الله نور السماوات والأرض- من كلام ابن الجوزي

محمد بن عبدالله التميمي
1443/01/04 - 2021/08/12 23:00PM
  الحمد لله نور السماوات والأرض الذي بنعمته تتم الصالحات، وأصلي وأسلم على خير البشرية الذي أنار الله به قلوب عباده؛ فساروا على نور من الله، عليهم رضوان الله، أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فَلِلَّهِ دَرُّ أَقوامٍ عَلِمُوا قُرْبَ الرحيل فهيئوا آلَة السّفر، وهونوا بالدنيا فقنعوا مِنْهَا مِمَّا حضر، واستوثقوا بقفل التَّقْوَى من أَذَى النُّطْق وَالنَّظَر. عباد الله.. هذا مثلٌ ضربه الله الْمولى الْبَصِير السَّمِيع، لقلب العَبْد الْمُؤمن الْمُطِيع، وَمَا أودعهُ من الْإِيمَان، والمعرفةِ فِي الْقُرْآن، من نور الْملك الرَّحْمَن، فَقَالَ سبحانه: {الله نور السَّمَاوَات وَالْأَرْض} أَي: بنوره جلّ جَلَاله يَهْتَدِي من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض. ثمَّ قَالَ تبَارك وَتَعَالَى {مثل نوره} يَعْنِي: النُّور الَّذِي جعل فِي قلب الْمُؤمن وَهَذَا قَول جُمْهُور الْمُفَسّرين {كمشكاة} يَعْنِي: قلب الْمُؤمن، والمشكاة هِيَ الكُوَّة غير نَافِذَة، وَلَا يُقَال للزجاجة قنديل حَتَّى يكون فِيهَا مِصْبَاح وَهُوَ السراج، فَإِذا كَانَ الْمِصْبَاح فِي زجاجة صَافِيَة فِي كوَّة غير نَافِذَة انْضَمَّ النُّور وَاجْتمعَ وَلم يجد لَهُ منفذا فَتكون الكُوَّة أَكثرَ نورا مِمَّا لَو كَانَت نَافِذَة، وَهَذِه مُبَالغَة فِي وصف قلب الْمُؤمن، ثمَّ إِن الله تَعَالَى خلق الْخلق ضُروبًا مُخْتَلفَة، فَإِذا كَانَت أنوار الْمعرفَة وَالْإِيمَان فِي قلب العَبْد، اسْتدلَّ وَنظر بِنور الله تَعَالَى، وأخذته الفكرة فِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض، وَفِي عَظمَة الله تبَارك وَتَعَالَى، فَإِذا كَانَ العَبْد كَذَلِك تمكن من قلبه الْخَوْف، فَعِنْدَ ذَلِك يتَّبع الْقُرْآن وَالْأَحْكَام، ويتجنب الْفَوَاحِشَ والآثام، من كَثْرَة النُّور الَّذِي جَعله فِي قلبه الْملكُ العلام. فَهَذَا الصِّنْف الَّذِي أثنى عَلَيْهِ الله فِي كِتَابه الْعَزِيز، فَقَالَ الله تَعَالَى: {إِن فِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار لآيَات لأولي الْأَلْبَاب} ثمَّ نعتهم الْمولى بالتذكير والتفكير فَقَالَ تَعَالَى: {الَّذين يذكرُونَ الله قيَاما وقعودا وعَلى جنُوبهم ويتفكرون فِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض} فَلَمَّا جعل الله تبَارك وَتَعَالَى نور الْإِيمَان فِي قُلُوبهم أيقنوا أَن الله عز وَجل خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَاللَّيْل وَالنَّهَار وَالشَّمْس وَالْقَمَر، وَعَلمُوا بِنور الْهدى: إِنَّمَا خلق الله ذَلِك ليطاع وَلَا يعْصى، وَعَلمُوا أَن الْجنَّة جَزَاء لمن أطاعه وَالنَّار جَزَاء لمن عَصَاهُ. فاستَعمَلوا قُلُوبهم بالفكرة، وجالت أَبْصَارهم فِي مصنوعات الله بالعبرة، فَلَا يقدر وَاحِد مِنْهُم أَن يُبَاشر شَيْئا من الْمُنْكَرَات وَلَا يضيع شَيْئا من الطَّاعَات. ثمَّ قَالَ تَعَالَى {فِيهَا مِصْبَاح} أَي: وَلَو لم يسرج بِهِ من شدَّة صفائه {الْمِصْبَاح فِي زجاجة الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَب دري يُوقد من شَجَرَة مباركة زيتونة لَا شرقية وَلَا غربية} فَشبه الله تَعَالَى الْقنْدِيل فِي شدَّة بياضه وتلألُئِهِ بكوكبٍ دُرِّيٍّ يُوقَدُ ذَلِك الْمِصْبَاح بِزَيْت من شَجَرَة {لَا شرقية} لَا بارزة للشمس كلَّ النَّهَار، فتحرقها الشَّمْس بحرها {وَلَا غربية} أَي: وَلَا مستترة بالظل، فيؤذيها الظل بِبرْدِهِ كل النَّهَار، وَلكنهَا شرقية غربية تصيبها الشَّمْس بعض النَّهَار وَإِذا كَانَت الشَّجَرَة كَذَلِك فَهُوَ أَنْضَرُ لَهَا وَأَجد لحملها وأنور لزيتها. ثمَّ قَالَ تَعَالَى: {يكَاد زيتها يضيء وَلَو لم تمسسه نَار} يَعْنِي: نور الْمِصْبَاح على نور الزجاجة وصفاء الزَّيْت، وَهَذَا مثل ضربه الْملك الْجَبَّار، لقلوب الْمُؤمنِينَ الْأَبْرَار، قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَمَن شرح الله صَدره لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نور من ربه} فنور الْهدى إِذا دخل الْقلب انْفَسَحَ وانشرح وزالت عَنهُ الْأَسْبَابُ الْمَانِعَةُ عَنهُ الضَّلَالَةَ وَالْمَعْصِيَة، فَعِنْدَ ذَلِك ذكر الْجَوَارِح بِالْأَعْمَالِ الْمُوجبَة لدار الْقَرار، والمنجية من سخط الْملك الْجَبَّار، ومدار ذَلِك كُله على الْقلب، وَالْقلبُ هُوَ سُلْطَان الْبدن ،فَإِذا صلَح صلَح جَمِيع الْجَسَد، وَإِذا فسَدَ فسَدَ جَمِيع الْجَسَد، وصلاحُه إِنَّمَا هُوَ بِنور الْإِيمَان، وبنظر الْملكِ الرَّحْمَنِ، وفسادُه إِنَّمَا هُوَ بظلمة الْعِصْيَان، ووسواس الْعَدو الشَّيْطَان. تمّ الْكَلَام، ثمَّ ابْتَدَأَ تَعَالَى فَقَالَ: {نور على نور} فَصَارَ الْمُؤمن فِي عصمَة الله تبَارك وَتَعَالَى وَحفظه لما دخل نور الْهدى فِي قلبه، فَهَذَا مثل ضربه الله الْعَزِيز الْحَكِيم، المنَّانِ المتفضلِ الْكَرِيم، لنَبيِّه الصَّادِق الْأمين، ولكتابه النُّورِ الْمُبين. اللَّهُمَّ اجْعَلْ في قلوبنا نُورًا، وفي أبصَارنا نُورًا، وفي أسماعنا نُورًا، وعَنْ أيماننا نُورًا، وعَنْ شمائلنا نُورًا، وفَوْقنا نُورًا، وتَحْتنا نُورًا، وأَمامنا نُورًا، وخَلْفنا نُورًا، واجْعَلْ لنا نُورًا. أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسول الله أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتدبروا كتاب الله، لعلكم تتذكرون وتفلحون وتنجحون، وفي خاتمة آية النور يقول الله سبحانه: {وَيضْرب الله الْأَمْثَال للنَّاس وَالله بِكُل شَيْء عليم} فَهُوَ تَعَالَى عَالم بِمَا كَانَ وَمَا يكون وَمَا لم يكن وَلَا يكون أَن لَو كَانَ كَيفَ كَانَ يكون. ثمَّ إِن الله تبَارك وَتَعَالَى أثنى على الْمُؤمنِينَ المحافظين على أَدَاء الصَّلَوَات، الذَّاكِرِينَ لله فِي الْمَسَاجِد فِي جَمِيع الآناء والأوقات، الْخَائِفِينَ من عُقُوبَة رب الْأَرْضين وَالسَّمَوَات، فَقَالَ رب الأرباب، فِي مُحكم الْكتاب: {بيُوت أذن الله أَن ترفع وَيذكر فِيهَا اسْمه يسبح لَهُ فِيهَا} أَي: يذكر فِيهَا جَمِيع مَا أنزل الْمولى من أَسْمَائِهِ الْحسنى، وَصِفَاته العلى، لَا يذكر فِيهَا زور وَلَا بهتان، وَلَا غيبَة وَلَا عصيان، وَلَا نميمة على اللِّسَان، وَإِنَّمَا جعلهَا الله تَعَالَى للسّنة وَالْقُرْآن، وَعبادَة الْملك الديَّان، لَا يذكر فِيهَا لَغْو وَلَا تأثيم، لِأَنَّهَا إِنَّمَا جعلت لأَدَاء فرض الْعَزِيز الْحَكِيم. فَهَذَا ثَنَاء من أسْرع الحاسبين، على عُمَّار الْمَسَاجِد الْمُؤمنِينَ. وَقد أثنى عَلَيْهِم الْملك الرَّحْمَن، فِي مُحكم الْقُرْآن، حَيْثُ أوجب لَهُم الْإِيمَان {إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد الله من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَأقَام الصَّلَاة وَآتى الزَّكَاة وَلم يخْش إِلَّا الله}، وَجَاء فِي الْخَبَر عَن سيد الْبشر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يَقُول الْجَبَّار تبَارك وَتَعَالَى أَيْن جيراني فَتَقول الْمَلَائِكَة مَوْلَانَا وَمن يَنْبَغِي أَن يكون جَارك فَيَقُول الله تبَارك وَتَعَالَى يَا ملائكتي أَيْن عمار الْمَسَاجِد فِي الدُّنْيَا) قَالَ الله تَعَالَى: {يخَافُونَ يَوْمًا تتقلب فِيهِ الْقُلُوب والأبصار} يُرِيد أَن الْقُلُوب يَوْم الْقِيَامَة تعرف أمره يَقِينا فتتقلب، وَمَا كَانَت عَلَيْهِ من الْكفْر وَالشَّكّ فِي الْحساب والبعث وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب وَالنَّعِيم وَالْعَذَاب، فترى الْأَبْصَارُ يَوْمئِذٍ مَا كَانَ عَنْهَا مغطى {لقد كنت فِي غَفلَة من هَذَا فكشفنا عَنْك غطاءك فبصرك الْيَوْم حَدِيد}. اللهم اجعلنا تبارك اسمك وتعالى جدك: نسأل ربنا أن تجعلنا عُمَّارا لمساجدك، ساعين لمرضاتك، شاكرين لنعمائك، يا ذا الجلال والإكرام. صلوا عباد الله على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، كما أمركم ربكم في كتابه المبين بعد إخباره عن غَنائه بصلاة الله عليه وصلاةِ الملائكة المقربين فقال جلَّ ذكره: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. * هذه الخطبة مستلَّة من كتاب بستان الواعظين لابن الجوزي رحمه الله (269- 274)
المرفقات

1628809253_الله نور السماوات والأرض- من كلام ابن الجوزي.docx

1628809254_الله نور السماوات والأرض- من كلام ابن الجوزي.pdf

المشاهدات 1660 | التعليقات 0