المجاهرون

أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقوا الله ربَّكم - تعالى - وأطيعوه، وراقِبُوه واحذَرُوه، واقتَفُوا آثار نبيِّكم محمد ﷺ واتَّبِعوه؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ الأنفال.

فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ، وامتَثِلُوا أَوَامِرَهُ وهَدْيَ آيَاتِهِ، واعلَمُوا -رَحِمَكُم اللهُ- أَنَّ أَعْظَمِ الْآثَامِ الَّتِي تُرتكب هَذِهِ الْأَيَّامَ: المُجَاهَرَةُ بِالذُّنُوبِ؛ رَوَى أَبَو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه سمع رَسُولَ اللَّـهِ ﷺ يَقُولُ: ﴿كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّـهِ عَنْهُ﴾ ﴿مُتَّفَقُ عَلَيْهِ﴾.

في هذا الحديث الشريف بشرى طيبة لأمة محمد ﷺ بأنها أمة المعافاة في الدنيا والآخرة ﴿كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى﴾. فالمعافاة في الدنيا بأن الله لن يهلكها بسنة عام كما خسف بالأمم السابقة، فقد ابتلى الله الأمم الغابرة بأصناف العذاب البالغة، وهذا العذاب على أمرين:

أولهما: عذاب الاستئصال، وهو الذي يهلك جميع الأمة فلا يبقي منها ولا يذر، كما حصل مع قوم نوح عاد وثمود.

والثاني: هو ذلكم العذاب الشديد الذي يصيب الأمة ويزلزلها كالطواعين والطوفان والكوارث من خسف ومسخ، وقد عذب الله به فرعون وبني إسرائيل، وهذا النوع من العذاب لا يؤدي إلى فناء الأمة المعذبة جميعها.

ثم قال ﷺ (إِلَّا المُجَاهِرِينَ) والمجاهر هو الذي يفعل المنكر أمام الناس ويتحدث به والمجاهرة بالمعاصي محرمة ومخالفة لما أمر الله من ستر العبد نفسه، فالنفس متى ألفت ظهور المعاصي زاد انهماكها فيها ولم تبالي باجتنابها، لذا حذر الشرع المطهر من مجاهرة الله بالمعصية وبين الله تعالى أن ذلك من أسباب العقوبة والعذاب فمن النصوص الدالة على ذلك قوله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ النور:19. هذا الذم والوعيد فيمن يحب إشاعة الفواحش فما بالك بمن يشيعها ويعلنها.

ثم قال ﷺ (وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّـهِ عَنْهُ﴾

الله تعالى يستر على عبده ما لم يفضح العبد نفسه، فتجد الرجل يعمل عملاً وهو وحده ثم يحدث النّاس بما فعل من رؤية أفلام خليعة أو سماع أغاني أو يشرب أو يأكل الحرام أو يلعب الحرام.

عن ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّـهِ ﷺ قال: ﴿إِنَّ اللهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ…﴾ ﴿رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ﴾.

وهذا يعني أنه يُستر في الآخرة من سُتِرَ في الدنيا،

وَالمُجَاهِرُ يَفُوتُهُ هَذَا السِّتْرُ وَالْعَفْوُ فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّـهِ -تَعَالَى- فِي الدُّنْيَا، وَفَضَحَ نَفْسَهُ، وَجَاهَرَ بِإِثْمِهِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَيْهِ.

عباد الله، إن المُجَاهَرَةُ بِالَإِثْمِ أَشْنَعُ مِنْ فِعْلِهِ، بَلْ لَوْ جَاهَرَ بِذَنْبٍ ادَّعَى أَنَّهُ فَعَلَهُ وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْهُ لَكَانَ حَرِيًّا أَنْ تَكُونَ مُجَاهَرَتُهُ تِلْكَ أَعْظَمَ مِنْ مُجَرَّدِ ارْتِكَابِ الذَّنْبِ لَوِ ارْتَكَبَهُ؛ لِأَنَّهُ كَذَبَ، وَالْكَذِبُ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَكَذِبُهُ كَانَ فِي شَيْءٍ قَبِيحٍ؛ وَلِأَنَّ المَعْنَى مِنْ مَنْعِ المُجَاهَرَةِ بِالذَّنْبِ عَدَمُ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ، وَالْكَاذِبُ المُجَاهِرُ قَدِ اسْتَخَفَّ بِالذَّنْبِ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ؛ وَلِمَا فِي مُجَاهَرَتِهِ بِالذَّنْبِ -وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ- مِنْ تَجْرِيءٍ لِلنَّاسِ عَلَى فِعْلِ الذَّنْبِ، وَدَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَتَكْثِيرِ أَصْحَابِ المَعَاصِي، وَتَقْوِيَةِ أَهْلِ المُنْكَرَاتِ.

﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ۞ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۞ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۞ أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ آل عمران 133

الخطبة الثانية

إِنَّ الحَمْدَ للهِ نَحمَدُهُ ونَستَعِينُهُ ونَستَهْدِيهِ ونَشْكُرُهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا، مَن يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ على سَيِّدِنا محمّدٍ الصادِقِ الوَعْدِ الأَمِينِ وعَلى إِخْوانِهِ النَّبِيِّينَ والْمُرْسَلِين. وَرَضِيَ اللهُ عَنْ أُمَّهاتِ الْمُؤْمِنينَ وَءالِ البَيْتِ الطَّاهِرينَ وَعَنِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ أَبي بَكْرٍ وعُمَرَ وَعُثْمانَ وَعَلِيٍّ وَعَنِ الأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ أَبي حَنِيفَةَ ومالِكٍ والشافِعِيِّ وأَحْمَدَ وَعَنِ الأَوْلِيَاءِ والصَّالِحِينَ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّـهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].

عباد الله: إن من أشكال المجاهرة المنتشرة اليوم التدخين أمام الناس؛ فالتدخين محرم ويعظم وزره وتشتد حرمته إذا كان أمام الآخرين وبحضرتهم وذلك من وجهين:

الوجه الأول: أن ذلك مجاهرة بالمعصية، وقد قال ﷺ: ﴿كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ﴾ متفق عليه. فالمجاهرون بالمعصيةِ لا يُعافون؛ وكون التدخين معصية، قد دلت عليه الدلائل الكثيرة.

الوجه الثاني: أن ذلك ظلمٌ للآخرين سواء أكانوا مدخنين أم لا، لما يدخل عليهم بسبب تدخينه من ضرر، فهو يلوث الهواء الذي يستنشقه الآخرون، وقد يسبب لهم أمراضاً، وقد قال ﷺ: ﴿لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ﴾ أحمد. فنقول للمدخن أمام الآخرين: ألم يكفك أن تبوء بإثم تدخينك حتى جمعت إلى ذلك إثم المجاهرة بالمعصية وأذية النّاس وفقدت حسناتك بسبب ظلمك وأذيتك للآخرين ؟

ومن صور المجاهرة بالمعصية رفع صوت الأغاني أو نشرها.

أو يصور نفسه وهو يستمع للشيلات ويتراقص عليها.

ومن صور المجاهرة نشر حسابات برامج التواصل بغرض العلاقات على السيارة أو كتابتها على الجدران.

وَمَنِ ابْتُلِيَ بِالمُحَرَّمَاتِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَزْعِ نَفْسِهِ مِنْهَا فَلْيُقْصِرْ إِثْمَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يُصَدِّرْه لِغَيْرِهِ، وَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّـهِ -تَعَالَى- حِينَ سَتَرَ عَنِ النَّاسِ ذَنْبَهُ، وَلَمْ يُظْهِرْ عَيْبَهُ، وَلْيُكْثِرْ مِنْ مُكَفِّرَاتِ الذُّنُوبِ مِنْ صَدَقَةٍ وَصَلَاةٍ وَاسْتِغْفَارٍ وَغَيْرِهَا، مَعَ الْإِلْحَاحِ عَلَى اللَّـهِ -تَعَالَى- بِالدُّعَاءِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ؛ فَإِنَّهُ إِنْ صَدَقَ مَعَ اللَّـهِ -تَعَالَى-، وَجَاهَدَ نَفْسَهُ رَزَقَهُ اللهُ -تَعَالَى- تَوْبَةً نَصُوحًا مِنْهَا، وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ﴿اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ الَّتِي نَهَى اللهُ عَنْهَا؛ فَمَنْ أَلَمَّ، فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّـهِ وَلْيَتُبْ إِلَى اللَّـهِ﴾ ﴿رَوَاهُ الْحَاكِمُ﴾.

اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا . اللهم إنا نسألك أن تتوبَ علينا، وأن ترحمنا، وأن تغفر لنا، وأن تسترنا بسترك الجميل في الدنيا والآخرة، وأن تصفح عنا الصفح الجزيل. اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العَرض عليك ، اللهم استرنا بسترك الجميل ، اللهم لا تبتلينا فنفتضح ، واقبل عذرنا وتولى أمرنا وأحسن خلاصنا .

اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم به منا .

اللهم لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا .

اللهم لا تؤاخذنا بسوء أعمالنا ولا بما فعله السفهاء منا .

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.

رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.

رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.

والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.