المحاسبة الجادة
عبدالوهاب بن محمد المعبأ
1438/09/14 - 2017/06/09 03:29AM
خطبة الجمعة
المحاسبة الجادة
مع انتصاف شهر الصوم
ترتيب واعداد عبدالوهاب المعبأ
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، نحمده سبحانه حمدَ الشاكرين الذاكرين الصابرين الثابتين، حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه، ملءَ السموات وملءَ الأرضِ وملءَ ما بينهما، وملءَ ما شاءَ ربُّنا من شيءٍ بعد، ونشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أنَّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحبِهِ الأخيار، ومن تبعَهُم على الحقّ إلى يوم الدّين وسلَّم.
أمّا بعد: فأوصيكُم ـ أيّها النّاس ـ ونفسِي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فاتقوا اللهَ رحمكم الله، واغتنِموا مواسمَ الأرباحِ فقد فُتِحت أسواقها، وداوموا قرعَ أبواب التوبة قبل أن يحينَ إغلاقها. الغَفلةُ تمنَعُ الرِّبحَ، والمعصيةُ تقودُ إلى الخُسران. الواقفُ بغير بابِ الله عظيمٌ هوانُه، والمؤمِّل غيرَ فضلِ الله خائبةٌ آماله، والعامِل لغير الله ضائعةٌ أعمالُه. الأسباب كلُّها منقطِعة إلا أسبابه، والأبوابُ كلّها مغلَقة إلا أبوابُه. النّعيمُ في التلذُّذ بمناجَاةِ الله، والرّاحة في التّعَب في خدمةِ الله، والغِنى في تصحيحِ الافتقارِ إلى الله.
أيّها المسلمون، الأيّام تمرُّ عجلَى، والسّنون تنقضِي سِراعًا، وكثيرٌ من الناسِ في غَمرةٍ ساهون وعن التّذكِرة معرِضون، وفي التنزيل العزيز:( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا[الفرقان:62].
ولما كان العُمر ـ يا عبادَ الله ـ محدودًا وأيّامُ العَبدِ في هذه الدّنيا معدودَة فقد امتنَّ الله على عبادِه بمواسمِ الخيرات ومِنَح النّفَحات، وأكرَمَ بأيّامٍ وليالٍ خصَّها بمزيدٍ منَ الشَّرَف والفَضلِ وعَظيمِ الثّوابِ ومُضَاعَفة الأجرِ، وجعَل فيها بمنِّه وكرَمِه ما يُعوِّض فيهِ الموفَّق قِصَرَ حياتِه وتقصيرَ أعماله. وإنّ أيّامَكم هذه من أفضلِ الأيّام، وهذه الساعات واللحظات هي من اسعد حياة العبد الموفق اليقض
إنّ هذه الشمسَ التي تطلع كلَّ يوم من مشرقها وتغرب في مغربها تحمِل أعظمَ الاعتبار، فطلوعُها ثم غيابُها إيذان بأنّ هذه الدنيا ليست دارَ قرار، وإنما طلوعٌ وزوال.
انظر إلى هذه الشهور، تهلّ فيها الأهلّة صغيرةً كما يولَد الأطفال، ثم تنمو رويدًا رويدًا كما تنمو الأجسام، حتى إذا تكامل نموُّها أخذت في النقص والاضمحلال، وهكذا عمر الإنسان.
من فضل الله عليكم أنكم أدركتم هذا الشهر العظيم
ونلتم هذه العطية الكبيرة وقد توفقتم ايها الحاضرون أن مر بكم الاسبوع الاول منه والان تعيشون نصف شهركم الاول وقريبا باذن الله سيمر بكم من شهركم الاسبوع الثالث ثم الاخير ثم تخرجون من هذا الشهر فينصرم الشهر كلمح البصر،
وهكذا عُمر الإنسان، يتطلّع إلى آخره تطلُّع البعيد، فإذا به قد هجم عليه الموت. يؤمّل الإنسان بطولِ العمر، ويتسلَّى بالأماني، فإذا بحبلِ الأماني قد انصرم، وبناء الأماني قد انهدَم.
{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ } [النور:44].
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (يا ابنَ آدم، إنما أنتَ أيّامٌ، فإذا ذهب منك يومٌ ذهبَ بعضُك)
وقال أبو حازم رحمه الله تعالى: "عَجبًا لقومٍ يعملون لدارٍ يرحلون عنها كلَّ يوم مرحلة، ويدَعون أن يعمَلوا لدارٍ يرحلون إليها كلَّ يوم مرحلة"
كيف يفرح مَن يومُه يهدِم شهرَه، وشهرُه يهدِم سنتَه، وسنتُه تهدم عمرَه؟! كيف يفرح من عُمره يقوده إلى أجلِه، وحياتُه تقوده إلى موته؟! قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كيفَ نفرَح والموتُ من ورائنا، والقبور أمامنا، والقيامةُ موعدنا، وعلى جهنّم طريقنا، وبين يدَي ربّنا موقفنا؟
يقول أبو بكر الصديق : (إنكم تغدون وتروحون إلى أجل قد خفي عنكم علمه، فإن استطعتم أن لا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا)،
وفي الحديث عن ابن عمر قال: أخذ رسول الله بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)).
فانظر ـ يا عبد الله ـ كيف جعل النبي قصر الأمل في الدنيا وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا فيطمئن فيها، ولكن ينبغي له أن يكون فيها كأنه على جناح يهيئ جهازه للرحيل.
ورحم الله الفضيل بن عياض إذ لقيه رجل فسأله الفضيل عن عمره، فقال الرجل: عمري ستون سنة، قال الفضيل: إذًا أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله يوشك أن تصل، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون! قال الفضيل: هل عرفت معناها؟ قال: نعم، عرفت أني لله عبد وأني إلى الله راجع، فقال الفضيل: يا أخي، إن من عرف أنه لله عبد وأنه إلى الله راجع عرف أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسؤول، ومن عرف أنه مسؤول فليعدّ للسؤال جوابًا، فبكى الرجل وقال: يا فضيل، وما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة، قال: ما هي يرحمك الله؟ قال: أن تتقي الله فيما بقي يغفر الله لك ما قد مضى وما قد بقي.
عباد الله: لقد دعا الله -جل وعلا- الناس إلى محاسبة النفس وإلزامها طريق الحق (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "قد دل على
وجوب محاسبة النفس قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)
لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة من الأعمال: أمن الصالحات التي تنجيه أن من السيئات التي توبقه؟ قال قتادة: "ما زال ربكم يقرب الساعة حتى جعلها كغد". والمقصود صلاح القلب بمحاسبة النفس وفساده بإهمالها والاسترسال معها". ا.هـ
معاشر المؤمنين: لقد كان سلفنا الصالح يحاسبون أنفسهم على كل صغيرة وكبيرة، وكأن نفوسهم ليست لهم بل كأنها غريم يطالبونه بالسداد، أو أجيرٌ يراقبونه على عمله.
كما قال ميمون بن مهران رحمه الله: "لا يكون الرجل تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه".
عباد الله : بالأمس القريب كنا نرقب مجيء شهر رمضان بأيامه العظيمة ولياليه الغرر الحسان ، ونحن الآن عباد الله قد مضى من شهرنا عشرٌ كاملات ؛ بل أوشك الشهر على الانتصاف .
عباد الله : لابد للعبد من وقفةٍ صادقةٍ مع الله تبارك وتعالى ينيب فيها إلى ربِّه ويحاسب فيها نفسه ويزن فيها أعماله، إن عمرك أيها الإنسان شأنه شأن الشهور والأعوام ؛ فكما أن الشهور والأعوام تمضي سريعاً فإن العمر شأنه كذلك .
عباد الله : ما أجمل المحاسبة للنفس في وقت العمل وما أجمل وزن الأعمال قبل أن توزن ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا و زنوها قبل أن توزنوا .
عباد الله : إننا نعيش أيام مباركات وساعات فاضلات يقول نبينا عليه الصلاة والسلام : ((رمضان شهر مبارك يفتح فيه أبواب الجنة ، ويغلق فيه أبواب السعير ، وتصفد فيه الشياطين ، وينادي مناد كل ليلة : يا باغي الخير هلم إلى الخير ويا باغي الشر أقصر)) .
عباد الله : رمضان شهرٌ مبارك كما أخبر عنه نبيُّنا صلى الله عليه وسلم ؛ مباركٌ في كل لحظاته وفي جميع الأبواب والمجالات : بركة في الوقت ، وبركة في العمل ، وبركة في الجزاء ، وبركة في حسن العواقب والمآلات ، فكم لله تبارك وتعالى في هذا الشهر الكريم الفاضل العظيم من عتقاء من النارفهل حاسبت نفسك اين انت من عتقائه هل انت منهم ام انت ممن يعرض الله عنهم ))
عباد الله : أليس من اللائق بنا والجدير بكل مسلم أن يغنم بركة هذا الشهر وأن يتحيّن هذه الفرصة الثمينة للتزوّد بصالح الأعمال والتوبة النّصوح إلى الله ذي الجلال وكثرة الإنابة والاستغفار
نعم عباد الله ؛ إنه خسرانٌ عظيم وحرمانٌ بالغ أن يمر بالمرء هذا الموسم العظيم ثم لا ينيب إلى ربِّه جلّ وعلا ولا يتوب .
عباد الله : إذا لم تنب قلوبنا إلى الله في هذا الوقت فمتى تنيب ؟! إذا لم يكن منا توبة في هذه الساعات الفاضلات فمتى نتوب ؟! إذا لم تتحرك ألسنتنا -عباد الله- باستغفار كثير في هذه الأيام المباركات فمتى عسانا أن نستغفر؟!.
عباد الله : تعالوا نحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبنا ربُّنا ، تعالوا عباد الله لنصدق مع الله جل وعلا في توبة نصوح يَغفر بها ربُّنا ما سبق منا من أعمال وما بدر منا من تقصير ،
تعالوا عباد الله في هذه الساعات الفاضلات الكريمات نعاهد ربَّنا جل وعلا على إصلاح أحوالنا وتزيين أعمالنا والجدّ والاجتهاد فيما يقرّبنا من ربِّنا {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت:69].
وها نحن-عباد الله نعيش هذا الموسمٌ المبارك فأيُ رمضانٍ هو رمضانُك هذه المرة؟! هل هو رمضانُ المسوفين الكسالى، أم رمضان المسارعين المجدين؟! هل هو رمضان التوبة أم رمضان الشِقِوة، هل هو شهرُ النعمةِ أم شهرُ النقمة عليك ؟! هل هو شهر الصيام والقيام، أم شهر الموائد والأفلام والهيام؟! هذا ما يعتلج بالفؤاد ويدور بالخلد؟!
عباد الله لنحاسب انفسنا فهناك منا من يحرم رمضان ويخسر فضله وأجره والعياذ بالله، وربما لم يشعر ذلك المحروم بلذة الصيام والقيام ولا يعرف من رمضان إلا الجوع والعطش فأي حرمان بعد هذا الحرمان! نعوذ بالله من الخسران.
لماذا إذاً نحرم رمضان؟ سؤال يحتاج إلى إجابة. أليس الله يقول: {فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} (64)
إن من الناس خلقاً كثيراً خاسرين، استفادوا من رمضان قليلاً، وخسروا فيه كثيرًا
فيا ترى من هؤلاء الخاسرون إن هذا الصنف من الناس هم أهل القلوب القاسية، الذين لا يزيدهم رمضان من الله إلا بعدًا، ولا تزيدهم بشائر الرحمن إلا صدًا، {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
إنهم الذين إذا أدركوا رمضان، بادروا ببعض الأعمال، ولكنها لا تتغير منهم الأحوال، فيصبح الواحد منهم في شوال كما كان في شعبان،
إنهم الذين تركوا الصلوات، وانتهكوا المحرمات، وقضوا على أوقاتهم بالتفاهات.
إنهم من قضوا أوقاتهم في المعاصي والسيئات ويجاهرون الخالق بالمخالفات والمنكرات.
المحرومون في رمضان:هم الذين لا يؤدون الصلاة مع الجماعة ويتساهلون فيها، ويضيعون أوقاتهم في السبات او في مجالس الغفلة والاعراض واهدارمنهم لعظمة هذا الشهر في المجالس العامة او في الشوارع والأسواق.
ومن المحرومين في رمضان: الذين يؤذون الناس
ويتفكهون في الاعراض ويأكلون الحرام ومنه الربا والغش والسرقة، والتزييف والكذب والخداع والنجش والحلف الكاذب، والمنساقين اللاهثين وراء التجارة وكسب المال إلى حد التفريط في الواجبات.
أيها الأحباب: رمضان شهر النفحات والبركات: فلماذا لا نقوم رمضان؟ لماذا لا نجرب لذة القرآن، ولذة المناجاة والدعاء؟ لماذا لا نجرب وقت الأسحار وهجيع الليل؟ لماذا لا ننطرح بين يدي مولانا، فربنا ينزل في ثلث الليل الأخير نزولاً يليق بجلاله وعظمته يعرض نفحاته ورحماته، فلماذا لا نتعرض لرحمات الله!!
ولكن يا حسرةً على المحرومين، ويا حسرةً على المفتونين الذين يجعلون وقت رمضان لاعمال الدنيا ووقت العتق الإلهي فرصةً للعب واللهو ومشاهدة القنوات وتقليب الأبصار في الغانياتِ والمومساتِ، يا حسرةً على العباد!.المعرضين الغافلين التائهين المفرطين
ياعباد الله رمضانُ كلُّهُ رحمةٌ ومغفرةٌ وعتقٌ من النار، ونصفُهُ الثاني خيرٌ من نصفه الأول بيقين، فمن جهةٍ جعل اللهُ فيه ليلةً خيرًا من ألف شهر من صادفها فقامها إيمانًا واحتسابًا أعتقه اللهُ من النار وغَفَرَ لهُ ما تقدَّمَ من ذنبه. ومن جهةٍ أخرى جعل الله –سبحانَهُ- للخِتام ما لم يجعلهُ لغيرِه، كما قال صلى الله عليه وسلم في المتفق عليه: "إنما الأعمال بالخواتيم". اللهم وفقنا لحسن الختام ولاتمام
الشهر بالصيام والقيام
اللهمّ كن لنا عوناً مُعينا ، اللّهم كن لنا هادياً يا ذا الجلال والإكرام ، اللهمّ أصلح لنا شأننا كلَّه ، اللهمّ وفقنا أجمعين لتوبةٍ نصوح ترضى بها عنا، اللّهم وفقنا لحسن الإنابة إليك والاستغفار يا ذا الجلال والإكرام.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي و لكم و لسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
معاشرَ الصائمين .. أرأيتم ، ما أسرعَ ما تمضي الأيامُ .. ضيفُنا الكريمُ شهرُ رمضانَ ، ضيفٌ عزيزٌ علينا ، استقبلناهُ في آماسٍ مضتْ ، وها هوَ اليومَ قد انتصفَ ، لقدْ مضى من رمضانَ صدرُهُ، وانقضى شطرُهُ، واكتمل بدرُه ، فاغتمنوا فرصةً تمرُّ مرَّ السحابِ، ولِجُوا قبلَ أنْ يُغلقَ البابُ .. فإنَّهُ يوشكُ الضيفُ أن يرتحلَ، ويوشكُ الشهرُ أن يكتملَ ، فأحسنوا فيما بقيَ ، يُغفَرْ لكم ما قد سَلفَ ، قال تعالى ( وإني لغفارٌ لمن تابَ وآمن وعملَ صالحا ثم اهتدى )
يرحل عنا نصفُ رمضانَ ، وبين صفوفِناَ الصائمُ القائمُ ، المحسنُ الجوادُ ، نقيُّ السريرةِ ، طيبُ الأخلاقِ ، فهنيئاً لهؤلاءِ العاملينَ ما اسلفوهُ عندَ ربِّهم ، وما قدمُوه لأنفسِهم .
يرحل نصفُ رمضانَ ، وبينَ صفوفِنا صائمٌ عنِ الطعامِ والشرابِ، ولكنَّهُ مقصرٌ في الواجباتِ ، متكاسلٌ عن الطاعاتِ ، مقيمٌ على المُلهياتِ ، غافلٌ عن تلاوةِ الآياتِ ، ألهاهُ شبابُهُ ، وغرَّهُ أترابُه ، وما علمَ أنَّ الأعمارَ تنتهي ، فليته نظرَ إلى عاقبتِهِ ، و تأملَ في آخرتِهِ .
أيها المفرطونَ في شهرِ رمضانَ القائمِ، هل أنتم على يقينٍ من العيشِ إلى رمضانَ القادمِ ، قوموا بحقِّ شهرِكُم، واتقوا اللهَ في سرِّكم وجهرِكم ، واعلموا أنَّ عليكُم ملَكَينِ يصحبانَكُم طولَ دهرِكُم ، ويكتُبانِ كلَّ أعمالِكم ، فلا تهتِكُوا أستارَكُم عندَ مَنْ لا تخفى عليه أسرارُكم .
لنستدركَ أيها الأحبةُ المسلمونَ ، باقيَ الشهرِ، فإنهُ أشرفُ أوقاتِ الدهرِ، هذهِ أيامٌ يُحافَظُ عليها وتُصانُ ، فهي تاجٌ على رأسِ الزمانِ ، أيامُ رمضانَ يجبُ أنْ تُعظَّم وتصانَ ، وتُكرَمَ ولا تُهانَ ، فهل تركتم فيها الغيبة والبهتان، وكففتم جوارحَكم عن اللهوِ والعصيانِ ، واستعددتم ليومِ العرضِ على الرحمانِ ،
في صحيحِ ابنِ خزيمةَ وابنِ حبانَ وصححهُ الألبانيُّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ صعدَ المنبرَ فقالَ: ((آمين، آمين، آمين))، فقال الصحابةُ: يا رسولَ اللهِ، إنكَ صعدتَ المنبرَ فقلتَ: آمين، آمين، آمين!!، فقالَ : ((إنَّ جبريلَ عليهِ السلامُ أتاني، فقالَ: من أدركَ شهرَ رمضانَ فلم يُغفرْ لهُ ، فدخلَ النارَ فأبعدَهُ اللهُ ، قُلْ: آمين ، قلتُ: آمين))
أيها الإخوةُ المؤمنونَ ، إننا مسؤولونَ عن هذهِ الأوقاتِ ، فهي أنفاسُ أعمارِنا ، ففي أيِّ وادٍ قضيناها ، أفي طاعةِ اللهِ وذكرِه ، وعبادتِه وشُكرِه ، وتلاوةِ كتابِه ، أم قضيناها في الضياع والغفلات وأمامَ القنواتِ والمسلسلات ، أو في اللهوِ واللعبِ والاعراض، هذهِ أوقاتٌ فاضلةٌ لا ينبغي أنْ تُصرفَ إلا في طاعةِ اللهِ ومرضاتِه ،
أيها المؤمنونَ، إنَّ شهرَ رمضانَ شهرُ العتقِ من النيرانِ، شهرُ فِكاكِ الرقابِ منْ دارِ الشقاءِ والحرمانِ ، فعنْ أبي أمامةَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ : ((للهِ عزَّ وجلَّ عندَ كلِّ فطرٍ عتقاء)) أخرجَهُ أحمدُ والطبرانيُّ وحسَّنَهُ الألبانيُّ .. وفي حديثِ أبي سعيدِ الخدريِّ رضيَ اللهُ عنهُ عندَ أحمد ، وصححهُ الألبانيُّ : ((إنَّ للهِ تباركَ وتعالى عتقاءُ في كلِّ يومٍ وليلةٍ يعني في رمضانَ وإنَّ لكلِّ مسلمٍ في كلِّ يومٍ وليلةٍ دعوةٌ مستجابةٌ )) .
فاجتهدوا – يا رعاكُمُ اللهُ – ما استطعتم في إعتاقِ رقابِكم ، وفكاكِ أبدانِكم ،
أيها المؤمنونَ : هذا أوانُ التوبةِ والاستغفارِ، والأوبةِ والانكسارِ ، فمن لم يتبْ في رمضانَ؟ فمتى يتوبُ ، ورَغِمَ أنفَ رجلٍ أدركَ رمضانَ فلم يُغفرْ لهُ
إنَّ رمضانَ فرصةٌ للمذنبينَ.. فجديرٌ بالمؤمنِ أن يُشمِّرَ.. وحريٌّ بالغافلِ أنْ يتداركَ ما بقيَ ، ويغتنمَ ما هو آتٍ .
عبادَ الله .. ونحنُ نرى الناسَ في هذهِ الأيامِ يتهافتونَ على ارباح الدنيا ،..
ولكنه من خلفِ هذه الإستثماراتِ الموتُ ، فما أجدَرنا أنْ نستثمرَ رمضانَ بالأعمالِ الصالحةِ ، والتجارةِ الرابحةِ .. فمِن وراءِ استثماراتِ الآخرةِ حياةٌ أبديةٌ ، فابذلوا المعروفَ ، ومُدوا يدَ العونِ للمحتاجينَ ، وارعوا الضعفاءَ والمعُوزينَ .. فقد كانَ نبيُّكم صلى اللهُ عليهِ وسلمَ أجودَ الناسِ ، وكانَ أجودَ ما يكونُ في رمضانَ فكانَ أجودَ بالخيرِ من الريحِ المرسلةِ
عبادَ اللهِ رمضانُ شهرُ تلاوةِ القرآنِ ، وتدبُّرِ آيِ الفرقانِ ، لقد شرَّفَكم اللهُ تعالى وتباركَ ، بهذا الكتابِ المباركِ ، فتدبروا آياتِهِ ، وتفكروا في بيِّناتِهِ وقِفُوا عندَ عِظاتِه ، لقد كانَ السلفُ الكرامُ رحمَهم اللهُ يكثرونَ من ختمِ القرآنِ، فإذا جاءَ رمضانُ ازدادوا من ذلكَ لشرفِ الزمانِ، وكانَ جبريلُ عليهِ السلامُ يَلقى رسولَ اللهِ في كلِّ ليلةٍ من رمضانَ، فيدارسُه القرآنَ . وفي آخرِ عامٍ من حياةِ سيدِ الأنامِ ، عارضَهُ جبريلُ القرآنَ مرتينِ على التمامِ .
وكانَ الأسودُ التابعيُّ رحمَه اللهُ يختمُ القرآنَ في رمضانَ كلَّ ليلتينِ، وكانَ يختمُ في غيرِ رمضانَ كلَّ ستِّ ليالٍ.
وكانَ قتادةُ رحمَه اللهُ يختمُ القرآنَ في كلِّ سبعِ ليالٍ مرةً، فإذا جاءَ رمضانُ ختمَ في كلِّ ثلاثِ ليالٍ مرةً، فإذا جاءَ العشرُ ختمَ في كلِّ ليلةٍ مرةً.
أيها المسلمونَ : لا تتركوا صلاةَ التراويحِ ولا صلاةَ القيامِ ، فقد قالَ صلى اللهُ عليه وسلمَ : من قامَ رمضانَ إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبهِ .. وأخبر صلى اللهُ عليه وسلمَ أنَّ مَنْ قامَ معَ الإمامِ حتى ينصرفَ كُتبَ لهُ قيامُ ليلةٍ .. فهنيئاً للقائمينَ .
أيها المسلمونَ : أحيوا شعيرةَ الاعتكافِ في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ ، فإنها منَ السننِ التي كانَ يُحافظُ عليها نبيُّ الهدى صلى الله عليه وسلم .
عبادَ الله .. إنَّ رمضانَ فرصةٌ حقيقيةٌ للاستثمارِ الرابحِ معَ اللهِ ، واللبيبُ يدركُ والحصيفُ يعلمُ أنَّ الفُرصَ تلوحُ وتروحُ ، وقد لا تعودُ ، فاستثمروا رحمَكُم اللهُ ما بقيَ من حياتِكم .. وتزودوا لمعادِكم قبلَ مماتِكم .. (واتقوا اللهَ واعلموا أنَّكم ملاقوهُ ، وبشِّرِ المؤمنينَ) .
هذا الشهرُ كلُّهُ فُرصٌ فانتهزوها ، وأيامٌ فتداركُوها ، رحمَكم اللهُ ، وأعتقَ رقابَكم من النارِ ، (وما تقدوموا لأنفسِكم من خيرٍ تجدوهُ عندَ اللهِ هو خيراً وأعظمَ أجراً ، واستغفروا اللهَ إن اللهَ غفورٌ رحيمٌ)
وصلو وسلمو ,,,,,
اخوكم عبدالوهاب المعبأ
773027648جوال
المحاسبة الجادة
مع انتصاف شهر الصوم
ترتيب واعداد عبدالوهاب المعبأ
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، نحمده سبحانه حمدَ الشاكرين الذاكرين الصابرين الثابتين، حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه، ملءَ السموات وملءَ الأرضِ وملءَ ما بينهما، وملءَ ما شاءَ ربُّنا من شيءٍ بعد، ونشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أنَّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحبِهِ الأخيار، ومن تبعَهُم على الحقّ إلى يوم الدّين وسلَّم.
أمّا بعد: فأوصيكُم ـ أيّها النّاس ـ ونفسِي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فاتقوا اللهَ رحمكم الله، واغتنِموا مواسمَ الأرباحِ فقد فُتِحت أسواقها، وداوموا قرعَ أبواب التوبة قبل أن يحينَ إغلاقها. الغَفلةُ تمنَعُ الرِّبحَ، والمعصيةُ تقودُ إلى الخُسران. الواقفُ بغير بابِ الله عظيمٌ هوانُه، والمؤمِّل غيرَ فضلِ الله خائبةٌ آماله، والعامِل لغير الله ضائعةٌ أعمالُه. الأسباب كلُّها منقطِعة إلا أسبابه، والأبوابُ كلّها مغلَقة إلا أبوابُه. النّعيمُ في التلذُّذ بمناجَاةِ الله، والرّاحة في التّعَب في خدمةِ الله، والغِنى في تصحيحِ الافتقارِ إلى الله.
أيّها المسلمون، الأيّام تمرُّ عجلَى، والسّنون تنقضِي سِراعًا، وكثيرٌ من الناسِ في غَمرةٍ ساهون وعن التّذكِرة معرِضون، وفي التنزيل العزيز:( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا[الفرقان:62].
ولما كان العُمر ـ يا عبادَ الله ـ محدودًا وأيّامُ العَبدِ في هذه الدّنيا معدودَة فقد امتنَّ الله على عبادِه بمواسمِ الخيرات ومِنَح النّفَحات، وأكرَمَ بأيّامٍ وليالٍ خصَّها بمزيدٍ منَ الشَّرَف والفَضلِ وعَظيمِ الثّوابِ ومُضَاعَفة الأجرِ، وجعَل فيها بمنِّه وكرَمِه ما يُعوِّض فيهِ الموفَّق قِصَرَ حياتِه وتقصيرَ أعماله. وإنّ أيّامَكم هذه من أفضلِ الأيّام، وهذه الساعات واللحظات هي من اسعد حياة العبد الموفق اليقض
إنّ هذه الشمسَ التي تطلع كلَّ يوم من مشرقها وتغرب في مغربها تحمِل أعظمَ الاعتبار، فطلوعُها ثم غيابُها إيذان بأنّ هذه الدنيا ليست دارَ قرار، وإنما طلوعٌ وزوال.
انظر إلى هذه الشهور، تهلّ فيها الأهلّة صغيرةً كما يولَد الأطفال، ثم تنمو رويدًا رويدًا كما تنمو الأجسام، حتى إذا تكامل نموُّها أخذت في النقص والاضمحلال، وهكذا عمر الإنسان.
من فضل الله عليكم أنكم أدركتم هذا الشهر العظيم
ونلتم هذه العطية الكبيرة وقد توفقتم ايها الحاضرون أن مر بكم الاسبوع الاول منه والان تعيشون نصف شهركم الاول وقريبا باذن الله سيمر بكم من شهركم الاسبوع الثالث ثم الاخير ثم تخرجون من هذا الشهر فينصرم الشهر كلمح البصر،
وهكذا عُمر الإنسان، يتطلّع إلى آخره تطلُّع البعيد، فإذا به قد هجم عليه الموت. يؤمّل الإنسان بطولِ العمر، ويتسلَّى بالأماني، فإذا بحبلِ الأماني قد انصرم، وبناء الأماني قد انهدَم.
{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ } [النور:44].
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (يا ابنَ آدم، إنما أنتَ أيّامٌ، فإذا ذهب منك يومٌ ذهبَ بعضُك)
وقال أبو حازم رحمه الله تعالى: "عَجبًا لقومٍ يعملون لدارٍ يرحلون عنها كلَّ يوم مرحلة، ويدَعون أن يعمَلوا لدارٍ يرحلون إليها كلَّ يوم مرحلة"
كيف يفرح مَن يومُه يهدِم شهرَه، وشهرُه يهدِم سنتَه، وسنتُه تهدم عمرَه؟! كيف يفرح من عُمره يقوده إلى أجلِه، وحياتُه تقوده إلى موته؟! قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كيفَ نفرَح والموتُ من ورائنا، والقبور أمامنا، والقيامةُ موعدنا، وعلى جهنّم طريقنا، وبين يدَي ربّنا موقفنا؟
يقول أبو بكر الصديق : (إنكم تغدون وتروحون إلى أجل قد خفي عنكم علمه، فإن استطعتم أن لا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا)،
وفي الحديث عن ابن عمر قال: أخذ رسول الله بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)).
فانظر ـ يا عبد الله ـ كيف جعل النبي قصر الأمل في الدنيا وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا فيطمئن فيها، ولكن ينبغي له أن يكون فيها كأنه على جناح يهيئ جهازه للرحيل.
ورحم الله الفضيل بن عياض إذ لقيه رجل فسأله الفضيل عن عمره، فقال الرجل: عمري ستون سنة، قال الفضيل: إذًا أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله يوشك أن تصل، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون! قال الفضيل: هل عرفت معناها؟ قال: نعم، عرفت أني لله عبد وأني إلى الله راجع، فقال الفضيل: يا أخي، إن من عرف أنه لله عبد وأنه إلى الله راجع عرف أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسؤول، ومن عرف أنه مسؤول فليعدّ للسؤال جوابًا، فبكى الرجل وقال: يا فضيل، وما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة، قال: ما هي يرحمك الله؟ قال: أن تتقي الله فيما بقي يغفر الله لك ما قد مضى وما قد بقي.
عباد الله: لقد دعا الله -جل وعلا- الناس إلى محاسبة النفس وإلزامها طريق الحق (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "قد دل على
وجوب محاسبة النفس قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)
لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة من الأعمال: أمن الصالحات التي تنجيه أن من السيئات التي توبقه؟ قال قتادة: "ما زال ربكم يقرب الساعة حتى جعلها كغد". والمقصود صلاح القلب بمحاسبة النفس وفساده بإهمالها والاسترسال معها". ا.هـ
معاشر المؤمنين: لقد كان سلفنا الصالح يحاسبون أنفسهم على كل صغيرة وكبيرة، وكأن نفوسهم ليست لهم بل كأنها غريم يطالبونه بالسداد، أو أجيرٌ يراقبونه على عمله.
كما قال ميمون بن مهران رحمه الله: "لا يكون الرجل تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه".
عباد الله : بالأمس القريب كنا نرقب مجيء شهر رمضان بأيامه العظيمة ولياليه الغرر الحسان ، ونحن الآن عباد الله قد مضى من شهرنا عشرٌ كاملات ؛ بل أوشك الشهر على الانتصاف .
عباد الله : لابد للعبد من وقفةٍ صادقةٍ مع الله تبارك وتعالى ينيب فيها إلى ربِّه ويحاسب فيها نفسه ويزن فيها أعماله، إن عمرك أيها الإنسان شأنه شأن الشهور والأعوام ؛ فكما أن الشهور والأعوام تمضي سريعاً فإن العمر شأنه كذلك .
عباد الله : ما أجمل المحاسبة للنفس في وقت العمل وما أجمل وزن الأعمال قبل أن توزن ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا و زنوها قبل أن توزنوا .
عباد الله : إننا نعيش أيام مباركات وساعات فاضلات يقول نبينا عليه الصلاة والسلام : ((رمضان شهر مبارك يفتح فيه أبواب الجنة ، ويغلق فيه أبواب السعير ، وتصفد فيه الشياطين ، وينادي مناد كل ليلة : يا باغي الخير هلم إلى الخير ويا باغي الشر أقصر)) .
عباد الله : رمضان شهرٌ مبارك كما أخبر عنه نبيُّنا صلى الله عليه وسلم ؛ مباركٌ في كل لحظاته وفي جميع الأبواب والمجالات : بركة في الوقت ، وبركة في العمل ، وبركة في الجزاء ، وبركة في حسن العواقب والمآلات ، فكم لله تبارك وتعالى في هذا الشهر الكريم الفاضل العظيم من عتقاء من النارفهل حاسبت نفسك اين انت من عتقائه هل انت منهم ام انت ممن يعرض الله عنهم ))
عباد الله : أليس من اللائق بنا والجدير بكل مسلم أن يغنم بركة هذا الشهر وأن يتحيّن هذه الفرصة الثمينة للتزوّد بصالح الأعمال والتوبة النّصوح إلى الله ذي الجلال وكثرة الإنابة والاستغفار
نعم عباد الله ؛ إنه خسرانٌ عظيم وحرمانٌ بالغ أن يمر بالمرء هذا الموسم العظيم ثم لا ينيب إلى ربِّه جلّ وعلا ولا يتوب .
عباد الله : إذا لم تنب قلوبنا إلى الله في هذا الوقت فمتى تنيب ؟! إذا لم يكن منا توبة في هذه الساعات الفاضلات فمتى نتوب ؟! إذا لم تتحرك ألسنتنا -عباد الله- باستغفار كثير في هذه الأيام المباركات فمتى عسانا أن نستغفر؟!.
عباد الله : تعالوا نحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبنا ربُّنا ، تعالوا عباد الله لنصدق مع الله جل وعلا في توبة نصوح يَغفر بها ربُّنا ما سبق منا من أعمال وما بدر منا من تقصير ،
تعالوا عباد الله في هذه الساعات الفاضلات الكريمات نعاهد ربَّنا جل وعلا على إصلاح أحوالنا وتزيين أعمالنا والجدّ والاجتهاد فيما يقرّبنا من ربِّنا {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت:69].
وها نحن-عباد الله نعيش هذا الموسمٌ المبارك فأيُ رمضانٍ هو رمضانُك هذه المرة؟! هل هو رمضانُ المسوفين الكسالى، أم رمضان المسارعين المجدين؟! هل هو رمضان التوبة أم رمضان الشِقِوة، هل هو شهرُ النعمةِ أم شهرُ النقمة عليك ؟! هل هو شهر الصيام والقيام، أم شهر الموائد والأفلام والهيام؟! هذا ما يعتلج بالفؤاد ويدور بالخلد؟!
عباد الله لنحاسب انفسنا فهناك منا من يحرم رمضان ويخسر فضله وأجره والعياذ بالله، وربما لم يشعر ذلك المحروم بلذة الصيام والقيام ولا يعرف من رمضان إلا الجوع والعطش فأي حرمان بعد هذا الحرمان! نعوذ بالله من الخسران.
لماذا إذاً نحرم رمضان؟ سؤال يحتاج إلى إجابة. أليس الله يقول: {فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} (64)
إن من الناس خلقاً كثيراً خاسرين، استفادوا من رمضان قليلاً، وخسروا فيه كثيرًا
فيا ترى من هؤلاء الخاسرون إن هذا الصنف من الناس هم أهل القلوب القاسية، الذين لا يزيدهم رمضان من الله إلا بعدًا، ولا تزيدهم بشائر الرحمن إلا صدًا، {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
إنهم الذين إذا أدركوا رمضان، بادروا ببعض الأعمال، ولكنها لا تتغير منهم الأحوال، فيصبح الواحد منهم في شوال كما كان في شعبان،
إنهم الذين تركوا الصلوات، وانتهكوا المحرمات، وقضوا على أوقاتهم بالتفاهات.
إنهم من قضوا أوقاتهم في المعاصي والسيئات ويجاهرون الخالق بالمخالفات والمنكرات.
المحرومون في رمضان:هم الذين لا يؤدون الصلاة مع الجماعة ويتساهلون فيها، ويضيعون أوقاتهم في السبات او في مجالس الغفلة والاعراض واهدارمنهم لعظمة هذا الشهر في المجالس العامة او في الشوارع والأسواق.
ومن المحرومين في رمضان: الذين يؤذون الناس
ويتفكهون في الاعراض ويأكلون الحرام ومنه الربا والغش والسرقة، والتزييف والكذب والخداع والنجش والحلف الكاذب، والمنساقين اللاهثين وراء التجارة وكسب المال إلى حد التفريط في الواجبات.
أيها الأحباب: رمضان شهر النفحات والبركات: فلماذا لا نقوم رمضان؟ لماذا لا نجرب لذة القرآن، ولذة المناجاة والدعاء؟ لماذا لا نجرب وقت الأسحار وهجيع الليل؟ لماذا لا ننطرح بين يدي مولانا، فربنا ينزل في ثلث الليل الأخير نزولاً يليق بجلاله وعظمته يعرض نفحاته ورحماته، فلماذا لا نتعرض لرحمات الله!!
ولكن يا حسرةً على المحرومين، ويا حسرةً على المفتونين الذين يجعلون وقت رمضان لاعمال الدنيا ووقت العتق الإلهي فرصةً للعب واللهو ومشاهدة القنوات وتقليب الأبصار في الغانياتِ والمومساتِ، يا حسرةً على العباد!.المعرضين الغافلين التائهين المفرطين
ياعباد الله رمضانُ كلُّهُ رحمةٌ ومغفرةٌ وعتقٌ من النار، ونصفُهُ الثاني خيرٌ من نصفه الأول بيقين، فمن جهةٍ جعل اللهُ فيه ليلةً خيرًا من ألف شهر من صادفها فقامها إيمانًا واحتسابًا أعتقه اللهُ من النار وغَفَرَ لهُ ما تقدَّمَ من ذنبه. ومن جهةٍ أخرى جعل الله –سبحانَهُ- للخِتام ما لم يجعلهُ لغيرِه، كما قال صلى الله عليه وسلم في المتفق عليه: "إنما الأعمال بالخواتيم". اللهم وفقنا لحسن الختام ولاتمام
الشهر بالصيام والقيام
اللهمّ كن لنا عوناً مُعينا ، اللّهم كن لنا هادياً يا ذا الجلال والإكرام ، اللهمّ أصلح لنا شأننا كلَّه ، اللهمّ وفقنا أجمعين لتوبةٍ نصوح ترضى بها عنا، اللّهم وفقنا لحسن الإنابة إليك والاستغفار يا ذا الجلال والإكرام.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي و لكم و لسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
معاشرَ الصائمين .. أرأيتم ، ما أسرعَ ما تمضي الأيامُ .. ضيفُنا الكريمُ شهرُ رمضانَ ، ضيفٌ عزيزٌ علينا ، استقبلناهُ في آماسٍ مضتْ ، وها هوَ اليومَ قد انتصفَ ، لقدْ مضى من رمضانَ صدرُهُ، وانقضى شطرُهُ، واكتمل بدرُه ، فاغتمنوا فرصةً تمرُّ مرَّ السحابِ، ولِجُوا قبلَ أنْ يُغلقَ البابُ .. فإنَّهُ يوشكُ الضيفُ أن يرتحلَ، ويوشكُ الشهرُ أن يكتملَ ، فأحسنوا فيما بقيَ ، يُغفَرْ لكم ما قد سَلفَ ، قال تعالى ( وإني لغفارٌ لمن تابَ وآمن وعملَ صالحا ثم اهتدى )
يرحل عنا نصفُ رمضانَ ، وبين صفوفِناَ الصائمُ القائمُ ، المحسنُ الجوادُ ، نقيُّ السريرةِ ، طيبُ الأخلاقِ ، فهنيئاً لهؤلاءِ العاملينَ ما اسلفوهُ عندَ ربِّهم ، وما قدمُوه لأنفسِهم .
يرحل نصفُ رمضانَ ، وبينَ صفوفِنا صائمٌ عنِ الطعامِ والشرابِ، ولكنَّهُ مقصرٌ في الواجباتِ ، متكاسلٌ عن الطاعاتِ ، مقيمٌ على المُلهياتِ ، غافلٌ عن تلاوةِ الآياتِ ، ألهاهُ شبابُهُ ، وغرَّهُ أترابُه ، وما علمَ أنَّ الأعمارَ تنتهي ، فليته نظرَ إلى عاقبتِهِ ، و تأملَ في آخرتِهِ .
أيها المفرطونَ في شهرِ رمضانَ القائمِ، هل أنتم على يقينٍ من العيشِ إلى رمضانَ القادمِ ، قوموا بحقِّ شهرِكُم، واتقوا اللهَ في سرِّكم وجهرِكم ، واعلموا أنَّ عليكُم ملَكَينِ يصحبانَكُم طولَ دهرِكُم ، ويكتُبانِ كلَّ أعمالِكم ، فلا تهتِكُوا أستارَكُم عندَ مَنْ لا تخفى عليه أسرارُكم .
لنستدركَ أيها الأحبةُ المسلمونَ ، باقيَ الشهرِ، فإنهُ أشرفُ أوقاتِ الدهرِ، هذهِ أيامٌ يُحافَظُ عليها وتُصانُ ، فهي تاجٌ على رأسِ الزمانِ ، أيامُ رمضانَ يجبُ أنْ تُعظَّم وتصانَ ، وتُكرَمَ ولا تُهانَ ، فهل تركتم فيها الغيبة والبهتان، وكففتم جوارحَكم عن اللهوِ والعصيانِ ، واستعددتم ليومِ العرضِ على الرحمانِ ،
في صحيحِ ابنِ خزيمةَ وابنِ حبانَ وصححهُ الألبانيُّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ صعدَ المنبرَ فقالَ: ((آمين، آمين، آمين))، فقال الصحابةُ: يا رسولَ اللهِ، إنكَ صعدتَ المنبرَ فقلتَ: آمين، آمين، آمين!!، فقالَ : ((إنَّ جبريلَ عليهِ السلامُ أتاني، فقالَ: من أدركَ شهرَ رمضانَ فلم يُغفرْ لهُ ، فدخلَ النارَ فأبعدَهُ اللهُ ، قُلْ: آمين ، قلتُ: آمين))
أيها الإخوةُ المؤمنونَ ، إننا مسؤولونَ عن هذهِ الأوقاتِ ، فهي أنفاسُ أعمارِنا ، ففي أيِّ وادٍ قضيناها ، أفي طاعةِ اللهِ وذكرِه ، وعبادتِه وشُكرِه ، وتلاوةِ كتابِه ، أم قضيناها في الضياع والغفلات وأمامَ القنواتِ والمسلسلات ، أو في اللهوِ واللعبِ والاعراض، هذهِ أوقاتٌ فاضلةٌ لا ينبغي أنْ تُصرفَ إلا في طاعةِ اللهِ ومرضاتِه ،
أيها المؤمنونَ، إنَّ شهرَ رمضانَ شهرُ العتقِ من النيرانِ، شهرُ فِكاكِ الرقابِ منْ دارِ الشقاءِ والحرمانِ ، فعنْ أبي أمامةَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ : ((للهِ عزَّ وجلَّ عندَ كلِّ فطرٍ عتقاء)) أخرجَهُ أحمدُ والطبرانيُّ وحسَّنَهُ الألبانيُّ .. وفي حديثِ أبي سعيدِ الخدريِّ رضيَ اللهُ عنهُ عندَ أحمد ، وصححهُ الألبانيُّ : ((إنَّ للهِ تباركَ وتعالى عتقاءُ في كلِّ يومٍ وليلةٍ يعني في رمضانَ وإنَّ لكلِّ مسلمٍ في كلِّ يومٍ وليلةٍ دعوةٌ مستجابةٌ )) .
فاجتهدوا – يا رعاكُمُ اللهُ – ما استطعتم في إعتاقِ رقابِكم ، وفكاكِ أبدانِكم ،
أيها المؤمنونَ : هذا أوانُ التوبةِ والاستغفارِ، والأوبةِ والانكسارِ ، فمن لم يتبْ في رمضانَ؟ فمتى يتوبُ ، ورَغِمَ أنفَ رجلٍ أدركَ رمضانَ فلم يُغفرْ لهُ
إنَّ رمضانَ فرصةٌ للمذنبينَ.. فجديرٌ بالمؤمنِ أن يُشمِّرَ.. وحريٌّ بالغافلِ أنْ يتداركَ ما بقيَ ، ويغتنمَ ما هو آتٍ .
عبادَ الله .. ونحنُ نرى الناسَ في هذهِ الأيامِ يتهافتونَ على ارباح الدنيا ،..
ولكنه من خلفِ هذه الإستثماراتِ الموتُ ، فما أجدَرنا أنْ نستثمرَ رمضانَ بالأعمالِ الصالحةِ ، والتجارةِ الرابحةِ .. فمِن وراءِ استثماراتِ الآخرةِ حياةٌ أبديةٌ ، فابذلوا المعروفَ ، ومُدوا يدَ العونِ للمحتاجينَ ، وارعوا الضعفاءَ والمعُوزينَ .. فقد كانَ نبيُّكم صلى اللهُ عليهِ وسلمَ أجودَ الناسِ ، وكانَ أجودَ ما يكونُ في رمضانَ فكانَ أجودَ بالخيرِ من الريحِ المرسلةِ
عبادَ اللهِ رمضانُ شهرُ تلاوةِ القرآنِ ، وتدبُّرِ آيِ الفرقانِ ، لقد شرَّفَكم اللهُ تعالى وتباركَ ، بهذا الكتابِ المباركِ ، فتدبروا آياتِهِ ، وتفكروا في بيِّناتِهِ وقِفُوا عندَ عِظاتِه ، لقد كانَ السلفُ الكرامُ رحمَهم اللهُ يكثرونَ من ختمِ القرآنِ، فإذا جاءَ رمضانُ ازدادوا من ذلكَ لشرفِ الزمانِ، وكانَ جبريلُ عليهِ السلامُ يَلقى رسولَ اللهِ في كلِّ ليلةٍ من رمضانَ، فيدارسُه القرآنَ . وفي آخرِ عامٍ من حياةِ سيدِ الأنامِ ، عارضَهُ جبريلُ القرآنَ مرتينِ على التمامِ .
وكانَ الأسودُ التابعيُّ رحمَه اللهُ يختمُ القرآنَ في رمضانَ كلَّ ليلتينِ، وكانَ يختمُ في غيرِ رمضانَ كلَّ ستِّ ليالٍ.
وكانَ قتادةُ رحمَه اللهُ يختمُ القرآنَ في كلِّ سبعِ ليالٍ مرةً، فإذا جاءَ رمضانُ ختمَ في كلِّ ثلاثِ ليالٍ مرةً، فإذا جاءَ العشرُ ختمَ في كلِّ ليلةٍ مرةً.
أيها المسلمونَ : لا تتركوا صلاةَ التراويحِ ولا صلاةَ القيامِ ، فقد قالَ صلى اللهُ عليه وسلمَ : من قامَ رمضانَ إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبهِ .. وأخبر صلى اللهُ عليه وسلمَ أنَّ مَنْ قامَ معَ الإمامِ حتى ينصرفَ كُتبَ لهُ قيامُ ليلةٍ .. فهنيئاً للقائمينَ .
أيها المسلمونَ : أحيوا شعيرةَ الاعتكافِ في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ ، فإنها منَ السننِ التي كانَ يُحافظُ عليها نبيُّ الهدى صلى الله عليه وسلم .
عبادَ الله .. إنَّ رمضانَ فرصةٌ حقيقيةٌ للاستثمارِ الرابحِ معَ اللهِ ، واللبيبُ يدركُ والحصيفُ يعلمُ أنَّ الفُرصَ تلوحُ وتروحُ ، وقد لا تعودُ ، فاستثمروا رحمَكُم اللهُ ما بقيَ من حياتِكم .. وتزودوا لمعادِكم قبلَ مماتِكم .. (واتقوا اللهَ واعلموا أنَّكم ملاقوهُ ، وبشِّرِ المؤمنينَ) .
هذا الشهرُ كلُّهُ فُرصٌ فانتهزوها ، وأيامٌ فتداركُوها ، رحمَكم اللهُ ، وأعتقَ رقابَكم من النارِ ، (وما تقدوموا لأنفسِكم من خيرٍ تجدوهُ عندَ اللهِ هو خيراً وأعظمَ أجراً ، واستغفروا اللهَ إن اللهَ غفورٌ رحيمٌ)
وصلو وسلمو ,,,,,
اخوكم عبدالوهاب المعبأ
773027648جوال