالغنيمة الغنيمة في انتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة، فما منها عوض ولا لها قيمة، المبادرةَ المبادرةَ بالعمل، والعجلَ العجلَ قبل هجوم الأجل، قبل أن يندم المفرط على ما فعل، قبل أن يسأل الرجعة ليعمل صالحًا، فلا يجاب إلى ما سأل.
ليس للميت في قبره
*** فطر ولا أضحى ولا عشر


ناء عن الأهل على قربه
*** كذاك من مسكنه القبر



من الحرمان والخسران، أن تمر هذه العشر مرور الكرام، وتخرج بسلام، فلا عمل ولا اهتمام، رؤي أحد الموتى في المنام، فقال: ما عندنا أكثر من الندامة، وما عندكم أكثر من الغفلة. ورؤي آخر فقال: قدمنا على أمر عظيم: نعلم، ولا نعمل، وأنتم تعلمون، ولا تعملون، والله: لتسبيحة، أو تسبيحتان، أو ركعة أو ركعتان، في صحيفة أحدنا، خير من الدنيا وما فيها. فما من ميت يموت ألا ندم، إن كان محسنًا ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا ندم أن لا يكون نزع عن معصيته.
أيا من ليس منه مجير
*** بعفوك من عذابك أستجير


أنا العبد المقر بكل ذنب
***
وأنت السيد المولى الغفور

أفر إليك منك، وأين إلا
*** إليك يفر منك المستجير؟!


العاقل من اجتهد لنفسه وقت المواسم، ليظفر بالربح الكبير، كم نرى من عقلاء الدنيا والخبراء بمواسمها من يواصلون الليل والنهار؟ لا ينامون إلا قليلًا للتجارة، فحري بأهل الإيمان والمشتاقون للجنان، مضاعفة الأعمال والإحسان قبل فوات الأوان، ويقال: فلان كان. ضع لك ورقة بيضاء، ورتب أعمالك الحسناء، واحذر الكسل والتواني والهوى، فهذه العشر ربما تكون خاتمة عمرك، ولا تدركها مرة أخرى في دهرك، ساعد زوجتك وبنيك، وحضهم على العمل الصالح والمسارعة، واجعل لهم حوافز في المنافسة، فهنيئًا لمن عزم على استغلال العشر، ونوى العمل الصالح والخير، فمن عزم على شيء أعانه الله، ومن صدق مع الله أسعده الله، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
هذا: وهناك أعمال مشروعة وفي هذه العشر مخصوصة ينبغي التنبيه لها، فأبرزهما خصلتنا عظيمتان، فانتبهوا لهما يا ذوي الإيمان:
أولاها: حج بيت الله الحرام. فهو فريضة العمر، أشرف عمل يعمله المرء في هذه العشر، كيف لا وهذا وقته وزمنه؟ وهو أحد أركان الإسلام كما في حديث: (بني الإسلام)، ويجب بشروط خمسة: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة، وتزيد المرأة بوجود محرم لها يذهب معها.
وسؤال يطرح نفسه: ما هي علامات البلوغ؟.
هي ثلاثة مشتركة للذكر والأنثى: خروج المني باحتلام أو غيره، ونبات شعر العانة، وبلوغ خمسة عشر سنة، وتزيد المرأة وجود الحيض، فمتى وجدت أو أحدها، كُلف صاحبها ووجب عليه فعل المفروض وترك الممنوع.
ومتى توفرت الشروط، وتمت الضوابط، وجب على المرء الحج على الفور، والسعي إليه، وأداء فرضه قبل اخترام المنية، والبعض قد اكتملت فيه شروط الحج، وتيسر له العج والثج، ولكن غلّب جانب الكسل، وسوء العمل، يسوف ويمني، ويواعد ويلغي، فيتقدم به العمر، والشهر تلو الشهر، ولم يؤد فرضه، ويكمل أركان إسلامه، فيتعذر بأعذار واهية، وحجج هامشية من زحام وبرد وحر، وسنة قادمة.
ومن عجز عن الحج ببدنه، وله مقدرة بماله، أقام من يحج عنه.
ومن لفت الانتباه: إعانة الأولاد، وحثهم، وترغيبهم، ومساعدتهم، وتسهيل السبل لهم، فكثير ممن له جِدَة وقدرة، يهمل أولاده، بل يعيقهم، ويقف في طريقهم من بنين وبنات.
ومما يرغب في أداء الحج، ويعين الناسك في العج، ويرفع الهمم والمهج، تذكر وإشعار النفس في فضل العمرة والحج، ففي الصحيحين: (من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه)، وفيه: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)، والمبرور ما كان خالصًا لله، صوابًا على سنة رسول الله، مع كف الأذى واجتناب الردى، مصحوبًا بمال حلال وهنا، وفيهما: أي الأعمال أفضل؟، قال: (إيمان بالله)، قيل: ثم ماذا؟. قال: (الجهاد في سبيل الله)، قيل: ثم ماذا؟. قال: (حج مبرور)، وعند مسلم: (والحج يهدم ما كان قبله).
وهو سبب لسعة الأرزاق، ونزول البركات، وتكمين الذنوب والسيئات، فصح عند أحمد في مسنده، والترمذي في جامعه: (تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة).
والخصلة الثانية في هذه العشر المباركة: مشروعية الأضحية. فهي سنة مؤكدة، جاءت بها السنة القولية والفعلية والتقريرية، فعلى من كان عنده مقدرة وسعة من المال، أن يتقرب بها إلى الكبير المتعال، ويذبحها في بيته وبين العيال، لينشؤوا على السنة، ويعرفوا سنة الأضحية، فالبعض يذهب بها هنا أو هناك بحجة ضيق المكان، أو اتساخ المكان، فلا يعرف أهله وولده ذبح القربان، والبعض يتصدق بقيمتها؛ لأنه ليس عنده وقت لذبحها، وإراقة الدم أفضل من التصدق بثمنها، وبعض الناس عنده كرم وسخاء، لكن عند الأضحية فقر وإمساك وعناء.
فالأضحية من أبرز الشعائر، وسنة سيد الأوائل والأواخر، يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: ولا خلاف أنها من شعائر الدين.
وقال ابن القيم -رحمه الله-: ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدع الأضحية، وكل من قدر من والد أو والدة، أو زوجة، أو زوج، أو ولد على الأضحية فيسن فعلها، والتقرب إلى الله بها، فـ {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46، الجاثية: 15].
هذا ومن أراد من يضحي، وعزم على ذلك بنيته عليه، أن يمسك عن أخذ شعره، سواء من لحيته، أو رأسه، أو إبطه، أو عانته، أو ساقه، أو سائر شعور جسمه، وكذا لا يأخذ من أظافر يديه ورجليه، ولا من جلده وبشرته، لما روى الجماعة إلا البخاري: (إذا هلّ هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يأخذ من شعره وبشره شيئًا)، وفي رواية: (ولا ظفره)، والحكم خاص بمن أراد أن يضحي، أما الزوجة والأولاد فلا يمسكون، وكذا لا يمسك الموصَى والموكَّل، إنما يمسك الموكل والموصي، ومن أخذ من ذلك ناسيًا فليس عليه شيء، ومن أخذ متعمدًا فعليه التوبة والاستغفار، ولا فدية ولا كفارة، ومن أراد أن يضحي عن غيره أو ميته، فلا يمسك هو؛ لأن المخاطب صاحب الأضحية، وكذا لو اشتركوا لشخص أو عن شخص فلا يمسكون، إنما يمسك من كانت له الأضحية، دفع القيمة هو أو دفعت له، ومن تردد هل يضحي؟ أم لا؟ فيمسك إذا عزم وأراد ولو قبل العيد بلحظات.
هذا: وبعض النساء تتحرج من تسريح شعرها وتجميله خشية التساقط، وهذا تحرج في غير محله، بل عليها وعلى الرجال التجمل والتسريح، والتعديل والتصليح.
وكثيرًا ممن يسأل ممن يريد الحج إذا جاء إلى الميقات، وقد نوى الأضحية في بلده، هل له أخذ شعره، وظفره؟.
فالجواب: لا يأخذ شيئًا عند الميقات، وإذا انتهى من عمرته، فله أن يقصر أو يحلق، فهذا تابع لنسكه.
والله أعلم.
المشاهدات 1855 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا