المُتَعامِلُونَ معَ اللهِ

عبدالمحسن بن محمد العامر
1445/03/20 - 2023/10/05 23:31PM
الحمدُ للهِ وَعَدَ المؤمنينَ بالتّثبيْتِ بالقولِ الثابتِ في الدنيا والآخرةِ، وأعدَّ لهم الجنَّةَ والمغفرَةَ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له؛ أرسلَ رُسُلَه بالتَّذكِرةِ، وهَدَى مَنْ شاءِ إلى الصراطِ ويَسّرَه، وأشهدُ أنَّ مُحمداً عَبدُه ورَسُولُه صاحبُ الشريعةِ المُيَسّرةِ، والصُّحُفِ المُطهَّرَةِ، صلى اللهُ وسلّمَ عليه وعلى آله وأصحابِه أولي البصائرِ النّيّرَةِ، وعلى التّابعينَ ومَنْ تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ بَعْثَرَةِ كلِّ مَقْبَرَةٍ..
أمّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ تعالى؛ فمَنِ اتقى ارتقى، وبأهلِ الجنّةِ التقى، وفازَ برؤيَةِ اللهِ يومَ اللقاءِ؛ "وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ"
معاشرَ المؤمنينَ: حينما يَستَحْضِرُ المُسلِمُ أنّه يَتَعَامَلُ معَ اللهِ في حركاتِه وسكناتِه، وفي أقْوَالِه وأفعالِه، وفي نواياهُ ومقاصِدِه؛ فإنَّ حياتَه سَتطيبُ، وسيَسْعَدُ بها ويهْنأُ، وسينْعَكِسُ ذلك على راحةِ بالِه، واستقرارِ نَفْسِه، وهدوءِ انفعالاتِه، ورضاهُ بِقَدَرِ اللهِ وقضائه.
المتعامِلُونَ مع اللهِ: لا يُراؤون في أعمالِهم وعبادَاتِهم؛ ولا ينتظِرُونَ مَدْحاً، ولا يَخْشونَ ذَمَّاً؛ بلْ يُخْلِصُونَ للهِ أعظمَ الإخلاصِ وأصْدَقَه؛ فالإخلاصُ كما قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ ــ رحمهُ اللهُ ــ: (هو حقيقةُ الإسلام( قالَ معاذُ بنُ جبلٍ رضيَ اللهُ عنه: " فأحْتَسِبُ نَوْمَتي كما أحْتَسِبُ قَوْمَتِي" رواه البخاريُّ. قالَ زُبيدٌ الياميُّ ــ رحمهُ اللهُ ــ : (إنِّي لأُحِبُّ أنْ تكونَ ليَ نِيَّةٌ في كلِّ شيءٍ حتّى في الطّعامِ والشرابِ) وقالَ ابنُ القيِّمِ رحمَهُ اللهُ (لا يَجتمِعُ الإخلاصُ في القلبِ ومحبَّةُ المدحِ والثّناءِ والطَّمَعِ فيما عندَ الناسِ؛ إلّا كَما يَجتمِعُ الماءُ والنَّارُ، والضَّبُ والحوتُ) وقالَ مَعْرُوفٌ الكَرْخِيُّ رحمهُ اللهُ: (يا نفسُ؛ أَخْلِصِي تَتَخلَّصِي(
والمتعامِلُونَ معَ اللهِ: لا ينتظِرُونَ جزاءً ولا شكُوراً، ولا هديّةً أو عطيَّةً، ولا منْفَعَةً أو مصْلَحةً دُنْيَويَّةً؛ قالَ مُجَاهِدٌ وسعيدُ بنُ جُبيرٍ ــ رحمهما اللهُ ــ عند قولِه تعالى:" إِنَّمَا نُطْعِمكُمْ لِوَجْهِ اللَّه لَا نُرِيد مِنْكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً" قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ مَا تَكَلَّمُوا بِهِ، وَلَكِنْ عَلِمَهُ اللَّه مِنْ قُلُوبهمْ؛ فَأَثْنَى بِهِ عَلَيْهِمْ لِيَرْغَبَ فِي ذَلِكَ رَاغِبٌ.
ومِنَ المسائلِ الدَّقيقةِ في هذه الجُزْئيّةِ مِنَ التعاملِ معَ اللهِ؛ عدمُ طلبِ الدُّعاءِ على أيِّ معروفٍ عملْتَه، أو خيرٍ أسديتَه، أو برٍّ قدّمتَه؛ قالَ شيخُ الإسلامِ ابنِ تيميةَ ــ رحمه اللهُ ــ : ومِنَ الجَزَاءِ؛ أنْ يَطْلُبَ الدُّعاءَ؛ قالَ تعالى عَمَّنْ أثنى عليهم:" إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا" والدُّعاءُ جزاءٌ كما في الحديثِ: " مِنْ أَسْدى إليكمْ معروفاً فَكافئِوهُ؛ فإنْ لمْ تَجدوا ما تكافئونَه بهِ فادعوا لهُ حتّى َتعلموا أنْ قدْ كافأتموه" وكانتْ عائشةُ إذا أَرْسلتْ إلى قومٍ بِصدقةٍ تقولُ للرسولِ: اسمعَ مَا يدعونَ بِهِ لَنَا حتّى ندعَو لهمْ بِمِثلِ ما دعو لَنَا، ويبقى أجرُنَا على اللهِ. انتهى كلامُه رحمَهُ اللهُ.
المتعامِلُونَ مَعَ اللهِ: لا يَقْطَعونَ أعمالَهم الصالِحَةَ، ولا إحْسانَهمْ للآخرينَ، ولا مَعْرُوفَهم، ولا صِلَتَهم لأرحامِهم، وإنْ واجهوا الجُحُودَ، والإساءةَ، وإنْ قُوبِلوا بالنُّكْرانِ؛ فقدْ قالَ رجلٌ لرسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: "يا رَسُولَ اللهِ؛ إنَّ لي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إليهِم وَيُسِيؤُونَ إلَيَّ، وَأَحْلُمُ عنْهمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقالَ: لَئِنْ كُنْتَ كما قُلْتَ، فَكَأنَّما تُسِفُّهُمُ المَلَّ وَلَا يَزَالُ معكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عليهم ما دُمْتَ علَى ذلكَ "رواه مسلمٌ.
والمتعامِلُونَ معَ اللهِ: يُسَابِقُونَ إلى الخيراتِ، وينافِسُونَ في الطّاعاتِ، ويَجْتَهدُونَ في العباداتِ، ولا يَنْتَظِرُونَ أحداً، ولا يَرْقبُونَ بَشَراً، ولا يَتطلّعُونَ لِمُبَادَرةٍ مِنْ مبادِرٍ؛ فاستجابتُهم للهِ سريعَةٌ، وتلبيتُهم لدعوةِ اللهِ لهم حاضرةٌ فوريّةٌ؛ بلا توانٍ أوْ كَسَلٍ أو فتورٍ؛ مُستَحْضِرينَ قولَه تعالى: "سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ" وقَولَه تعالى: " وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ"
المُتعامِلُونَ معَ اللهِ: لا يُعْجَبُونَ بعَمَلِهم، ولا يَفْخَرُونَ به، والعُجْبُ يَختلِفُ عن الرياءِ؛ قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ ــ رحمَه اللهُ ــ: (وكثيراً ما يُقْرَنُ الرّياءُ بالعُجْبِ؛ فالرّياءُ: مِنْ بابِ الإشراكِ بالخَلْقِ، والعُجْبُ مِنْ بابِ الإشراكِ بالنَّفْسِ) وقالَ الحَسَنِيُّ: وأمّا العُجْبُ: فهو رُؤيةُ النَّفْسِ وإسنادُ العملِ إليها، ورؤيةُ المَزِيَّةِ لها على الناس؛ قالَ تعالى: "فلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى"
والمتعامِلُونَ معَ اللهِ: يسألُونَ اللهَ دائماً الثّباتَ على الحقِّ، فالرسولُ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يَمْنَعه مقامُ النّبوّةِ والرسالةِ مِنْ سؤالِ اللهِ تَثبيتَ قلبِهِ على دينِ اللهِ؛ عنْ أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللهُ عنه قالَ: " كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُكثرُ أن يقولَ يا مقلِّبَ القلوبِ ثَبِّتْ قلبِي على دينِك" رواه الإمامُ أحمدُ والتّرمذي.
والمتعامِلونَ مع اللهِ: لا يتعصّبونَ، ولا يَتَحَزّبونَ، فهم معَ جماعةِ المسلمينَ يداً واحدةً؛ ملتزمونَ ما كانَ عليه النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلّمَ وأصحابُه وسلفُ الأمِّةِ، عنْ عوفِ بنِ مالكٍ الأشجعيِّ رضيَ اللهُ عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلّمَ: "افترقتِ اليَهودُ علَى إحدَى وسبعينَ فرقةً فواحدةٌ في الجنَّةِ وسبعونَ في النَّارِ وافترقتِ النَّصارى علَى ثِنتينِ وسبعينَ فرقةً فإحدَى وسبعونَ في النَّارِ وواحدةٌ في الجنَّةِ والَّذي نفسُ محمَّدٍ بيدِهِ لتفترِقَنَّ أمَّتي علَى ثلاثٍ وسبعينَ فرقةً واحدةٌ في الجنَّةِ وثِنتانِ وسبعونَ في النَّار قيلَ يا رسولَ اللَّهِ مَن هم قالَ الجماعَةُ"
رواه ابنُ ماجه، وصحّحَه الألبانيُّ.
باركَ اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسنةِ ونفعنا بما فيهما مِنَ العبَرِ والحكمةِ ..
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم إنَّه كانَ غفّارا.
الخطبةُ الثّانيةُ:
الحمدُ للهِ حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يُحِبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شركَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلى الله وسلّم عليه وعلى آله وصحبِه وعلى مِنِ اتّبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ ..
أما بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ " لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ"
معاشرَ المؤمنينَ: المتعاملونَ معَ اللهِ يَعْظُمُ إيمانُهم، ويقوى يَقِينُهُم، ويَتَحقّقُ توكُّلُهم، ويَسْبَغُ عليهم حياؤهُم، فتَتَحقّقُ فيهم مرتبةُ الإحسانِ؛ التي قالَ عنها النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: " أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ" رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ. ومعنى مَرْتَبَةِ الإحسانِ: أنْ تَعبُدَ اللهَ عِبادةَ مَن يَرى اللهَ تعالى، ويَراهُ اللهُ تعالى؛ فإنَّك لا تَستَبْقِي شَيئًا مِن الخُضوعِ والخشوعِ والإخلاصِ، وحِفظِ القلبِ والجوارحِ، ومُراعاةِ الآدابِ الظَّاهرةِ والباطنةِ ما دُمْتَ في عِبادتِه؛ ونهايةُ مَقامِ الإحسانِ: أنْ يَعبُدَ المؤمِنُ ربَّه كأنَّه يَراه بقلْبِه، فيكونَ مُستحضِرًا ببَصيرتِه وفِكرتِه لهذا المَقامِ.
والمتعاملونَ معَ اللهِ: يَخْشَونَه في الغيبِ والشّهادَةِ؛ في الخَلَواتِ وبينَ النّاسِ والمُجتَمعاتِ، ويخافونَ أنْ يقعوا فيمَنْ إذا خلوا بمحارمِ اللهِ انتهكوها؛ الذين جاءَ في حَقّهم الوعيدُ الشديدُ كما في حديثِ ثوبانَ رضيَ اللهُ عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلّم: " لأعلمنَّ أقوامًا من أمتي يأتون يومَ القيامةِ بحسناتٍ أمثالِ جبالِ تهامَةَ بِيْضًا فيجعلُها اللهُ عزَّ وجلَّ هباءً منثورًا قال ثوبانُ يا رسولَ اللهِ صِفْهم لنا؛ جَلِّهم لنا؛ أنْ لا نكونَ منهم ونحنُ لا نعلمُ، قال: أَمَا إنَّهم إخوانُكم، ومن جِلدتِكم، ويأخذون مِنَ الليلِ كما تأخذون، ولكنَّهم أقوامٌ إذا خَلْوا بمحارمِ اللهِ انتهكُوها" رواه ابنُ ماجه، وصحّحه الألبانيُّ.
اللهم اجعلنا مِنْ خيرةِ عبادِك، وصفوةِ أوليائكِ، وأحبِّ أحبابك.
اللَّهُمَ حَبَّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ .
هذا وصلوا وسلموا ...
المشاهدات 1375 | التعليقات 0