الماء نعمه فلا تسرف فيه

محمد بن خالد الخضير
1442/08/19 - 2021/04/01 22:07PM

الخطبة الأولى

ان الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" أَمَّا بَعْدُ:

عباد الله إنَّ نِعَمَ اللهِ على الإنسانِ لا يَحدُّها حَدٌ، ولا يُحصيها عَدٌّ، ولا يُستثنَى مِنْ عُمومِها أَحَدٌ، فَهِيَ نِعَمٌ عامَّةٌ، سابغةٌ تامّةٌ، يقولُ اللهُ -سبحانه وتعالى-: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النَّحْلِ: 18]، ويقولُ جلَّ شأنُه: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لُقْمَانَ: 20]، ومِنْ أجلِّ نِعَمِ اللهِ على الإنسانِ وأعظمِها وكُلُّها جليلةٌ وعظيمة نِعْمَةُ الماءِ، وكيفَ لا والماءُ مَصدَرُ الحياة؟

الماء من أعظم ما امتن الله به على عباده: (أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ)[الواقعة:68-70]، وقال تعالى: (فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً *وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ) [عبس:24-32].

وإنزال الماء من حُجَجِ ألوهية الله واستحقاقه للعبادة وحده؛ قال -سبحانه-: (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 22]، وهو من الأدلة على البعث والنشور، قال -سبحانه-: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[فُصِّلَتْ: 39]، به يرحم اللهُ أو يعذِّب (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)[الْجِنِّ: 16]، وهو من نِعَم الله الغزيرة التي امتنَّ اللهُ به على مَنْ قبلَنا، فمن شكر منهم زاده ومَنْ كفَر عذَّبه (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ)[الْأَنْعَامِ: 6]، ولكونه نعمة عظيمة أرسل الله بين يديه ما يبشر به، قال -سبحانه-: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ)[الْأَعْرَافِ: 57]، والأرض تفرح بمقدَمِه فتهتزّ وتربو وتُخرج زينتها مما يحار الطرفُ في حسنها، قال -سبحانه-: (فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)[الْحَجِّ: 5]، وبه تحيا الأرض بعد موتها، قال جل وعلا: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)[الرُّومِ: 24]، والخَلْق يبشِّر بعضُهم بعضًا بمقدمه (فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)[الرُّومِ: 48]، وهو من أسباب رضوان الله على العبد إن شكره عليها، قال عليه الصلاة والسلام : "إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ، فيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ، فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا" (رواه مسلم).

خلقه الله بلا لون وأوجده بلا طعم، وأنزله بلا رائحة، ماء واحد يَنْزل على أرض واحدة فتظهر جنات من أعناب وزرع صنوان وغير صنوان يفضل بعضها على بعض في الأكل

جعله الله مُكَفِّرًا للذنوب والخطايا في الوضوء لقوله -علية الصلاة والسلام-: "إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوِ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ"(رواه مسلم)، وزيادتُه عن مقداره عذاب، آية عجيبة، مسالكه في الأرض لا يعلمها إلا الله، قال -سبحانه- (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ)[الزُّمَرِ: 21].

عباد الله، إن الماء في مكان الصدارة من النعم التي يسال عنها العبد يوم القيامة وهو من النعيم المقصود في قول الله تعالى "ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: ( إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي الْعَبْدَ مِنْ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ : أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ وَنُرْوِيَكَ مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ ) .أخرجه الترمذي وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " .

إن حاجة الناس إلى الماء عظيمة؛ لذلك فهم يتنافسون عليه، ويتحملون العناء والمشقة في سبيل الوصول إليه، فهذا سيدنا موسى عليه السلام؛ حين خرج من مصر وتوجه إلى ماء مدين؛ وجد عليه جماعة كثيرة العدد من أناس مختلفين، كل منهم يريد أن يأخذ الماء أولا، قال الله سبحانه: (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير). فسقى موسى عليه السلام للمرأتين، فشهدت له إحداهما بالقوة والأمانة. وقد جعل ديننا الحنيف سقي الماء من أفضل الصدقات، فعن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: «سقي الماء». وشكر الله عز وجل لرجل سقى كلبا شربة ماء، فغفر له وأدخله الجنة.

أقول هذا القولَ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانِه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.

أما بعد: عبادَ الله: إنَّ شُكْرَ اللهِ -تباركَ وتعالَى- على نِعْمَةِ الماءِ لا يقتصرُ على الشُّكْرِ باللسانِ، بلْ يَتعدَّاهُ إلى الشُّكْرِ بِحُسْنِ التَّصرُّفِ فيهِ وحُسْنِ استِغْلَالِه، والاقتصادِ والتَّرشِيدِ في استِعمالِه، فأَيُّ إِسْرافٍ في استِعْمَالِ الماءِ هوَ تصرُّفٌ سيّءٌ وسلوكٌ غيرُ حَميدٍ، جاءَ النهيُ عنهُ صَرِيحًا في القُرآنِ المجيدِ، يقولُ اللهُ -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الْأَعْرَافِ: 31]، وإذا كانَ الإسرافُ في استعمالِ الماءِ لِلشُّربِ مَنْهيًّا عنهُ وممنوعًا مِنْهُ فإِنَّ استعمالَه بإِسْرافٍ في مجالاتٍ أُخْرَى أَكْثَرُ مَنْعًا وأشدُّ خَطَرًا، وتأملوا في سنة نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد " كان يغتسل بالصاع، ويتوضأ بالمد"(رواه أحمد ومسلم وغيرهما). وفي رواية الصحيحين : "كان يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد"، ، وإذا كانَ الاقتصادُ في استعمالِ الماءِ في العبادةِ مَطْلُوبًا وعَمَلًا مَرغُوبًا فَالاقتصادُ في غيرِ العبادةِ أَولَى وأَحرى، وإنْ كانَ الَّذي يُغرَفُ مِنْهُ نَهْرًا أَوْ بَحْرًا.

هذا وصلّوا وسلّموا على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله النبيّ الأمّيّ.

اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين

اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفِّقه ووليَّ العهد لما فيه صلاح البلاد والعباد.

اللهم احفظ على بلادنا دينها ومقدساتها وأمنها وولاة أمرها؛ اللهم إنا أستودعناك جنودنا ورجال أمننا فأحرسهم بعينك التي لاتنام وأعنهم وأنصرهم

اللهم بلِّغنا شهرَ رمضان ونحن في صحة وعافية والأمة الإسلامية في عز ونصر وتمكين

اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم به منا أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين

المرفقات

1617314859_الماء نعمة فلا تسرف فيها 20-8-1442.pdf

المشاهدات 1216 | التعليقات 0