اللوامع في خلق التواضع
خالد علي أبا الخيل
1437/10/13 - 2016/07/18 04:06AM
اللوامع في خلق التواضع
الحلقة الأولى
التاريخ: الجمعة: 10/ شوال /1437 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أمر بالتواضع، وخفض الجناح لكل مؤمن راكع، وأشهد أن لا إله إلا الله، جعل التواضع من الخصال الجوامع، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سيد كل مؤمن متواضع، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الأخلاق واللوامع.
أما بعد،.
فأوصيكم ونفسي بتقوى الملك القدوس، فتقواه خير سبيل إلى عزة النفوس، وأجمل كساء ولبوس.
أيها المسلمون: الأمة بقيامها وأخلاقها تزداد عزًا وشرفًا في مراتبها، وتزكو أعمالها، وتسعد في حياتها، ومن هذه الأخلاق الجميلة، والسمات الجليلة النبيلة، خلق التواضع، وجماعه ترك الترأس، وإظهار الخمول، وكراهية التعظيم، والزيادة في الإكرام، وتجنب المباهاة والمفاخرة بالجاه والمال والحسب، والحذر من الكبر والفخر والعُجب، وقبول الحق ممن جاء به، ولين الجانب، وكل خلق حسن فالتواضع مفتاحه لكل حسن.
والأخلاق العالية، والآداب السامية من سمات شرعيتنا الإسلامية، وجمال تشريعاتها الحياتية، وتفاوت الناس في الأخلاق كتفاوتهم في الأرزاق، بيد أنه كما تطلب رزقك، اطلب جمال خلقك، وكما تبحث المزيد من الرزق، فابحث المزيد من الخلق.
التواضع عنوان الفلاح، ومفتاح القلوب، وباب المحبة، وسعادة الدارين.
التواضع ملاك القلوب، وصيد الأفئدة، ومغفرة الذنوب، ما تواضع عبد لله إلا أعزه ورفعه، ومكنه ونفعه، المتواضع يصل إلى القلوب، ويخفي العيوب.
كم جاهل متواضع
*** ستر التواضع جهله
التواضع يكون للحق سبحانه بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، تواضع للكبير المتعال بالاستجابة والامتثال، وتواضع للخلق بين الخلق برحمتهم، والقرب منهم، ودعوتهم، والشفقة عليهم بالابتسامة والبشاشة، والعفو والمصافحة، والصفح والمناصحة، تواضع على الاجتماع، والنفع والانتفاع، تواضع لهم بتعليم جاهلهم، وتذكير الناسي منهم، وتصويب المخطئ، وتعديل خطئهم، لا تر نفسك فوقهم، ولا أعلى منهم مهما بلغت منزلة ومرتبة، ومنصبًا ووجاهة، وحسبًا وتجارة، وعلمًا أو خطابة، ومهما فتح الله عليك بالمال أو العيال، فلا تفخر، ولا تتكبر، ولا تغير الحال.
تواضع لرب العرش علّك ترفع
***
فما خاب عبد للمهيمن يخضع
التواضع –أيها المسلمون-: راحة نفسية، وسعادة بدنية، وحياة قلبية، التواضع تغاضي عن الهفوة، وإغماض عن الجفوة، المتواضع هو المستفيد، وقد ارتاح منه العبيد، لا يرجو مخلوقًا، ولا ينتظر ثناء، ولا يطلب جزاء ولا شكورًا.
التواضع نشر لمكارم الأخلاق، وجميل الآداب، المتواضع عنوانه وشعاره، ودثاره وإشعاره حب الخير للغير، وكراهة السوء والشر للغير.
النفس المتواضعة محبوبة لله وللناس، محفوفة بسلامة السوء والوسواس، النفس المتواضعة تصل إلى القلوب، وتسكن البيوت، المتواضع كلما زاد تواضعه زاد قدره، وكلما خفض جناحه زاد حبه، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما تواضع أحد لله إلا رفعه)، رواه مسلم –عليه رحمة الله-.
إذا شئت أن تزداد قدرًا ورفعة
*** فلِن وتواضع واترك الكبر والعجبا
المتواضع يزيل القطيعة والعقوق، ويضمن للغير الحقوق، بعيدًا عن التفرق والفتوق.
المتواضع يجيب الدعوة، ويغفر الزلة، ويتغافل وما به غفلة.
التواضع سبب للتكافل الاجتماعي، ومبدأ الإيثار الروحاني، يخفي الضغائن والأحقاد، ويزيل الشحناء والبعاد، عنده تتلاشى الهفوات، وتضمحل الزلات، التواضع للكبير والصغير، والعاجز والفقير، التواضع للأقارب والجيران، والزملاء والإخوان.
أيها المسلمون: المتواضع صاحب إنصاف، وحسن ظن والتفاف، لا يزجر ولا يفجر، ولا يعبث ولا ينفر، لا يعتب ولا ينفر، يصلح ولا يفسد، يقرب ولا يبعد، المتواضع يقبل الحق ممن جاء به، كبير أو صغير، من ذكر أو أنثى أو فقير، ينظر للحق لا إلى القائل، وإنما القائل ناقل.
المتواضع يسلّم على الصغير والكبير، يسلم على من لقيه، عرفه أم لم يعرفه، لا يفرق بين الجنسيات، ولا تحيطه العصبيات، ولا تقيده الأعراف والنعرات، ولا تحده الجهات، يراعي المشاعر، ولا يجرح ويسلب الأكابر.
المتواضع ينزل الناس منازلهم، يرحم ضعيفهم، ويزور مريضهم، ويتبع جنائزهم، ويساعد محتاجهم، ويقف في طلباتهم، ومعهم في أزماتهم، يوقر كبيرهم، يرحم صغيرهم، يهش ويبش في وجوههم، ويبذل النصح لهم، لا يفرق بين الجنسيات، بعيدًا عن الحزبيات.
التواضع بوابة الحسنات، ونشر للرحمات، وألوان من الخيرات، فيدخل في التواضع درجات وحسنات، الرحمة والشفقة، الصدقة والدعوة، التعليم والمحبة، الدعاء والمسرة، تنفيس الهم والكُربة، ويسلم من الغيبة والمضرة، فتواضع ترتفع، وتواضع تنفع وتنتفع.
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر
*** على صفحات الماء وهو رفيعُ
ولاتكن كالدخان يعلو بنفسه
* ** إلى طبقات الجو وهو وضيع
المتواضع كلما زاد تواضعه زادت قيمته ورفعته.
التواضع من أبرز سمات المؤمنين، وأخلاق المتقين، قال رب العالمين لرسوله الأمين: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215]، والمؤمنون هم المتواضعون، وفيما بينهم يتراحمون، وأهل عزة وقوة على أعدائهم، وللكفار مبغضون، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]، قال ابن كثير -رحمه الله-: وهذه الصفات المؤمنين الكُمّل، أن يكون أحدهم متواضعًا لأخيه ووليه، متعززًا على خصمه وعدوه، كما قال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، المتواضعون يعلمون أنهم بالتواضع يتزكون وينجون، قال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]، وبالتقوى يكرمون، وبها في الجنان يسكنون، لا بأحسابهم وأنسابهم يتفاخرون، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وأثنى الله على عباده في محكم كتابه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان: 63]، قال ابن القيم -رحمه الله-: أي سكينة ووقارًا متواضعين غير أشرين ولا مرحين ولا متكبرين. انتهى.
وامتنّ الله على خليله وصفيه لتواضعه وعدم غلظته: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
ولما كان للوالدين منزلة رفيعة، ودرجة عالية، وقد يتكبر الولد على أمه ووالده، خصهم بالتواضع، وخفض الجناح، والدعاء لهم في المساء والصباح، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24]، والدار الآخرة، والمنازل الفاخرة لأهل التواضع والمسكنة، قال سبحانه: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، وعلى المرء أن لا يحقر غيره مهما كانت حاله، ومهما كان حسبه، ومهما كانت منزلته، فكم إنسان يحقره الإنسان وهو عند الرحمن في الرضوان والجنان؟! فإياك ثم إياك ثم إياك الازدراء والتكبر، والترفع والتجبر، ودائمًا اقرأ وكرر: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعًا
***
فكم تحتها قوم همُ منك أرفع؟!
فإن كنت في عزٍ وحرزٍ ومنعة
***
فكم مات من قوم همُ منك أمنع؟!
وعن عياض بن حمار -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)، رواه مسلم -رحمه الله-، ورب مدفوع بالأبواب، محجوب بالحجاب، لا يأبه له، ولا يفتح له باب، لو أقسم على رب الأرباب لأبره الكريم الوهاب، ولهذا أهل الجنة أصحاب القلوب الرقيقة، والأعمال المستقيمة، والأفئدة الشفيقة، ففي المتفق عليه عن سيد الخليقة: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟)، قالوا: بلى. قال: (كل ضعيف متضعف، لو أقسم الله على الله لأبره)، ومن ترفع حق على الله أن يضعه، ومن تواضع حق على الله أن يرفعه، ولما كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لا تسبق، فجاء أعربي على قعود له، فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه، فقال صلى الله عليه وسلم: (حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه)، رواه البخاري -رحمه الله-.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المتواضعين، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد،.
من الأقوال السلفية، والحكم الجلية في التواضع وحسن الأخلاق السجية: تقول عائشة -رضي الله عنها-: إنكم لتُغفلون أفضل العبادة، التواضع. رواه وكيع.
وقال ابن معاذ -رضي الله عنه-: حبك الفقراء من أخلاق المرسلين، وإيثارك مجالستهم، من علامات الصالحين، وفرارك منهم، من علامات المنافقين.
وقال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: لا يبلغ عبد ذرى الإيمان حتى يكون التواضع أحب إليه من الشرف.
ولما سئل الفضيل بن عياض -رحمه الله- عن التواضع، قال: يخضع للحق، وينقاد له، ويقبله ممن قاله.
وقال يحيى بن الحكم -رحمه الله- لعبد الملك: أي الرجال أفضل؟. قال: من تواضع عن رفعة، وزهد على قدرة، وترك النصرة على قومه.
ولما تذاكر التواضع يونس وأيوب، قال لهما الحسن: وهل تدرون ما التواضع؟. قال: التواضع أن تخرج من منزلك فلا تلقى مسلمًا إلا رأيت له عليك فضلًا.
وقال يحيى بن أبي كثير -رحمه الله-: رأس التواضع ثلاث: أن ترضى بالدون من الشرف من شرف المجلس، وأن تبدأ من لقيته بالسلام، وأن تكره من المدحة والسمعة والرياء بالبر.
ولما تولى أبو هريرة الإمارة، كان يحمل حزمة الحطب على ظهره، ويقول: طرِّقوا للأمير. أي افتحوا له الطريق.
الكبر تبغضه الكرام وكل من
***
يبدي تواضعه يحب ويحمد
خير الدقيق من المناخل نازل
***
وأخسه وهي النُّخالة تصعد
والمتواضع مأمون من الحسد، فلا يحسده على تواضعه أحد، قال عروة بن الورد -رحمه الله-: التواضع أحد مصائد الشرف، وكل نعمة محسود عليها صاحبها إلا التواضع.
وقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع.
إذا امتلأت كف اللئيم من الغنى
***
تمايل إعجابًا وقال: أنا أنا
ولكن كريم الأصل كالغصن كلما
***
تحمل أثمارًا تواضع وانحنى
وأما فوائده وثماره، ونتائجه وآثاره: فالتواضع يرفع المرء قدرًا، ويعظم له خطرًا، ويزيده نبلًا.
والتواضع يؤدي إلى الخضوع للحق وقبوله، والانقياد له واستماعه.
التواضع عين العزة والرفعة، خلافًا لأهل الكبر والأشرة، الذين يظنون أن التواضع ذل ومسكنة، وعجزًا ومهانة، ويكفي المتواضع محبة الله له، ومحبة عباد الله له.
ومن فوائده: يزيل الشحناء والبغضاء، وينشر الود والصفاء، التواضع يكسب السلامة، ويورث الألفة، ويرفع الحقد، ويذهب الصدّ.
ومن ثماره وآثاره: المحبة والقناعة والراحة، يزيد الشريف شرفًا وفضلًا، ويرفع الوضيع قدرًا، يؤلّف القلوب، ويصلح العيوب.
والتواضع عنوان السعادة، وسبيل الريادة، المتواضعون آمنون، ولرسلهم مقتادون، والناس بهم يأتمون، ولهم يدعون، وعليهم يثنون، راحة البال، وصلاح الحال، وسعادة المآل في التواضع في جميع الأحوال.
وميزان التواضع وأثره، تلهج به الألسنة، والناس لا يحبون المتكبرين، ولو كان عنده وله الجاه والملايين، وإنما يحبون المتواضع ولو ضعفت حاله، وقلت دراهمه، ونأت به أوطانه.
إن التواضع من خصال المتقي
***
وبه التقي إلى المعالي يرتقي
خلاصة المطاف، وخاتمة الطواف في هذه الحلقة المتواضعة، في خلق التواضع وأهله، فضله وآثاره من الكتاب والسنة، وأقوال سلف الأمة، وللحديث تكملة في حلقة ثانية، في جمعة –بإذن الله- قادمة، وعناصرها القادمة: أقسام التواضع ودرجاته، وصوره وأنواعه، أسبابه وأبوابه، صوره المشرقة، ومواقفه المحدقة.
أيها المسلم الحبيب: أكثر من الصلاة والسلام على محمد بن عبد الله، يأتيك الفرج القريب.
إذا ما ضقت بالعيش الكئيب
***
فبادر بالصلاة على الحبيب
فما صلى الحزين عليه إلا
***
أتاه الله بالفرج القريب
والله أعلم.
الحلقة الأولى
التاريخ: الجمعة: 10/ شوال /1437 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أمر بالتواضع، وخفض الجناح لكل مؤمن راكع، وأشهد أن لا إله إلا الله، جعل التواضع من الخصال الجوامع، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سيد كل مؤمن متواضع، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الأخلاق واللوامع.
أما بعد،.
فأوصيكم ونفسي بتقوى الملك القدوس، فتقواه خير سبيل إلى عزة النفوس، وأجمل كساء ولبوس.
أيها المسلمون: الأمة بقيامها وأخلاقها تزداد عزًا وشرفًا في مراتبها، وتزكو أعمالها، وتسعد في حياتها، ومن هذه الأخلاق الجميلة، والسمات الجليلة النبيلة، خلق التواضع، وجماعه ترك الترأس، وإظهار الخمول، وكراهية التعظيم، والزيادة في الإكرام، وتجنب المباهاة والمفاخرة بالجاه والمال والحسب، والحذر من الكبر والفخر والعُجب، وقبول الحق ممن جاء به، ولين الجانب، وكل خلق حسن فالتواضع مفتاحه لكل حسن.
والأخلاق العالية، والآداب السامية من سمات شرعيتنا الإسلامية، وجمال تشريعاتها الحياتية، وتفاوت الناس في الأخلاق كتفاوتهم في الأرزاق، بيد أنه كما تطلب رزقك، اطلب جمال خلقك، وكما تبحث المزيد من الرزق، فابحث المزيد من الخلق.
التواضع عنوان الفلاح، ومفتاح القلوب، وباب المحبة، وسعادة الدارين.
التواضع ملاك القلوب، وصيد الأفئدة، ومغفرة الذنوب، ما تواضع عبد لله إلا أعزه ورفعه، ومكنه ونفعه، المتواضع يصل إلى القلوب، ويخفي العيوب.
كم جاهل متواضع
*** ستر التواضع جهله
التواضع يكون للحق سبحانه بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، تواضع للكبير المتعال بالاستجابة والامتثال، وتواضع للخلق بين الخلق برحمتهم، والقرب منهم، ودعوتهم، والشفقة عليهم بالابتسامة والبشاشة، والعفو والمصافحة، والصفح والمناصحة، تواضع على الاجتماع، والنفع والانتفاع، تواضع لهم بتعليم جاهلهم، وتذكير الناسي منهم، وتصويب المخطئ، وتعديل خطئهم، لا تر نفسك فوقهم، ولا أعلى منهم مهما بلغت منزلة ومرتبة، ومنصبًا ووجاهة، وحسبًا وتجارة، وعلمًا أو خطابة، ومهما فتح الله عليك بالمال أو العيال، فلا تفخر، ولا تتكبر، ولا تغير الحال.
تواضع لرب العرش علّك ترفع
***
فما خاب عبد للمهيمن يخضع
التواضع –أيها المسلمون-: راحة نفسية، وسعادة بدنية، وحياة قلبية، التواضع تغاضي عن الهفوة، وإغماض عن الجفوة، المتواضع هو المستفيد، وقد ارتاح منه العبيد، لا يرجو مخلوقًا، ولا ينتظر ثناء، ولا يطلب جزاء ولا شكورًا.
التواضع نشر لمكارم الأخلاق، وجميل الآداب، المتواضع عنوانه وشعاره، ودثاره وإشعاره حب الخير للغير، وكراهة السوء والشر للغير.
النفس المتواضعة محبوبة لله وللناس، محفوفة بسلامة السوء والوسواس، النفس المتواضعة تصل إلى القلوب، وتسكن البيوت، المتواضع كلما زاد تواضعه زاد قدره، وكلما خفض جناحه زاد حبه، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما تواضع أحد لله إلا رفعه)، رواه مسلم –عليه رحمة الله-.
إذا شئت أن تزداد قدرًا ورفعة
*** فلِن وتواضع واترك الكبر والعجبا
المتواضع يزيل القطيعة والعقوق، ويضمن للغير الحقوق، بعيدًا عن التفرق والفتوق.
المتواضع يجيب الدعوة، ويغفر الزلة، ويتغافل وما به غفلة.
التواضع سبب للتكافل الاجتماعي، ومبدأ الإيثار الروحاني، يخفي الضغائن والأحقاد، ويزيل الشحناء والبعاد، عنده تتلاشى الهفوات، وتضمحل الزلات، التواضع للكبير والصغير، والعاجز والفقير، التواضع للأقارب والجيران، والزملاء والإخوان.
أيها المسلمون: المتواضع صاحب إنصاف، وحسن ظن والتفاف، لا يزجر ولا يفجر، ولا يعبث ولا ينفر، لا يعتب ولا ينفر، يصلح ولا يفسد، يقرب ولا يبعد، المتواضع يقبل الحق ممن جاء به، كبير أو صغير، من ذكر أو أنثى أو فقير، ينظر للحق لا إلى القائل، وإنما القائل ناقل.
المتواضع يسلّم على الصغير والكبير، يسلم على من لقيه، عرفه أم لم يعرفه، لا يفرق بين الجنسيات، ولا تحيطه العصبيات، ولا تقيده الأعراف والنعرات، ولا تحده الجهات، يراعي المشاعر، ولا يجرح ويسلب الأكابر.
المتواضع ينزل الناس منازلهم، يرحم ضعيفهم، ويزور مريضهم، ويتبع جنائزهم، ويساعد محتاجهم، ويقف في طلباتهم، ومعهم في أزماتهم، يوقر كبيرهم، يرحم صغيرهم، يهش ويبش في وجوههم، ويبذل النصح لهم، لا يفرق بين الجنسيات، بعيدًا عن الحزبيات.
التواضع بوابة الحسنات، ونشر للرحمات، وألوان من الخيرات، فيدخل في التواضع درجات وحسنات، الرحمة والشفقة، الصدقة والدعوة، التعليم والمحبة، الدعاء والمسرة، تنفيس الهم والكُربة، ويسلم من الغيبة والمضرة، فتواضع ترتفع، وتواضع تنفع وتنتفع.
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر
*** على صفحات الماء وهو رفيعُ
ولاتكن كالدخان يعلو بنفسه
* ** إلى طبقات الجو وهو وضيع
المتواضع كلما زاد تواضعه زادت قيمته ورفعته.
التواضع من أبرز سمات المؤمنين، وأخلاق المتقين، قال رب العالمين لرسوله الأمين: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215]، والمؤمنون هم المتواضعون، وفيما بينهم يتراحمون، وأهل عزة وقوة على أعدائهم، وللكفار مبغضون، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]، قال ابن كثير -رحمه الله-: وهذه الصفات المؤمنين الكُمّل، أن يكون أحدهم متواضعًا لأخيه ووليه، متعززًا على خصمه وعدوه، كما قال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، المتواضعون يعلمون أنهم بالتواضع يتزكون وينجون، قال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]، وبالتقوى يكرمون، وبها في الجنان يسكنون، لا بأحسابهم وأنسابهم يتفاخرون، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وأثنى الله على عباده في محكم كتابه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان: 63]، قال ابن القيم -رحمه الله-: أي سكينة ووقارًا متواضعين غير أشرين ولا مرحين ولا متكبرين. انتهى.
وامتنّ الله على خليله وصفيه لتواضعه وعدم غلظته: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
ولما كان للوالدين منزلة رفيعة، ودرجة عالية، وقد يتكبر الولد على أمه ووالده، خصهم بالتواضع، وخفض الجناح، والدعاء لهم في المساء والصباح، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24]، والدار الآخرة، والمنازل الفاخرة لأهل التواضع والمسكنة، قال سبحانه: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، وعلى المرء أن لا يحقر غيره مهما كانت حاله، ومهما كان حسبه، ومهما كانت منزلته، فكم إنسان يحقره الإنسان وهو عند الرحمن في الرضوان والجنان؟! فإياك ثم إياك ثم إياك الازدراء والتكبر، والترفع والتجبر، ودائمًا اقرأ وكرر: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعًا
***
فكم تحتها قوم همُ منك أرفع؟!
فإن كنت في عزٍ وحرزٍ ومنعة
***
فكم مات من قوم همُ منك أمنع؟!
وعن عياض بن حمار -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)، رواه مسلم -رحمه الله-، ورب مدفوع بالأبواب، محجوب بالحجاب، لا يأبه له، ولا يفتح له باب، لو أقسم على رب الأرباب لأبره الكريم الوهاب، ولهذا أهل الجنة أصحاب القلوب الرقيقة، والأعمال المستقيمة، والأفئدة الشفيقة، ففي المتفق عليه عن سيد الخليقة: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟)، قالوا: بلى. قال: (كل ضعيف متضعف، لو أقسم الله على الله لأبره)، ومن ترفع حق على الله أن يضعه، ومن تواضع حق على الله أن يرفعه، ولما كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لا تسبق، فجاء أعربي على قعود له، فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه، فقال صلى الله عليه وسلم: (حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه)، رواه البخاري -رحمه الله-.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المتواضعين، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد،.
من الأقوال السلفية، والحكم الجلية في التواضع وحسن الأخلاق السجية: تقول عائشة -رضي الله عنها-: إنكم لتُغفلون أفضل العبادة، التواضع. رواه وكيع.
وقال ابن معاذ -رضي الله عنه-: حبك الفقراء من أخلاق المرسلين، وإيثارك مجالستهم، من علامات الصالحين، وفرارك منهم، من علامات المنافقين.
وقال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: لا يبلغ عبد ذرى الإيمان حتى يكون التواضع أحب إليه من الشرف.
ولما سئل الفضيل بن عياض -رحمه الله- عن التواضع، قال: يخضع للحق، وينقاد له، ويقبله ممن قاله.
وقال يحيى بن الحكم -رحمه الله- لعبد الملك: أي الرجال أفضل؟. قال: من تواضع عن رفعة، وزهد على قدرة، وترك النصرة على قومه.
ولما تذاكر التواضع يونس وأيوب، قال لهما الحسن: وهل تدرون ما التواضع؟. قال: التواضع أن تخرج من منزلك فلا تلقى مسلمًا إلا رأيت له عليك فضلًا.
وقال يحيى بن أبي كثير -رحمه الله-: رأس التواضع ثلاث: أن ترضى بالدون من الشرف من شرف المجلس، وأن تبدأ من لقيته بالسلام، وأن تكره من المدحة والسمعة والرياء بالبر.
ولما تولى أبو هريرة الإمارة، كان يحمل حزمة الحطب على ظهره، ويقول: طرِّقوا للأمير. أي افتحوا له الطريق.
الكبر تبغضه الكرام وكل من
***
يبدي تواضعه يحب ويحمد
خير الدقيق من المناخل نازل
***
وأخسه وهي النُّخالة تصعد
والمتواضع مأمون من الحسد، فلا يحسده على تواضعه أحد، قال عروة بن الورد -رحمه الله-: التواضع أحد مصائد الشرف، وكل نعمة محسود عليها صاحبها إلا التواضع.
وقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع.
إذا امتلأت كف اللئيم من الغنى
***
تمايل إعجابًا وقال: أنا أنا
ولكن كريم الأصل كالغصن كلما
***
تحمل أثمارًا تواضع وانحنى
وأما فوائده وثماره، ونتائجه وآثاره: فالتواضع يرفع المرء قدرًا، ويعظم له خطرًا، ويزيده نبلًا.
والتواضع يؤدي إلى الخضوع للحق وقبوله، والانقياد له واستماعه.
التواضع عين العزة والرفعة، خلافًا لأهل الكبر والأشرة، الذين يظنون أن التواضع ذل ومسكنة، وعجزًا ومهانة، ويكفي المتواضع محبة الله له، ومحبة عباد الله له.
ومن فوائده: يزيل الشحناء والبغضاء، وينشر الود والصفاء، التواضع يكسب السلامة، ويورث الألفة، ويرفع الحقد، ويذهب الصدّ.
ومن ثماره وآثاره: المحبة والقناعة والراحة، يزيد الشريف شرفًا وفضلًا، ويرفع الوضيع قدرًا، يؤلّف القلوب، ويصلح العيوب.
والتواضع عنوان السعادة، وسبيل الريادة، المتواضعون آمنون، ولرسلهم مقتادون، والناس بهم يأتمون، ولهم يدعون، وعليهم يثنون، راحة البال، وصلاح الحال، وسعادة المآل في التواضع في جميع الأحوال.
وميزان التواضع وأثره، تلهج به الألسنة، والناس لا يحبون المتكبرين، ولو كان عنده وله الجاه والملايين، وإنما يحبون المتواضع ولو ضعفت حاله، وقلت دراهمه، ونأت به أوطانه.
إن التواضع من خصال المتقي
***
وبه التقي إلى المعالي يرتقي
خلاصة المطاف، وخاتمة الطواف في هذه الحلقة المتواضعة، في خلق التواضع وأهله، فضله وآثاره من الكتاب والسنة، وأقوال سلف الأمة، وللحديث تكملة في حلقة ثانية، في جمعة –بإذن الله- قادمة، وعناصرها القادمة: أقسام التواضع ودرجاته، وصوره وأنواعه، أسبابه وأبوابه، صوره المشرقة، ومواقفه المحدقة.
أيها المسلم الحبيب: أكثر من الصلاة والسلام على محمد بن عبد الله، يأتيك الفرج القريب.
إذا ما ضقت بالعيش الكئيب
***
فبادر بالصلاة على الحبيب
فما صلى الحزين عليه إلا
***
أتاه الله بالفرج القريب
والله أعلم.
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق