الماء في حياة الأنبياء والأولياء
الشيخ السيد مراد سلامة
الماء في حياة الأنبياء والأولياء
للشيخ السيد مراد سلامة ا
لخطبة الأولى
أما بعد إخوة الإيمان: حديثنا في هذا اليوم الطيب الميمون عن نعمة غالية بها تزهو بها الحياة و بها قوام الأحياء كما أخبرنا بذلك رب الأرض و السماء فقال {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30] إنها نعمة الماء قال الله جل جلاله {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ } [الواقعة: 68 - 70]
الماء في حياة نبي الله موسى عليه السلام: نبي الله موسى عليه السلام له صلة كبيرة بذلك الجندي الذي أذل فرعون وجنده منذ ولادته وحتى انتصاره على من قال أنا ربكم الأعلى وإليكم البيان من كتاب الرحمن
المشهد الأول مشهد النجاة من الذبح: لقد قرر فرعون اللعين أن يقوم بجريمة بشعة تخبر عن مدى كرهه للحق وأهله وتخبر عن مدى غلظته وظلمه قرر أن يقتل الأبناء الصغار حديثي الولادة ويستحيي النساء قال رب الأرض والسماء {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 38 - 41] يقول الشيخ الشعراوي-رحمه الله -وبالله. ... أي أم هذه التي تُصدِّق هذه الكلام: إنْ خِفْتِ على ولدك فألقيه في اليم؟ وكيف يمكن لها أن تنقذه من هلاك مظنون وترمي به في هلاك مُتيقّن؟ ومع ذلك لم تتردد أم موسى لحظة في تنفيذ أمر الله، ولم تتراجع، وهذا هو الفرق بين وارد الرحمن ووارد الشيطان، وارد الرحمن لا تجد النفس له ردّاً، بل تتلقاه على أنه قضية مُسلَّمة، فوارد الشيطان لا يجرؤ أن يزاحم وارد الرحمن، فأخذتْ الأم الوليد وأَلْقَتْه كما أوحى إليها ربها . وتلحظ في هذه الآيات أن آية القصص لم تذكر شيئاً عن مسألة التابوت: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم} [ القصص : 7 ] هكذا مباشرة . قالوا: لأن الحق سبحانه تكلم عن الغاية التي تخيف، وهي الرَّمي في اليم، وطبيعي في حنان الأم أنْ تحتال لولدها وتعمل على نجاته، فتصنع له مثل هذا التابوت، وتُعِدّه إعداداً مناسباً للطَفْو على صفحة الماء. فالكلام هنا لإعداد الأم وتهيئتها لحين الحادثة، وفَرْق بين الخطاب للإعداد قبل الحادثة والخطاب حين الحادثة، فسوف يكون للأمومة ترتيب ووسائل تساعد على النجاة، صنعتْ له صندوقاً جعلت فيه مَهْداً ليّناً واحتاطتْ للأمر، ثم يطمئنها الحق سبحانه على ولدها : { وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني } [ القصص : 7 ] فسوف نُنجيه؛ لأن له مهمة عندي { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } [ القصص : 7 ] . فإذا ما جاء وقت التنفيذ جاء الأمر في عبارات سريعة متلاحقة: {أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} [طه: 39] . لذلك، تجد السياق في الآية الأولى هادئاً رتيباً يناسب مرحلة الإعداد، أما في التنفيذ فقد جاء السياق سريعاً متلاحقاً يناسب سرعة التنفيذ، فكأن الحق سبحانه أوحى إليها: أسرعي إلى الأمر الذي سبق أنْ أوحيتُه إليك، هذا الكلام في الحبْكة الأخيرة لهذه المسألة. وقوله تعالى: { فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل } [ طه : 39 ] أي : تحمله الأمواج وتسير به ، وكأن لديها أوامر أن تُدخِله في المجرى الموصِّل لقصر فرعون . فعندنا إذن لموسى ثلاثة إلقاءات: إلقاء الرحمة والحنان في التابوت، وإلقاء التابوت في اليم تنفيذاً لأمر الله، وإلقاء اليَمِّ للتابوت عند قصر فرعون. وقوله تعالى: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } [ طه : 39 ] ( عَدُو لِي ) أي : لله تعالى؛ لأن فرعون ادعى الألوهية ، ( وَعَدُوٌّ لَهُ ) أي : لموسى؛ لأنه سيقف في وجهه ويُوقفه عند حَدِّه . وفي الآية إشارة إلى إنفاذ إرادته سبحانه، فإذا أراد شيئاً قضاه، ولو حتى على يد أعدائه وهم غافلون، فمَنْ يتصور أو يصدق أن فرعون في جبروته وعُتوه وتقتيله للذكور من أولاد بني إسرائيل هو الذي يضم إليه موسى ويرعاه في بيته، بل ويُحبه ويجد له قبولاً في نفسه .([1]) المشهد الثاني مشهد النجاة من حر العطش
إخوة الإسلام: لا فرق بين حر ووهج السيف و حر العطش فكلاهما سلاح قاتل، بل حر العطش أقوى و أمضى و أشد تعذيبا من الصارم البتار ،و مما أيد الله تعالى به موسى و جنده تفجير الماء بضرب الحجر بالعصى قال الله تعالى {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [البقرة: 60] ومعنى الآية الكريمة: واذكروا يا بني إسرائيل وقت أن أصاب آباءكم العطش الشديد وهم في صحراء مجدبة، فتوسل إلينا نبيهم موسى -عليه السلام -في خشوع وتضرع أن أمدهم بالماء الذي يكفيهم، فأجبناه إلى ما طلب، إذ أوحينا إليه أن اضرب بعصاك الحجر . ففعل، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً بمقدار عدد الأسباط، وصار لكل سيط منهم مشرب يعرفه ولا يتعداه إلى غيره، وقلنا لهم: تمتعوا بما من الله به عليكم من مأكول طيب ومشروب هنيء رزقكم الله إياه من غير تعب ولا مشقة، { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } فتتحول النعم التي بين أيديكم إلى نقم وتصبحوا على ما فعلتم نادمين .([2])
المشهد الثالث مشهد النجاة من فرعون وجنده
و هنا في ذلك المشهد يبين الله تعالى عتو و علو فرعون الذي خرج بحده و حديده و قضه و قضيضه يحاد الله و موسى عليه السلام في جيش جرار أراد به أن يستأصل موسى و قومه و لنترك المشهد القرآني يحدثنا عن تلك الأحداث العظام{فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)} [الشعراء: 53 - 68] إن في إنجاء الله لأوليائه فلم يغرق منهم أحد، وإغراقه لأعدائه فلم يخلص منهم أحد - آيةً عظيمة وبرهان قاطع على قدرته تعالى العظيمة، وصدق رسوله u فيما جاء به عن ربه من الشريعة الكريمة والمناهج المستقيمة.
الماء في حياة نبي الله عيسى عليه السلام
ومما أيد الله تعالى به عيسى عليه السلام – أيده بأن سخر له الماء يمشي عليه عن بكر بن عبد الله المزني قال فقد الحواريون نبيهم فانطلقوا يطلبونه فإذا هو قد انطلق نحو البحر وإذا هو يمشي على الماء فقال له رجل منهم يا نبي الله أجئ إليك قال نعم فذهب يرفع رجلا ويضع أخرى فإذا هو في الماء فقال له عيسى ناولني يدك يا قصير اليقين فلو أن لابن آدم من اليقين قدر ذرة لمشى على الماء عن بكر بن عبد الله المزني قال فقد الحواريون نبيهم عيسى فقيل لهم توجه نحو البحر فانطلقوا يطلبونه فلما انتهوا إلى البحر إذا هو قد اقبل يمشي على الماء يرفعه الموج مرة ويضعه أخرى وعليه كساء مرتدي بنصفه ومتزر بنصفه حتى انتهى إليهم فقال له بعضهم قال أبو هلال ظننت انه من أفاضلهم ألا أجئ إليك يا نبي الله قال بلى قال فوضع إحدى رجليه في الماء ثم ذهب ليضع الأخرى فقال أوه غرقت يا نبي الله قال ارني يدك يا قصير الإيمان لو أن لابن ادم من اليقين قدر شعيرة مشى على الماء([3])
الماء في حياة سيد الأصفياء – صلى الله عليه وسلم
إخوة الإسلام: أما إن سألتم عن الماء في حياة سيد الأصفياء فهذا موضوع يحتاج منا إلى خطب وإلى أبحاث فقد أيد الله تعالى نبيه –صلى الله عليه وسلم-بمعجزات قاهرات وبصوارم قاتلات ولنأخذ بعض تلك المشاهد الدالة على نبوة نبينا – صلى الله عليه وسلم وكل معجزة للرسل قد سلفت *** وافى بأعجب منها عند إظهار فما العصا حية تسعى بأعجب من *** شكوى البعير ولا من مشي أشجار ولا انفجار معين الماء من حجر *** أشد من سلسل من كفه جار يحدثنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما –عن ما حدث يوم الحديبية، فقال: " عطش الناس يوم الحديبية والنبي -صلى الله عليه وسلم -بين يديه ركوة-إناء من جلد-، فتوضأ، فجهش-يعني: أسرع-الناس نحوه، فقال: ( ما لكم؟ ) قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك، فوضع يده في الركوة، فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا، وتوضأنا " ولما سئل جابر رضي الله عنه عن عددهم في ذلك اليوم قال " لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة " متفق عليه، واللفظ للبخاري ويروي الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ما حدث لهم في أحد الأسفار مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد كاد الماء أن ينفد ويهلكوا في الصحراء ، يحدثنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن ذلك فيقول: " كنا نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفاً، كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ، فقلّ الماء، فقال: اطلبوا فضلة من ماء، فجاؤوا بإناءٍ فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء، ثم قال: ( حيّ على الطهور المبارك، والبركة من الله ) ، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل " رواه البخاري . وقد ذكر الإمام السيوطي معاني نبع الماء من بين أصابعه فقال في شرحه لصحيح مسلم : " قيل معناه أن الماء كان يخرج من نفس أصابعه وينبع من ذواتها ، وقيل معناه : إن الله كثَّر الماء في ذاته ، فصار يفور بين أصابعه لا من ذاته ، والأول قول الأكثرين " .
الماء في حياء الصحابة والتابعين
أولا: العلاء بن الحضرمي –رضي الله عنه-والمشي على الماء
عن أبي هريرة قال لما بعث النبي صلى الله عليه و سلم العلاء بن الحضرمي إلى البحرين تبعته فرأيت منه ثلاث خصال لا أدري أيتهن أعجب انتهينا إلى شاطئ البحر فقال سموا واقتحموا قال فسمينا واقتحمنا فعبرنا فما بل الماء إلا أسافل خفاف إبلنا فلما قفلنا صرنا معه بفلاة من الأرض وليس معنا ماء فشكونا إليه فصلى ركعتين ثم دعا فاذا سحابة مثل الترس ثم أرخت غزاليها فسقينا واستقينا ومات فدفناه في الرمل فلما سرنا غير بعيد قلنا يجيىء سبع فيأكله فرجعنا فلم نره .([4]) وقد مشى كثير من الأولياء على متن الماء، وفي قصة العلاء بن زياد، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك، روى منجاب قال: غزونا مع العلاء بن الحضرمي دارين ، فدعا بثلاث دعوات فاستجيبت له، فنزلنا منزلا فطلب الماء فلم يجده، فقام وصلى ركعتين وقال، اللهم إنا عبيدك وفي سبيلك، نقاتل عدوك، اللهم اسقنا غيثا نتوضأ به ونشرب، ولا يكون لاحد فيه نصيب غيرنا، فسرنا قليلا فإذا نحن بماء حين أقلعت السماء عنه، فتوضأنا منه وتزودنا، وملأت إداوتي وتركتها مكانها حتى أنظر هل استجيب له أم لا، فسرنا قليلا ثم قلت لاصاحبي: نسيت إداوتي، فرجعت إلى ذلك المكان فكأنه لم يصبه ماء قط، ثم سرنا حتى أتينا دارين والبحر بيننا وبينهم، فقال، يا علي يا حكيم، إنا عبيدك وفي سبيلك، نقاتل عدوك، اللهم فاجعل لنا إليهم سبيلا، فدخلنا البحر فلم يبلغ الماء لبودنا، ومشينا على متن الماء ولم يبتل لنا شيء وقال ابن كثير في البداية والنهاية 6 /290 : حصل المشي على الماء مع الصحابي الجليل العلاء بن الحضرمي، رضي الله عنه، في مسيره إلى أهل الردة ونشر الإسلام، فساروا على الماء وهم يتحدثون دون أن يفقدوا شيئًا، وكذلك مع العلاء، رضي الله عنه، أيضًا حينما كان في الصحراء ليلًا ونفرت إبلهم وخيولهم، وباتوا بشر ليلة، وفي الصباح وبعد الصلاة دعا العلاء، رضي الله عنه، ربه، فجاءت سحابة وأمطرت حولهم لا تتعداهم، فجاءت إليهم إبلهم وخيولهم، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما. أما بعد:
ثانيا: سعد بن أبي وقاص –رضي الله عنه -السير على نهر دجلة:
لما فتح سعد نهر شير واستقر بها، وذلك في صفة لم يجد فيها أحدا ولا شيئا مما يغنم، بل قد تحولوا بكمالهم إلى المدائن وركبوا السفن وضموا السفن إليهم، ولم يجد سعد رضي الله عنه شيئا من السفن وتعذر عليه تحصيل شيء منها بالكلية، وقد زادت دجلة زيادة عظيمة واسود ماؤها، ورمت بالزبد من كثرة الماء بها، وأخبر سعد بأن كسرى يزدجرد عازم على أخذ الأموال والأمتعة من المدائن إلى حلوان، وأنك إن لم تدركه قبل ثلاث فات عليك وتفارط الأمر. فخطب سعد المسلمين على شاطئ دجلة، فحمد الله وأثنى عليه وقال إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليهم معه، وهم يخلصون إليكم إذا شاءوا فينا وشونكم في سفنهم، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه، وقد رأيت أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا، ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم. فقالوا جميعا: عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل. فعند ذلك ندب سعد الناس إلى العبور ويقول: من يبدأ فيحمي لنا الفراض-يعني ثغرة المخاضة من الناحية الأخرى- ليجوز الناس إليهم آمنين، فانتدب عاصم بن عمرو وذو البأس من الناس قريب من ستمائة، فأمر سعد عليهم عاصم ابن عمرو فوقفوا على حافة دجلة فقال عاصم: من ينتدب معي لنكون قبل الناس دخولا في هذا البحر فنحمي الفراض من الجانب الآخر؟ فانتدب له ستون من الشجعان المذكورين- والأعاجم وقوف صفوفا من الجانب الآخر- فتقدم رجل من المسلمين وقد أحجم الناس عن الخوض في دجلة، فقال: أتخافون من هذه النطفة؟ ثم تلا قوله تعالى وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا 3: 145 ثم أقحم فرسه فيها واقتحم الناس، وقد افترق الستون فرقتين أصحاب الخيل الذكور، وأصحاب الخيل الإناث. فلما رآهم الفرس يطفون على وجه الماء قالوا: دبوانا دبوانا. يقولون مجانين مجانين. ثم قالوا: والله ما تقاتلون إنسا بل تقاتلون جنا. ثم أرسلوا فرسانا منهم في الماء يلتقون أول المسلمين ليمنعوهم من الخروج من الماء، فأمر عاصم بن عمرو أصحابه أن يشرعوا لهم الرماح ويتوخوا الأعين، ففعلوا ذلك بالفرس فقلعوا عيون خيولهم، فرجعوا أمام المسلمين لا يملكون كف خيولهم حتى خرجوا من الماء، واتبعهم عاصم وأصحابه فساقوا وراءهم حتى طردوهم عن الجانب الآخر، ووقفوا على حافة الدجلة من الجانب الآخر ونزل بقية أصحاب عاصم من الستمائة في دجلة فخاضوها حتى وصلوا إلى أصحابهم من الجانب الآخر فقاتلوا مع أصحابهم حتى نفوا الفرس عن ذلك الجانب وكانوا يسمون الكتيبة الأولى كتيبة الأهوال، وأميرها عاصم بن عمرو، والكتيبة الثانية الكتيبة الخرساء وأميرها القعقاع بن عمرو. وهذا كله وسعد والمسلمون ينظرون إلى ما يصنع هؤلاء الفرسان بالفرس، وسعد واقف على شاطئ دجلة. ثم نزل سعد ببقية الجيش، وذلك حين نظروا إلى الجانب الآخر قد تحصن بمن حصل فيه من الفرسان المسلمين، وقد أمر سعد المسلمين عند دخول الماء أن يقولوا: نستعين بالله ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم اقتحم بفرسه دجلة واقتحم الناس لم يتخلف عنه أحد، فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض حتى ملئوا ما بين الجانبين، فلا يرى وجه الماء من الفرسان والرجالة، وجعل الناس يتحدثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه الأرض، وذلك لما حصل لهم من الطمأنينة والأمن، والوثوق بأمر الله ووعده ونصره وتأييده، ولأن أميرهم سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ([5])
ثالثا: أبو مسلم الخولاني-رحمه الله تعالى -السير على نهر دجلة:
كان أبو مسلم الخولاني إذا غزا أرض الروم فمروا بنهر قال: أجيزوا بسم الله، ويمر بين أيديهم فيمرون بالنهر الغمر، فربما لم يبلغ من الدواب إلا الركب أو بعض ذلك قريباً من ذلك، فإذا جازوا قال للناس: هل لكم شيء؟ من ذهب له شيء فأنا له ضامن. قال: فألقى بعضهم مخلاة عمداً، فلما جاوزوا قال الرجل: مخلاتي وقعت في النهر قال له: اتبعني فإذا المخلاة قد تعلقت ببعض أعواد النهر، فقال: خذها. ([6]) عن حميد بن هلال العدوي: حدثني ابن عمي أخي أبي قال: خرجت مع أبي مسلم في جيش فأتينا على نهر عجاج منكر، فقلنا لاهل القرية: أين المخاضة ؟ فقالوا: ما كانت ههنا مخاضة ولكن المخاضة أسفل منكم على ليلتين، فقال أبو مسلم: اللهم أجزت بني إسرائيل البحر، وإنا عبيدك وفي سبيلك، فأجزنا هذا النهر اليوم، ثم قال: اعبروا بسم الله، قال ابن عمي: وأنا على فرس فقلت: لأدفعنه أول الناس خلف فرسه، قال: فو الله ما بلغ الماء بطون الخيل حتى عبر الناس كلهم، ثم وقف وقال: يا معشر المسلمين، هل ذهب لاحد منكم شيء فأدعو الله تعالى يرده ؟. ([7]) الدعاء .....................................................
[1] - تفسير الشعراوي (ص: 5674)
[2] - الوسيط لسيد طنطاوي (ص: 100،)
[3] - تاريخ دمشق - (ج 47 / ص 408)
[4] -رواه الطبراني
[5] - البداية والنهاية ط الفكر (7/ 65)
[6] - مختصر تاريخ دمشق (4/ 138)
[7] - ا البداية والنهاية ط الفكر (6/ 261