أما بعد: يقول الله تعالى: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ))، يقول الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَذَا خُلُقُ مُحَمَّدٍ r بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ.
لقد منَّ الله تعالى على بعض الشباب من هذا الحي بالتوبة النصوح، والعودة إلى الله تعالى، وترك ما كانوا مقيمين عليه من الذنوب والمعاصي، فسمعوا من أحد مصلي مسجدنا أنه يعيب عليهم أنهم كانوا يشربون الخمور ولا يصلون وكانوا يفعلون ويفعلون فأحدث هذا الكلام في نفوسهم ردت فعل فتركوا المسجد بعد رمضان، كيف يتجرأ أحد ويمنع عبداً من توبة، ألا يخشى من حديث جُنْدُبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قال: ((أَنَّ رَجُلاً قَالَ: وَاللَّهِ لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلاَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى[يحلف]عَلَىَّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ ؟ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلاَنٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ)) رواه مسلم، فيا أخي المسلم كن عوناً للتائبين العائدين إلى ربهم، وافرح بذلك، ولا تثبط هممهم وتخذلهم وتجعلهم ينكصون على أعقابهم فتكون للشيطان ولياً، وتكون عوناً للشيطان على أخيه، وعليك وزر المعاصي التي يرتكبها فيما بعد، فالتائب هو حبيب الرحمن جلّ في علاه، ألم يقلِ الله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين))، من يحول بين التائب والتوبة ؟ لا أحد، فباب التوبة مفتوح ما لم تغرغر الروح أو تطلع الشمس من مغربها، بل ربنا تبارك وتعالى يفرح بتوبة العبد.
وظاهر هذا الحديث أن الله تعالى غفر لها بهذا الفعل الذي ينم عن الشفقة والرحمة التي هي سبب من أسباب رحمة الله تعالى لمن تخلق بها؛ فقد روى الترمذي في الحديث الصحيح أن النبي r قال: ((الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)).
وهناك صنف آخر ملتزم ولكنه من أهل النار اسمع لحاله عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فُلانَةُ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا، قَال: هِيَ فِي النَّارِ)) رواه البخاري في الادب المفرد.
وأختم بهذه القصة فيها امرأة متحجبة تدخل باب المسجد، فسكت عليه الصلاة والسلام، وسكت أصحابه، وأقبلت تمشي رُويداً حتى وصلت إليه عليه الصلاة والسلام، ثم وقفت أمامه، وقالت : ((إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي)) أخبرته أنها زنت، وأنها تريد أن يُطهرها، فقال: ((وَيْحَكِ ارْجِعِي فَاسْتَغْفِرِي اللهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ)) لا يريد أنه يسمع كلامها، لا يريد أن يثبت عليها حد الزنا بكلمة صدرت عنها، قد تكون غاضبة حينما قالتها، وقد تكون هناك شبهة، فجاءت المرأة من الغد إلى النبي r فقالت: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ تَرُدُّنِي؟؟ لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى من الزنا، فقال النبي r: فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي)) لعلها تعيد النظر في أمرها، ولكن مرارة الذنب حرقت فؤاد تلك المرأة فلم تتغير عن موقفها أبداً؛ ((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)).
حملت طفلها تسعة أشهر، وهي تعلم أنها ستفارقه، ثم وضعته، وفي أول يوم أتت به: ((فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي خِرْقَةٍ، قَالَتْ: هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ، قَالَ: اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ))؛ ثم أتت بالطفل بعد أن فطمته، وفي يده كسرة خبز، وذهبت إلى الرسول فقالت:((فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَقَالَتْ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللهِ قَدْ فَطَمْتُهُ، وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَافَأَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا فَنَضَحَ الدَّمُ عَلَى وَجْنَةِ خَالِدٍ، فَسَبَّهَا، فَسَمِعَ نَّبِيُّ الله سَبَّهُ إِيَّاهَا فَقَالَ: مَهْلًا يَا خَالِدُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا، وَدُفِنَتْ)).
وفي رواية: أن النبي r أمر بها فَرُجمت، ثم صلّى عليها، فقال له عمر: ((تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ وَقَدْ زَنَتْ؟, فَقَالَ: لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ , وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا للهِ تَعَالَى))!! روى القصة مسلم وغيره بألفاظ متقاربة.
إخوة الإسلام، وهذه هي توبة العصاة في ذلك الجيل : ((لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ, وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا للهِ تَعَالَى)) إنه مثل عظيم في التوبة يستحي منه الغافلون، مثل عظيم في التوبة يستيقظ منه النائمون.
ألقيت هذه الخطبة بتأريخ 21-7-2017
المشاهدات 574
| التعليقات 0
تسجيل دخول
إذا لم يكن لديك حساب بالفعل قم بالضغط على إنشاء حساب جديد